قال مسلمة بن قاسم في (تاريخه) ـ على ما نقل عنه(1) ـ: «وسبب تأليف البخاري الكتاب الصحيح: أن علي بن المديني ألف كتاب العلل، وكان ضنيناً به لا يخرجه الى أحد، ولا يحدّث به، لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته، فغاب علي ابن المديني في بعض حوائجه، فأتى البخاري الى بعض بنيه، فبذل له مائة دينار على أن يخرج له كتاب العلل، ليراه ويكون عنده ثلاثة أيام، ففتنه المال وأخذ منه ماثة دينار، ثمّ تلطف مع اُمّه فأخرجت الكتاب، فدفعه اليه وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يحبسه عنه أكثر من الأمد الذي ذكر، فاُخذ البخاري الكتاب ـ وكان مائة جزء ـ فدفعه الى مائة من الورّاقين، وأعطى كلّ رجل منهم ديناراً على نسخه ومقابلته في يوم وليلة، فكتبوا له الديوان في يوم وليلة وقوبل، ثم صرفه الى ولد علي بن المديني وقال: انّما نظرت الى شيء فيه.
وانصرف علي بن المديني فلم يعلم بالخبر، ثمّ ذهب البخاري فعكف على الكتاب شهوراً واستحفظه، وكان كثير الملازمة لابن المديني، وكان ابن المديني يعقد يوماً لأصحاب الحديث، يتكلّم في علله وطرقه، فلمّا أتاه البخاري بعد مدة قال له: ما حبسك عنّا؟ قال: شغلٌ عرض لي، ثمّ جعل عليٌّ يلقي الأحاديث ويسألهم عن عللها، فيبادر البخاري بالجواب بنصّ كلام عليِّ في كتابه، فعجب لذلك ثم قال له: من أين علمت هذا، هذا قول منصوص، والله ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العلم غيري.
فرجع الى منزله كئيباً حزيناً، وعلم أنّ البخاري خدع أهله بالمال حتى أبا حواله الكتاب، ولم يزل مغموماً بذلك، ولم يلبث يسيراً حتى مات، واستغنى البخاري عن مجالسة علي والتفقّه عنده بذلك الكتاب، وخرج الى خراسان، وتفقّه بالكتاب، ووضع الكتاب الصحيح والتواريخ، فعظم شأنه وعلا ذكره، وهو أول من وضع في الاسلام كتاب الصحيح، فصار الناس له تبعاً، وبكتابه يقتدي العلماء في تأليف الصحيح».
يفيد هذا النص أنّ البخاري كان السبب في موت شيخه علي بن المديني، لتصرّفه في كتاب العلل الذي وضعه شيخه، بعد أخذه من أهله بالحيلة والخديعة والمكر والكذب...