بعد ستة أشهر وجدت نفسى في (البصرة) بالعراق وهو بلد عشائري وأهله مختلط من السنة والشيعة، الجناحين الإسلاميين، كما أنهم مختلطون من العرب و الفرس، وفيهم قلة من المسيحيين.
ولأول مرة في حياتي ألتقي بالشيعة والفرس، ولا بأس أن أذكر شيئا عن الشيعة والسنة، فالشيعة ينتسبون إلى علي بن أبي طالب وهو صهر رسولهم على إبنتة فاطمة، وكان في نفس الوقت ابن عمه. وتقول الشيعة أن رسولهم محمد عين عليا خليفة من بعده، فقال أن عليا وأولاده الأحد عشر خليفة بعد خليفة. وأني أظن أن الحق مع الشيعة في (خلافة علي والحسن والحسين) لأن الثابت من التاريخ الإسلامي حسب مطالعاتي أن عليا كان يمتاز بصفات نفسية عالية تؤهلة للخلافة، ولا استبعد أن يكون الرسول (محمد) قال أن الحسن والحسين إمامان، وهذا لا ينكره أهل السنة أيضا، لكني أشك في نفس الوقت بأن أولاد الحسين التسعة أيضا عينهم الرسول محمد خلفاء له إذ كيف يعلم المستقبل؟ لأنه قد مات والحسين طفل، فكيف يعلم بأنه سيكون للحسين أولاد ويكونون متسلسلين إلى تسعة؟ نعم لو كان محمد رسولا حقا لكان من الممكن أن يعلم كل ذلك بإرشاد من الله كما كان المسيح يخبر بالمستقبل، لكن نبوة محمد مشكوكة فيها عندنا نحن المسيحيون.
إن المسلمين يقولون بأن القرآن دليل نبوة محمد لكني قرأت القرآن ولم أجد فيه دليلا. أنه لاشك كتاب رفيع بل هو أرفع مستوى من التوراة والانجيل، ففيه دساتير وأنظمة وأخلاقيات وغير هذه، لكن هل هذا وحده كفيل بالدلالة على صدق محمد؟
إنني متحير في أمر محمد أشد الحيرة، أن رجلا بدويا لا يقرأ ولا يكتب كيف يمكنه أن يأتي بهذا الكتاب الرفيع، وشخصا ذا خلق وذكاء لم يعهد مثلهما في أي عربي دارس فكيف بالعربي البدوي الذي لم يقرأ ولم يكتب؟ هذا من جانب، ومن جانب آخر فهل يكفي مثل ذلك للتدليل على نبوته؟
لقد كنت دائم التطلع لكى أتعرف على هذه الحقيقة وطرحت ذات مرة هذا الموضوع على أحد القساوسة في لندن، لكنه لم يأتي بجواب مقنع وإنما تكلم عن تعصب وعناد، كما أني مرات فتحت هذا البحث مع الشيخ احمد في تركيا فلم يأتي بجواب مقنع لي، لكني من الحق أن أقول أني لم أقدر أن اتكلم مع الشيخ بصراحة خوفا من أن ينكشف أمرى أو يشك بي.
وعلى أي حال فأنني أقدر محمدا تقديرا كبيرا، أنه لا شك كان من طراز أنبياء الله الذين نقرأ عنهم في الكتب، لكني غير مقتنع بنبوته إلى الآن، ولو فرضنا أنه لم يكن نبيا، لكن من المستحيل أن يعتقد الإنسان الذي يحترم ضميره أنه مثل سائر العباقرة، أنه لا شك فوق العباقرة، وأرفع من الأذكياء. أما أهل السنة فأنهم يقولون بأن المسلمين رؤوا - بعد الرسول - أن أبا بكر ثم عمر ثم عثمان أصلح للخلافة من علي، ولذلك تركو أمر الرسول (محمد)، واتخذوا هؤلاء خلفاء للرسول.
إن مثل هذا النزاع موجود في كل دين، وموجود في المسيحية بصورة خاصة لكني لا أعلم ما هو المبرر لبقاء هذا النزاع، فقد مات عمر و علي، وعلى المسلمين أن يكونوا عقلاء وأن يفكروا في هذا اليوم لا في الماضي السحيق
ذات مرة ذكرت لبعض رؤسائي في الوزارة اختلاف السنة والشيعة وقلت لهم أنهم لو كانو يفهمون الحياة لتركوا النزاع ووحدوا كلمتهم. فنهرني الرئيس قائلا الواجب عليك أن تزيد الشقة لا أن تحاول جمع كلمة المسلمين. وبهذه المناسبة أن السكرتير قال لي في إحدى الجلسات التي اجتمعت معه قبل سفرى إلى العراق: أعلم يا همفر أن هناك نزاعات طبيعية بين البشر منذ أن خلق الله (هابيل وقابيل) وستبقى هذه النزاعات إلى أن يعود المسيح:
فمن النزاعات لونية
ومن النزاعات قبلية
ومن النزاعات إقليمية
ومن النزاعات قومية
ومن النزاعات دينية
ومهمتك في هذه السفرة أن تتعرف على هذه النزاعات بين المسلمين وتعرف البركان المستعد للإنفجار منها، وتزود الوزارة بالمعلومات الدقيقة حول ذلك، وإن تمكنت من تفجير النزاع كنت في قمة الخدمة لبريطانيا العظمى. فإننا نحن البريطانيون لا يمكننا العيش في الرفاة إلا بإلقاء الفتن والنزاع في كافة المستعمرات، كما أننا لا يمكننا تحطيم السلطان العثماني إلا بإلقاء الفتن بين رعاياها، وإلا كيف تتمكن أمة قليلة العدد من أن تسيطر على أمة كبيرة العدد؟ فاجتهد بكل قواك كى تجد الثغرة و أن تدخل من الثغرة، وليكن في علمك أن سلطة الترك وسلطة الفرس قد ضعفتا فليس عليك الا أن تثير الشعوب على حكامها كما ثارت الثوار في كل التاريخ ضد الحكام، فاذا انشقت كلمتهم و تفرقت قواهم، ضمنا استعمارهم من أسهل طريق.
لما وصلت إلى البصرة ذهبت لتوي إلى أحد المساجد وكان المسجد لعالم من أهل السنة عربي الأصل واسمه (أحمد الطائي) فتعرفت عليه وتلاطفت معه، لكن الرجل شك بي من أول لحظة وأخذ يحقق عن أصلي ونسبي وسائر خصوصياتي، وأظن أن لوني ولهجتي هما قادا الشيخ إلى الشك لكني تمكنت من الخروج من المازق بأني من أهالي (أغدير) في تركيا، وأني تلميذ الشيخ احمد في الاستانة، وكنت نجارا في محل خالد …وإلى ما هنالك من المعلومات التي حصلتها أثناء إقامتي في تركيا. وانتبهت أن الشيخ أشار بعينه إلى أحد الحاضرين مستفسرا منه هل أني أتكلم التركية صحيح ام لا؟ وأشار المسؤول عنه بالإيجاب، وفرحت إذ تمكنت من جلب قلب الشيخ، فقد علمت بعد أيام أن الشيخ كان ينظر لي بنظرة الريبة، ويظنني جاسوسا لتركيا، حيث تبين لي فيما بعد أن للشيخ عمر خلاف مع الوالى المعين من قبل السلطات، وبينهما تبادل إتهامات وسوء الظن، وعلى كل لم أجد بدا من أن أنسحب عن مسجد الشيخ عمر إلى خان كان محل الغرباء والمسافرين، وقد استاجرت غرفة في الخان، وكان صاحب الخان رجل أحمق يسلب راحتي كل صباح، فقد كان يأتي كل صباح إلى باب الغرفة ويطرقه بعنف لأقوم لصلاة الصبح، وكنت أنا مجبورا لمسايرته فكنت أقوم وأصلي صلاة الصبح، ثم يأمرني بقراءة القرآن إلى طلوع الشمس، ولما قلت له أن قراءة القرآن ليست واجبة فلماذا هذا الأصرار قال: بأن من ينام في هذا الوقت يجلب الفقر والنكبة للخان ولأهل الخان. وحيث لم يكن لى بد من إجابته إذ هددني بالطرد إن لم أعمل بما يقول، صرت مجبورا على أن أصلي أول الأذان ثم اتلوا القرآن أكثر من ساعة كل يوم. ولم تكن المشكلة لتنتهى إلى هذا الحد فلقد جاءني صاحب الخان و اسمه (مرشد افندم) ذات يوم وقال: أنك منذ أن استأجرت مني الغرفة ابتليت أنا بالمشاكل ولا أراها إلا من طالعك، وقد فكرت في أن سبب ذلك أنك أعزب والعزب شؤم، فإما أن تتزوج وإما أن تخرج من الخان. قلت أني لا أملك المال لأتزوج (وخشيت أن أقول له أني عنين) حيث لم أكن استبعد أنه سيرغب برؤية عورتى وهل أنا صادق أم لا؟ إذا اعتذرت بهذا العذر فإن مرشد افندم من هذا الطراز. قال لي الافندم: يا ضعيف الإيمان ألم تقرأ قول الله تعإلى (ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله)؟ فوقعت في حيرة من أمري ماذا أفعل؟ وبماذا أجيبه؟ قلت له حسنا كيف أتزوج من غير مال؟ وهل أنت مستعد أن تقرضني المال الكافي أو أن تجد لى زوجة بلا مهر؟
فكر الافندم قليلا ثم رفع رأسه فقال: أني لا أفهم كلامك وأخيرك بين أن تتزوج إلى أول شهر رجب المرجب أو أن تخرج من الخان. وكان لم يبق إلى أول شهر رجب إلا خمسة وعشرون يوما حيث كنا في الخامس من شهر جمادى الثانية. وبالمناسبة فإن أسماء الأشهر الإسلامية بهذا التسلسل (محرم، صفر، ربيع الأول، ربيع الثاني، جمادى الأول، جمادى الثاني، رجب، شعبان، رمضان، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة)، وأشهرهم حسب رؤية الهلال ولا تزيد أيامها عن ثلاثين يوما، ولا تنقص عن (29) يوما. وأخيرا رضخت لأمر الافندم ووجدت مكانا عند نجار تعاقدت معه أن أعمل عنده بأجرة زهيدة ويكون أكلي ونومي أيضا عنده، وقبل أن ينتهي الشهر خرجت من الخان لألقي رحلي في دكان النجار وكان رجلا شهما شريفا عاملني كأحد أولاده وكان اسمه (عبد الرضا) وكان شيعيا فارسيا من أهالي (خراسان)، وقد انتهزت فرصة وجودي عنده أن أتعلم منة اللغة الفارسية، وكانت الشيعة العجم يجتمعون عنده كل عصر ويتكلمون بكل اقسام الكلام من سياسة إلى إقتصاد، وكانوا يتهجمون على حكومتهم كثيرا كما يتهجمون على الخليفة في الاستانة، أما إذا جاء زبون لا يعرفونه انقطعوا عن الكلام وأخذوا يتكلمون في قضاياهم الشخصية، وأني لا أعلم كيف وثقوا بي كل هذه الثقة، لكني علمت أخيرا أنهم ظنوا أني من أهالي (أذربيجان) حيث علموا أني أعرف اللغة التركية، وساعدهم على هذا الظن لوني المائل إلى البياض، اللون الغالب على أهالي (أذربيجان)، وهنا على هذا الحال تعرفت على شاب كان يتردد على هذا الدكان يعرف اللغات الثلاث التركية والفارسية والعربية، وكان في زى طلبة العلوم الدينية ويسمى (محمد عبد الوهاب)، وكان شابا طموحا للغاية عصبي المزاج، ناقما على الحكومة العثمانية. وكان سبب صداقته مع صاحب المحل (عبد الرضا) هو أن الاثنين كانا ناقمين على الخليفة، وأني لا أعلم من أين كان هذا الشاب يعرف اللغة الفارسية مع أنه كان من أهل السنة وكيف صادق مع (عبد الرضا) الشيعي؟ إن كل الأمرين لم يكونا غريبين، ففي البصرة يلتقى السني بالشيعي كأنهما أخوة كما يعرف الكثير من القاطنين في البصرة اللغتين الفارسية والعربية، وأن كثيرا منهم يعرف أيضا اللغة التركية