|
شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 429
|
الإنتساب : Oct 2006
|
المشاركات : 12,843
|
بمعدل : 1.91 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
Dr.Zahra
المنتدى :
المنتدى الثقافي
بتاريخ : 08-11-2007 الساعة : 09:30 PM
الزرع، ثم انتظر ربه المتعالي ورجاه أن يثبّته على الحق، ويجعل عاقبة أمره إلى خير، كان هذا
الرجاء مستحسناً. كما يقول الحق المتعالي: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ}(البقرة/ 218 ). فصل في سبب تعادل الخوف
والرجاء ورد في نهاية هذا الحديث الشريف - الحديث الرابع عشر - أنه لا بد من تعادل
الخوف والرجاء وعدم تفوق أحدهما على الآخر، كما ورد هذا المضمون في مرسلة ابن
أبي عمير عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً. إن الإنسان عندما يدرك منتهى قصوره في
النهوض بالعبودية، ويرى صعوبة وضيق طريق الآخرة، يتولد فيه الخوف بأعلى درجة،
وعندما يجد ذنوبه ويفكر في أناس كانت عاقبة أمرهم الموت من دون إيمان وعمل صالح،
رغم حسن أحوالهم في بدء الأمر ولكنهم انتهوا إلى سوء العاقبة، يشتدّ فيه الخوف. ففي
الحديث الشريف في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: قال:"المُؤْمِنُ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ ذَنْبِ
قَدْ مَضَى لاَ يَدْرِي مَا صَنَعَ اللَّهُ فِيهِ وَعُمْرٍ قَدْ بَقِيَ لاَ يَدْرِي مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ مِنَ المَهَالِكِ
فَهُوَ لاَ يُصْبحُ إلاّ خَائِفاً وَلاَ يُصْلِحُهُ إلاّ الخَوْفُ"(أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان
والكفر، باب الخوف والرجاء، ح 12). ونقل الكافي في حديث آخر عن الإمام - عليه
السلام - خطبة عن رسول الله - صلّى الله عليه وآله وسلم - بهذا المضمون. وعلى أي حال
يرى الإنسان نفسه في منتهى النقص والتقصير، ويرى الحق في منتهى العظمة والجلال،
وسعة الرحمة والعطاء، ويعيش العبد بين هاتين [266] النظرتين دائماً في حال متوازية بين
الخوف والرجاء. وحيث أن الأسماء الجلالية والجمالية تتجليان في قلب السالك متعادلة لا
يترجح كل من الخوف والرجاء على الآخر. وقال ( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف
والرجاء ص355) بعض أن الخوف في بعض الأحيان أنفع للإنسان مثل أيام الصحة
والعافية، حتى يجهد الإنسان نفسه في كسب الكمال والعمل الصالح. وفي بعض الأحيان
الرجاء أفضل مثل أيام ظهور علامات الموت، حتى يلاقي الإنسان الحق المتعالي مع حال
مفضلة أكثر عنده سبحانه -. ولكن هذا الكلام لا يتطابق مع الكلمات السابقة
والأحاديث المذكورة، لأن الرجاء المحبوب يدفع الإنسان أيضاً نحو العمل واكتساب الآخرة،
والخوف من الحق سبحانه محبوب لديه - عز وجل - ولا يتنافى مع الرجاء المؤكد. وقال
بعضهم ( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص 355) أن الخوف لا يعتبر من
الفضائل النفسية والكمالات العقلية في عالم الآخرة وإنما يعدّ من الأمور النافعة في دار الدنيا
التي هي دار العمل، حيث يحرص الإنسان على فعل العبادات وترك المعاصي وينتهي دوره
بعد الخروج من هذه الدنيا. في حين أن الرجاء لا ينقطع ويستمر حتى في عالم الآخرة. لأن
العبد كلما نال رحمة الله أكثر، ازداد طعمه نحو فضل الحق المتعالي أكثر، لأن خزائن رحمة
الحق الجليل لا تتناهى. فالخوف ينقطع بالموت ويبقى الرجاء حتى إلى ما بعد الموت. يقول
( بحار الأنوار، المجلد 70، باب الخوف والرجاء ص 355 ) المحدث المحقق المجلسي - رحمه
الله تعالى-"والحق أن العبد ما دام في دار التكليف لا بد له من الخوف والرجاء وبعد
مشاهدة أمور الآخرة يغلب عليه أحدهما لا محالة بحسب ما يشاهده من أحوالها". يقول
الكاتب: إن ما قيل من غلبة الخوف والرجاء في عالم الآخرة، لا يتلاءم مع ما ذكر من
معنى الرجاء. وعلى فرض صحة الكلام المذكور فهو صحيح بالنسبة إلى المتوسطين حيث
يكون خوفهم ورجاؤهم عائدين إلى الثواب والعقاب. [267] وأما حال الخواصّ
والأولياء فيختلف المر عما ذكروا، لأن الخوف والرجاء الناجمان عن مشاهدة عظمة وجلال
وتجلّي أسماء اللطف والجمال، والحاصلان في القلب لا يزولان بمشاهدة أمور الآخرة. ولا
يترجح أحدهما على الآخر، بل إن آثار الجلال والعظمة وتجليات الجمال واللطف في عالم
الآخرة أكثر، فيصبح الخوف الحاصل من عظمة الحق من اللذائذ الروحانية، ولا يتنافى هذا
مع الآية الكريمة {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}(يونس/62). كما
يتبين ذلك بالتمعن في الآية المباركة. وما نقل - قبل أسطر - من أن الخوف ليس بفضيلة
نفسية، ليس هو الخوف من الجلال والعظمة، لأن مثل هذا الخوف يكون كمالاً ومن
صفات الكاملين والمكملين. كما أن خوف غيرهم يكون أكثر. والحمد لله على جماله
وجلاله والصَلاة على محمّد وآله. [269] الحَديـث الخَامِــس عشَــر
"البــــلاء" [270] بِسَنَدِنَا المُتَّصِلِ إلى سُلْطانِ المُحَدِّثينَ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْنيِّ
- رضوان الله عليه - عَنْ عَليِّ بْنِ إبْراهيمَ، عَنْ أبيهِ، عَنْ ابْنِ مَحْبُوب، عَنْ سَماعَةَ، عَنْ
أبي عَبْدِ اللهِ عليه السَّلام قالَ: إنَّ في كِتاب عَليٍّ عليه السَّلام:"إِنَّ أَشَدّ النّاسِ بَلاءً
النَّبِيُّونَ ثُمَّ الوَصِيُّونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ وَإِنَّما يُبْتَلَى المُؤْمِنُ عَلى قَدرِ أَعْمالِهِ الحَسَنَةِ، فَمَنْ
صَحَّ دِينُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، اشْتَدَّ بَلاؤُه وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلِ الدُّنْيا ثَواباً لِمُؤْمِنٍ وَلا
عُقُوبَةً لِكافِرٍ وَمَنْ سَخُفَ دينُهُ وَضَعُفَ عَقْلُهُ، قَلَّ بَلاؤهُ وَإِنَّ البَلاء أسْرَعُ إِلَى المُؤْمِنِ
التَّقِيِّ مِنَ الْمَطَرِ إِلى قَرارِ الأْرْضِ"( أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر،
باب شدّة ابتلاء المؤمن، ح29 ) . [271] الشرح: قال بعض بأن المقصود من الناس في
أمثال هذا الحديث الشريف، الكاملون من قبيل الأنبياء والأولياء والأوصياء، فإنهم الناس
حقاً. وأمّا عامة الناس فهم النسناس كما ورد في الأحاديث. ولكن لا مرجح لهذا الكلام،
بل المناسب في المقام إرادة عموم البشر وهو واضح تماماً. ويكون - هذا المعنى - مستفاداً
من الأحاديث الموجودة في هذا الباب من كتاب الكافي. وإذا عثرنا في حديث على
كلمة"الناس"وكان المقصود منها الكاملين، فليس ذلك مبرراً لإرادة هذا المعنى من هذه
اللفظة حيثما وردت. إن"البـَلاءَ"هو الاختبار و الامتحان، في الحسن و القبح. كما
صرح بذلك أهل اللغة. يقول الجوهري في الصحاح ( و البلاء الاختبار يكون بالخير
والشر، يقال أبلاه الله بلاءاً حسناً وابتلاه معروفاً ) ويقول الحق المَتعال {بَلاَءً
حَسَنًا}(الأنفال/ 17) وعلى أي حال إن كل ما يمتحن به الحق جل جلاله عباده يدعى
بلاءً أو ابتلاءً سواءً كان بالأمراض والأسقام والفقر والذل وإدبار الدنيا أو بما يقابل هذه
الأمور، كأن يُختبر بكثرة الجاه والاقتدار و المال والمنال و بالزعامة و العزّة و العظمة.
ولكن متى ما ذكر البلاء أو البلية أو الابتلاء بصورة مطلقة انصرف وانسبق إلى الذهن من
اللفظ، البلاء من القسم الأول. [272] و"أَمْـثَلْ"بمعنى أفضل وأشرف يقال: هذا أمثل
من هذا أي أفضل وأدنى إلى الخير. وأماثل الناس، خيارهم. فمعنى"ثـُمَّ الأَمْثَلْ
فَالأَمْثَلُ"هو أن من كان أفضل وأحسن - بعد الأئمة الأوصياء عليهم السلام - فبلاؤه أشدّ
من الآخرين. ومَنْ كان - من غير الفئة المذكورة - أفضل فبلاؤه أكثر من غيره من الناس.
فمراتب الابتلاء على قدر درجات الفضل - عند الله سبحانه -. ولا يوجد مثل هذا التعبير
- الأمثل فالأمثل - في الأدب الفارسي حتى أذكره. والـ"سـُخـْفَ"هو ضعف العقل
وخفته، كما ورد في الصحاح وغيره من الكتب اللغوية. والـ"قَرَارَ"هو المستقر والمكان،
كما يستفاد من معاجم اللغة. وفي - كتاب - قاموس اللغة:"القرار والقرارة ما قُرَّ فيه
والمطمئن من الأرض"ووجه الشبه - بين المؤمن التقي وقرار الأرض - هو أن الأرض محل
الأمطار و مستقرها، حيث تهطل قطرات السماء عليها وتستقر، وكذلك المؤمن حيث
تهجم عليه البلايـا، و تستقر عنده ولا تفارقه. ونحن إن شاء الله سنشرح ما يحتاج إليه
الحديث الشريف في غضون فصول عدّة. فصل في بيان معنى الامتحان وآثاره وكيفية
نسبته إلى الحق المقدس المتعالي اعلم أن النفوس البشرية منذ ظهورها و تعلقها بالأجساد،
وهبوطها إلى عالم المُلُك- عالم المادة - تكون على نحو القوّة - الأهلية والقابلية - تجاه
جميع العلوم والمعارف والملكات - الحالات الراسخة المتمركزة في الإنسان - الحسنة
والسيئة، بل تجاه جميع الإدراكات والفعليّات - الحاضرة التي هي ذات آثار - ثم تتدرج
بعناية الحق - جل جلاله - نحو الفعلية شيئاً فشيئاً، فتبدو أولاً الإدراكات الضعيفة الجزئية
مثل حاسة اللمس والحواس الظاهرية الأخرى الأخسّ فالأخسّ ثم تظهر ثانياً الإدراكات
الباطنية متدرجة أيضاً. ولكن الملكات لا تزال موجودة بالقوة، فإن لم تتأثر بعوامل تفجر
فيها الطاقات الخيرة وتركت لوحدها لانتصرت الخبائث [273] وتحققت الملكات
الفاسدة وانعطفت نحو القبائح والمساوئ، لأن الدواعي الداخلية الباطنية كالشهوة والغضب
وغيرها يسوقان الإنسان إلى الفجور والتعدي والظلم وبعد انقياده لهما يتحوّل في فترة
قصيرة إلى حيوان عجيب وشيطان غريب. ولما كانت عناية الحق تعالى ورحمته قد وسعت
بني الإنسان في الأزل، جعل لهم سبحانه حسب تقدير دقيق نوعين من المربي والمهذب،
بمثابة جناحين يطير بهما من حضيض الجهل والنقص والقباحة والشقاء إلى أوج العلم
والمعرفة والكمال والجمال والسعادة ويحرر نفسه من ضغط ضيق عالم الطبيعة إلى الفضاء
الرحب الملكوتي الأعلى. وهما: المربي الباطني المتجسد في العقل والقدرة على التمييز بين
الحسن والقبح. والمربي الخارجي المتمثل في الأنبياء والأدلاّء لطرق السعادة والشقاء. وكل
منهما لا يؤدي دوره بدون الآخر، إذ أن العقل البشري عاجز عن معرفة طرق السعادة
والشقاء واكتشاف الطريق إلى عالم الغيب، ونشأة الآخرة، كما أن هداية الأنبياء،
وإرشادهم لا تكون مؤثرة بدون إدراك العقل والقدرة على التمييز. فالحق - تبارك وتعالى
- منحنا هذين النوعين من الموجّه لكي نجعل الطاقات المكتنزة والاستعدادات الكامنة في
النفوس تتحرك من القوة إلى الفعلية و الظهور. وقد وهبنا الحق المتعالي هاتين النعمتين
الكبيرتين لنا امتحاناً واختباراً، لأن الإنسان يتميز أفراده بعضهم عن بعض، ويتم الفصل بين
السعيد والشقي والمطيع والعاصي والكامل والناقص كما قال ولي المؤمنين عليه
السلام:"وَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً"( نهج البلاغة. خطبة 16 (
الشيخ صبحي صالح ) ) وفي كتاب الكافي الشريف في باب التمحيص والامتحان عن ابن
أبي يعفور عن الإمام الصادق عليه السلام:"لاَ بُدَّ للنّاسِ مِنْ أَنْ يُمَحَّصُوا وَيُمَيَّزُوا وَيُغَرْبَلُوا
وَيُسْتَخْرَج فِي الغِرْبالِ خـَلـْقٌ كَثيرُ"( أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب
التمحيص و الامتحان، ح2، ح3، ح4) وبـِإسْنادِهِ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِاللهِ
عليه السّلام:"يا مَنْصُورُ إِنَّ هذَا{ [274] الأمْر لا يَأْتيكُمْ إلاّ بَعْدَ إياسٍ وَلا وَاللهِ حَتّى
تُمَيَّزُوا وَلا وَاللهِ حَتّى تُمَحَّصُوا وَلا وَاللهِ حَتّى يَشْقَى مَنْ يَشْقَى وَيَسْعَدَ مَنْ يَسْعَدُ"(
أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب التمحيص و الامتحان، ح2، ح 3، ح4.
) وفي حديث آخر عن أبي الحسن عليه السلام قال:"يـُخـَلـَّصُونَ كَما يُخَلَّصُ
الذَّهَبُ"( أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب التمحيص و الامتحان، ح2،
ح3، ح4) وفي كتاب الكافي الشريف في باب الابتلاء والاختبار بسنده إلى الإمام الصادق
عليه السلام قال:"مـَا مـِنْ قَبْضٍ وَلا بَسْطٍ إلاَّ وَللهِ مَشِيئَةٌ وَقَضاءٌ وَابْتِلاءٌ"(أصول
الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة باب الابتلاء والاختبار، ح1، ح2) و في حديث آخر
عنه عليه السلام قال:"إنـَّهُ لَيْسَ شَيءٌ فيهِ قَبْضٌ أوْ بَسْطٌ مِمّا أمَرَ اللهُ أوْ نَهى عَنْهُ إلاّ
وَفِيهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ ابْتِلاءٌ وَقَضاءٌ"(أصول الكافي، المجلد الأول، كتاب الحجة، باب الابتلاء
والاختبار،ح 1، ح2) و"القـْبـْضُ"في اللغة الإمساك والمنع والأخذ، و"البَسْطُ"بمعنى
النشر والعطاء: فكل عطاء وتوسعة ومنع امتحان للإنسان، كما أن كل أمر ونهي وتكليف
يكون للامتحان أيضاً. فإن بعث الرسل ونشر الكتب السماوية لغربلة الناس، ولفصل
الأشقياء عن السعداء، والمطيعين من العاصيين. ومعنى امتحان الحق المتعالي للناس واختبارهم
هو الفصل الحقيقي الواقعي على صعيد الخارج - للناس بعضهم عن بعض، لا العلم
بالفصل، لأن علم الحق جل جلاله أزلي ومتعلق ومحيط بكل شيء قبل إيجاده. والحكماء قد
أسهبوا الحديث في معنى الابتلاء والامتحان، ولا يتناسب نقله في هذا الكتاب. فنتيجة
الاختبار بصورة مطلقة - ورغم أن الأمرين المذكورين من أهم نتائجه- هو فصل السعيد
عن الشقي على صعيد الخارج الواقعي. وتتم في هذا الامتحان والتمحيص حجة الله على
خلقه أيضاً، وتكون تعاسة وسعادة وهلاك وحياة كل شخص عن حُجّة وبينة، ولا يبقى
لأحد مجال للاعتراض، فمن سعى في طريق السعادة والحياة الأبدية، كان سعيه توفيقاً من
الله وهدايةً له، لأنه سبحانه قد وفر جميع أسباب هذا السبيل. ومن جدّ في طريق [275]
الشقاء ووجه وجّهه نحو الهلاك ومتابعة الهوى والشيطان مع توفر كل طرق الهداية وأسباب
السعادة، فقد اختار بنفسه الهلاك والتعاسة رغم نهوض الحجَة البالغة للحق تبارك وتعالى
على خلاف ما أرتآه {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ }(البقرة/ 286 ). فصل
في بيان فلسفة شدّة ابتلاء الأنبياء والأوصياء والمؤمنين اعلم وقد سبق منا الحديث بأن
كل عمل يصدر من الإنسان، بل كل ما يقع منه في عالم مُلك الجسم، وكان مدرَكاً
للنفس، يترك أثراً لدى النفس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيئة، ومن دون فرق
بين أن يكون العمل من نوع الأفراح أو نوع الأتراح. وقد عُبّر عن هذا الأثر في الأخبار
بنقطة بيضاء ونقطة سوداء فمثلاً: إن كل لذة مما يلتذ الإنسان به من المطعومات أو
المشروبات أو المنكوحات أو غيرها، يترك أثراً في النفس، ويحصل تعلقاً ومحبة في عمق
الروح تجاهه - الشيء الذي تمتع فيه - ويزداد توجه النفس إليه. وكلما توغل في اللذائذ
والمشتهيات أكثر، ازداد تعلق النفس وحبّهاً لهذا العالم أكثر. وغدا ركونه واعتماده على
هذا العالم أكبر، فتتربى النفس وترتاض على التعلق بالدنيا. وكلما كانت المتع في ذائقته
أحلى، كانت جذور محبّة الدنيا في قلبه أكثر. وكلما توفرت وسائل العيش والعشرة
والراحة بشكل أوفى، أصبحت دوحة التعلق بالدنيا أقوى وكلما أقبلت النفس على الدنيا
أكثر، كلما كانت غفلته عن الحق وعالم الآخرة أكثر. فإن نفس الإنسان إذا ركنت إلى
الدنيا كلياً وصار توجهها مادياً ودنيوياً، انصرف عن الحق المتعال ودار الكرامة نهائياً و
{أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ }(الأعراف/176 ). فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات
يصرف الإنسان إلى حب الدنيا من دون اختيار، وحب الدنيا يوجب النفور عن غيرها،
والإقبال على المُلُك - الماديات - يسبب الغفلة عن الملكوت - عالم الغيب -. وكذلك
العكس فلو أن الإنسان استاء من شيء وشعر ببشاعته، استدعت صورة ذلك الشيء
الكراهية والنفور، وكلما كانت تلك الصورة في النفس أقوى كان النفور والانزجار منها
أكثر. [276] فمثلاً: إذا دخل شخص على بلد وابتلى بأسقام وآلام فيه وعانا من ورائه
مشاكل داخلية وخارجية لكرهه وتنفّر منه وكلما كانت معاناته أكثر كان هروبه ونفوره
|
|
|
|
|