سم الله الرحمن الرحيم رسالة " قاعدة ضمان اليد " من القواعد المقررة عند الأصحاب " قاعدة ضمان اليد " وقد تداول فيهم الاعتماد عليها ، في أغلب الأبواب . والأصل في ذلك النبوي المشهور " على اليد ما أخذت حتى تؤدي " أو " حتى تؤديه وإرسال الاستدلال به في كتب الأصحاب قديما وحديثا من غير نكير قطعا .
فلنعطف عنان القلم إلى دلالته ، ولقد اطلعت على كلام لبعض المتأخرين ، حيث حكم بإجماله من حيث احتياجه إلى التقدير ، وتردده بين أمور لا يرجح بعضها على بعض ، وأطال الكلام فيه بما لا يخلو كل سطر منه عن وجوه النظر لا يهمنا التعرض لها ونحن نشير إلى ما يساعد إليه النظر بتوفيق الله وإعانة رسول الله والأئمة الاثني عشر - عليهم صلوات الله ما طلعت الشمس والقمر - .
فنقول : بعد مساعدة الظاهر ، على أن المأخوذ نفسه ، على صاحب اليد ، المعبر عنه باليد ، لمناسبة أنه الآلة في البطش والقبض غالبا بالنسبة إلى سائر الجوارح كإطلاق العين ، على الريبة لمناسبة حصول الاطلاع منها : إن معنى كون الشئ المأخوذ على صاحب اليد ، أنه في عهدته ، وهو إطلاق شائع في العرف قريب في تفاهمهم . وتوضيح ذلك ; أنه كما أن الذمة أمر معتبر عند العقلاء ، قابلة لأن يعتبر ثبوت المال فيها فيحكم باشتغالها ، وأن يعتبر عدمه فيها ، فيحكم بفراغها ، فكذلك العهدة أيضا اعتبار عقلائي ; صح اعتبار ثبوت العين فيها وعدمه . فكما أن مفاد قول القائل : " علي دين كذا " ; الإخبار بثبوت المال في الذمة ، فكذا قوله : " علي العين الفلاني " ; إخبار بثبوت العين في العهدة ، وكلاهما اعتباران عند العقل والعقلاء ، موجودان في الخارج بوجود منشأ انتزاعهما كسائر الاعتبارات العقلائية الانتزاعية ، كالملك والحق ونحوهما ، سيحكمون عليهما بآثار كثيرة في مقاصدهم ومهماتهم . بل صح الحكم باعتبارهما في وجه واحد ، وإنما الفارق بينهما ; أنهم يسندون إلى الذمة مطلق المالية الكلية ، وإلى العهدة المقيدة منها بالتشخصات العينية ، فكلمة " علي " في المقامين ; للاستعلاء الحاصل في ثبوت متعلقة على وجه البت والجزم ; بحيث يتقطع به الاختيار . فصار معنى الرواية على ما يساعده النظر بحسب متفاهم العرف ; أن المال المأخوذ نفسه على عهدة الآخذ ، أي محكوم بأنه على عهدته ، كما هو المحكم في القضايا الشرعية ما لم يثبت أنها أخبار حتى يؤديه إلى مالكه ، ولا يذهب عليك أنها مسوقة حينئذ لبيان الحكم الوضعي وأما وجوب الحفظ والأداء ، عينا أو بدلا فهو من لوازم العهدة ولا حاجة إلى تقديرها ، بل ولا حاجة إلى تقديره العهدة إذ هي عبارة عن ثبوته عليه . ثم إنه يحتمل أن تكون الرواية مخصوصة بإثبات عهدة العين إلى غاية الأداء من دون تعرض لحكم صورة التلف ، وثمرة إثبات العهدة لزوم أدائها . فإن قلت : إنه لا معنى حينئذ لجعل الأداء غاية لوجوب الأداء ، لأنه من توضيح الواضح ، لثبوت كل شئ إلى أن يرتفع ، وثبوت كل حكم إلى أن يمتثل . قلت : القضية غير مسوقة بمدلولها المطابقي لوجوب الأداء حتى تكون الغاية ثابتة له ، بل إنما مدلولها المطابقي هو : الحكم بثبوت العين في العهدة ، وسيقت الغاية غاية لهذا الثبوت ، ولا يخفى أن ارتفاع ثبوت العين فيها بالأداء ، ليس من الواضحات ولا مما حكم به العقل ، إذ من الممكن ثبوتها فيها على وجه الدوام غير ممتد إلى غاية ، إلا أنه حكم الشرع الشريف بارتفاعه عند الأداء . ولازم هذا الوجه ; أنه لو تلفت العين ; فالعهدة باقية إلى يوم القيامة ولا تسقط بشئ لانحصار الغاية المجعولة في الأداء وإن قلنا بلزوم أداء المثل والقيمة لو قام عليه دليل ، إذ الرواية حينئذ ساكتة عن حكم صورة التلف . لكن الإنصاف : أن اللوازم المذكورة مما لا يلتزم به الفقيه ، لوضوح إمكان تفريغ العهدة عند الفقهاء ، وأنه لا مستند لهم في تضمين المثل والقيمة في كثير من الموارد إلا الحديث المذكور بل ترى منهم أنهم استفادوا منه خصوص صورة التلف ، فتدبر . ويحتمل أن تكون مخصوص العين بمرتبتها الشخصية ، بل تعمها بجميع مراتبها ، الأقرب فالأقرب ، والأمثل فالأمثل ، فتكون الرواية بمدلولها المطابقي دالة على ثبوت المراتب في العهدة ، وهذا هو المناسب لكلمات الأصحاب ، والاعتماد عليها لحكم صورة التلف في أغلب الأبواب ولباب التضمين ; ويشهد له أن العرف لا يعدون مالية المال أمرا مباينا عنه ، بل النظر الأصلي في مهم الأموال على ماليتها ، وإن كانت لشخصيتها أيضا مدخلية في أغراضهم الخاصة ، فيكون توضيح معناها ; أن العين بجميع مراتبها ثابتة في العهدة حتى يؤديها إلى ربها ، فإذا أداها إليه فرغت العهدة بمقداره ، فإن كان المؤدى عينا حصل الفراغ التام ، وإن كان المثل أو القيمة فقد فرغت عن المالية وبقيت مشغولة لشخصية المال ، لأنها أيضا كانت مثبوتة فيه ولها دخل في الأغراض . ثم إن الفراغ عن المالية أيضا يختلف بحسب أداء الفرد من النوع أو الجنس أو المساوي في القيمة ; وعليه فلا حاجة في الحكم بوجوب أداء المثل والقيمة ، بل ولا في تقديم المثل على القيمة : إلى التماس دليل من خارج ، وهذا هو فارق بين هذا الوجه والوجه السابق . فإن قلت : فعلى هذا صح أداء المثل والقيمة بحكم الرواية مع وجود العين ويحصل معه الخروج عن عهدة المالية ولا ينبغي أن يتفوه به أحد . قلت : ليس ثبوت مراتب العين على نحو واحد ، بل ولا عن سبب واحد ، بل المقصود أن المفهوم من الرواية ; كون العين بواسطة الأخذ بإذنه بجميع مراتبها في العهدة على نحو التعدد المطلوبي . فنفس الأخذ سبب لثبوت العين ويترتب عليه وجوب أدائها ، وهو مع التلف سبب لثبوت المثل فيها ، وهما مع تعذر أداء المثل سبب لثبوت القيمة فيها . إلا أن الإنصاف ، أن الالتزام بتعدد السبب مشكل ، إذ الرواية غير متعرضة إلا لإثبات ما تسبب عن الأخذ دون ما تسبب عنه شئ آخر . فالوجه أن يقال : إن السبب واحد وهو نفس الأخذ ، وإنما يتسبب عنه أمور مترتبة في الوجود ، نظير الملكية الحاصلة لمراتب الموقوف عليهم على الترتيب بالجعل الأولي من المالك ، بل وأمر المقام أوجه منها ; لأن المراتب حاصلة بنفس الحصول الأولي على نحو من الحصول . غاية الأمر أن اختصاص الأداء إنما يحصل بعد تعذر المراتب الفوقانية وهذا كله واضح للمتدبر العارف بوجوه المعاني أو صروف الكلام . فإن قلت : إن التي تشتمل عليها العين من الحصة أو المالية فهي مقيدة بها متعذر أداؤها بتعذر أدائها ، وأما الحصة الأخرى والمالية المطلقة الموجودة في فرد آخر ، فثبوتها ووجوب أدائها يحتاج إلى دليل آخر لمغايرتها لما هي الثابتة بثبوت العين . قلت : لو سلمنا المغايرة عند التدقيق العقلي ، فلا يخفى عدمها عند العرف كما عرفت ، ومن أن نظرهم الأصلي إلى المالية المطلقة ، لا خصوص ما هي القائمة منها بالعين ، والرواية مسوقة لإثبات العين مع مراتبها المحكومة في العرف أنها من مراتبها في العهدة ، هذا كله . ولكن الإنصاف أن هذا الوجه أيضا لا يخلو عن تعسف . ويحتمل أن تكون مخصوصة بحسب الدلالة المطابقية بعهدة العين ، ودلت على وجوب أداء المثل والقيمة بالالتزام العرفي ، إذ عهدة الشئ يلازم عندهم لوجوب أداء العين مع بقائه ، والمثل عند تلفه . فالغاية إنما سيقت لعهدة العين فقط . لا يقال : لو عمت العهدة صورة التلف فلا يعقل أن يكون الأداء غاية لها ، إذ يعتبر فيها إمكان حصولها ويمتنع الأداء مع التلف : لأنا نقول : الغاية إنما تصح في ما بقي فيه الموضوع ، وأما مع ارتفاعه فلا تختص بدلالة الاقتضاء بصورة بقاء العين . ثم مع أن فرض التلف قد عرفت أنه ليس في حقيقة العهدة ، بل إنما هو من لوازم العهدة . هذا ، ولكن يرد على هذا الوجه لو سلمنا الملازمة العرفية أن مقتضاه ثبوت وجوب أداء المثل والقيمة من دليل خارج ، وهذا خلاف ما عليه طريقة الأصحاب من الاعتماد بالحديث لوجوب أداء المثل والقيمة . إلا أن يقال : إنه بعد ما ثبت أن الحكم من لوازم الموضوع عرفا ، فإثبات الموضوع جعلا أو إمضاء إثبات لحكمه كذلك ، فتدبر . هذا كله في الوجوه المحتملة وقد عرفت أن خيرها أخيرها ثم أوسطها . ثم إنه ينبغي التنبيه على أمور راجعة إلى حال الأخذ والآخذ والمأخوذ ، وأما المأخوذ منه فلا تتفاوت فيه الحالات والصفات إلا من جهة الإسلام والكفر ، فإن المعتبر فيه أن يكون مسلما أو من بحكمه من أولي الذمة ، وأما مال الحربي بشروطه فهو مما ينتقل إلى صاحب اليد بالأخذ على الوجه المقرر في محله