ولدت كربلاء لتبقى، هكذا أرادها الامام الحسين () ليحرك بها ضمير العالم والإنسانية ضد كل ما هو جائر ومنحرف ومخالف لمفاهيم العقل والمنطق والسلام، ودعا من خلالها الانسان الى معرفة حقوقه والمطالبة بها، وصون كرامته من الامتهان والذل، والسعي للتغيير او الإصلاح، وعدم القبول بالظلم والاثم والعدوان والباطل، أراد الامام الحسين (ع) ان يؤسس قاعدة "الانسان الثائر" او "الانسان الحر" لمنع الحكام المستبدين من استعباد الانسان وتدجينه في حظائر السلطة والقوة.
ولعل أروع ما وصف حاله كربلاء الخالدة في طلتها المثالية على كل العوالم، في الماضي والحاضر، ما لخصه الامام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) في قوله: "منذ البدء اعلن الامام الحسين () ان احد اهداف نهضته هو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع ذلك، فان ثورة الامام الحسين () لم تكن لتحرير الامة من حكم الطاغية يزيد فقط، بالتالي كربلاء لم تكن وقتية لتموت بعد حين، وانما كانت –لتبقى- ثورة الحق ضد الباطل، وثورة العدالة ضد الظلم، وثورة الإنسانية ضد الوحشية، وثورة الهداية ضد الضلال، ولذا كان من الضروري امتداد هذه الثورة ما دامت هذه الدنيا باقية، وهذا سر تحريض الرسول الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) والائمة الاطهار () على الاحتفاء بذكرى عاشوراء طوال الدهر".
اذن فيمكن اعتبار نهضة الامام الحسين () حدث خارج سياق الزمان والمكان، وهي نهضة استهدفت بمضامينها:
1. لم تكن ثورة او نهضة وقتية (محكومة بزمن معين)، او عددية (محكومة بتحقيق اهداف محددة)، بل توسعت افقياً وعمودياً.
2. هدفها الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما كان صغيراً او كبيراً، ولأي فئة او جهة كانت.
3. ثورة الحق ضد الباطل.
4. ثورة العدالة ضد الظلم
5. ثورة الإنسانية ضد الوحشية.
6. ثورة الهداية ضد الضلال.
ان هذه المضامين العليا لا يمكن التفكير بانها محدودة او مقيدة بزمان ومكان او لمصالح ذات طابع شخصي، بل هي أوسع من ذلك بكثير، وهذا السر وراء اقتباس معظم الاحرار والثائرين والقادة والمصلحين حول العالم، شرارة ثوراتهم الإصلاحية من مشكاة الامام الحسين ()، وبالتالي تحولت هذه النهضة المباركة الى منار يهدي السفن التي ضلت طريقها وتلاطمت بها أمواج الاهواء والفتن الى شاطئ البر والأمان والسعادة والطمأنينة.
كان الامام الحسين () يعرف ان اعداءه (من واجهه في ارض المعركة وقاتله بالسيف، ومن سيقف ضد الإصلاح والتغيير الذي رفع لواءه الامام الحسين من بعده) كانوا من الطبقة "الوحشية" التي استهدفت "الإنسانية" بكل معانيها، هذه الطبقة التي فقدت كل القيم المشتركة بينها وبين الإنسانية، ولم يكن لها سوى هدف البقاء في السلطة واستعباد الناس وسلب حقوقهم وكرامتهم بلا رحمة او اخلاق.
لذلك واجه الامام الحسين () هذه الجموع "الوحشية" وفق منطق "الإنسانية" التي يؤمن بها وجاء ليؤسس لها من ارض كربلاء المقدسة لأبناء عصره وللأجيال التي تليه، ولم يوجههم ابدأ وفق مبدأ "التعامل بالمثل"، ليس لضعف او تراجع او خوف، بل لأنه طبق ما يؤمن به ودعا الى ما اعتقده ضميره ووجدانه ولهج به طوال عمره الشريف، وهذا ما يفسر –ايضاً- قلة الناصر ممن خرج معه، لان ما قام به الامام الحسين () يخالف حسابات "الطبيعة الوحشية" للمستبد والدكتاتور وصاحب السلطة واتباعه التي تؤمن بالعنف والمكر والخداع والقوة الغاشمة والغلبة وظلم الاخرين والاستبداد.
وبالتالي حقق الامام الحسين () ما عجر عنه الاخرون، في انتصار "الإنسانية" ضد "الوحشية" بعد ان كسب القلوب قبل العقول، وجعل هذا المبدأ واضح المعالم وفي متناول الجميع، بعد ان عبد طريق الحق بدمه الشريف مع ثلة من اهل بيته الكرام () واصحابه المنتجبين (رضوان الله عليهم): "إن سيد الشهداء الإمام الحسين (سلام الله عليه) عبر نهضته المباركة دل الأجيال على الطريق، وأوضح عن السبيل لعلاج مشاكل المجتمع، والحصول على سعادة الدنيا وكرامة الآخرة".
الخلاصة ما ذكرها الامام الشيرازي ونعيد اقتباس ما قاله: "أراد سيد الشهداء الإمام الحسين () للإنسان بما هو إنسان أن يعيش سعيداً حراً، في أي زمان ومكان، سواء أكان مؤمناً أم كافراً"، وهذا ما ميز الامام الحسين () بشكل خاص، وما ميز نهضته المباركة بإطارها العام، فلم يكن الامام الحسين () من الساعين لطلب السلطة او المال او الوجاهة، فهو اعلى شأنا وارفع مكانا من هذه المصالح والرغبات الانية المحدودة، ولو رغب فيها لجاءت اليه من دون عناء او تعب، لكنه أراد استنهاض إنسانية الانسان ضد الوحشية المطلقة التي لو اطبقت بفكيها على العالم لتحول الى مستنقع او غابة تسوده الوحوش، ويعمه الظلم، وتغيب فيه الإنسانية، ويكون اضعف صوت فيه هو صوت الحق.
* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/20022–