لقاء مع سماحة العلامة الخطيب الشيخ عبد الحميد المهاجر
<B>
لقاء أجرته مجلة المنبر الحسيني مع سماحة العلامة الخطيب الشيخ عبد الحميد المهاجر ونظراً لأهمية اللقاء نورده كما ورد من المجلة المذكورة
أجرى اللقاء: السيد أبو محمد الموسوي
عنوان معروف في دنيا الخطابة. ورمز من رموز المنبر الحسيني، التقيناه على رغم مشاغله الكثيرة وقد أعطانا الكثير من وقته وأجاب على أسئلة المنبر الحسيني بشيء من التفصيل... تحدث عن تجاربه وعن مقترحاته لتطوير المنبر الحسيني... وتحدث في نصائح للخطباء المبتدئين على أمل أن ينتفع الجميع بتجاربه ومقترحاته...
وقبل البدء نود أن نرحب بالعلامة المجاهد الشيخ عبد الحميد المهاجر شاكرين له تفضله بالاستجابة لنا والإجابة على أسئلتنا..
• سماحة الشيخ نريد أن نعرف ما هي رؤيتكم لمنبر الحسين (عليه السلام) في الحاضر والماضي والمستقبل، وهل في إمكان هذا المنبر ان ينهض بالأمة الإسلامية ويقودها إلى طريق النصر، وأن يواجه الصعاب التي تعترض طريقه، والتحديات الراهنة التي تواجه الخطاب الحسيني في كل يوم وفي كل ساعة وفي كل لحظة؟
- بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قبل الحديث والإجابة على هذا السؤال نشكر مجلة المنبر الحسيني على إتاحة هذه الفرصة لي للحديث عن قضايا المنبر الحسيني راجياً من الله أن يوفق العاملين فيها لخدمة أهل البيت (عليهم السلام) والمؤمنين في أرجاء المعمورة... وبعد:
فإن هذا السؤال يصلح في نظري أن يكون مقدمة ومدخلاً لكتابة موسوعة علمية حول المنبر الحسيني، ولاشك انه سؤال ينطلق من موقع المسؤولية ومن الواقع الذي يعيشه المنبر اليوم، ويمكن أن نجد الإجابة على هذا السؤال في النقاط التالية:
أ - رؤيتي للمنبر الحسيني تنطلق من كونه الصوت الأقوى والأكثر فاعلية وتأثيراً في نفوس الجماهير ووجدان الأمة، وهو الصوت الوحيد القادر على نقل كلمة الحق وقول الصدق وإراءة الطريق لكل الناس في عالم يضج بالإثم والعدوان، وتسوده الفتن كقطع الليل المظلم، ويغطيه الظلم والجور. بحيث إذا أصغى الواحد منا سمعه لا يجد غير المنبر الحسيني يضيء الطريق للجماهير، ويقول كلمة الحق والعدل بكل قوة وعزيمة مهما كانت الظروف قاسية، في الوقت الذي تختفي فيه الأصوات الأخرى إذا أحست بالخطر.
ب - إن صوت المنبر الحسيني مستمد من صوت الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يقول: (والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد) ويقول (عليه السلام): (ألا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة) ويقول (عليه السلام): (كونوا أحراراً في دنياكم) فهذه كلمات تجعل منبر الحسين أقوى وانصع وأصدق منبر يشهده التاريخ الإنساني منذ فجره وإلى أن تقوم الساعة.. وليس في هذا مبالغة ولا خروج عن الحقيقة، بل إن نظرة واحدة نلقيها على تاريخ هذا المنبر في الماضي والحاضر تكفي لإعطائنا ألف دليل ودليل على الدور الرائد الذي قام به منبر الحسين (عليه السلام) في تقويم الأمة، ومحاربة الظلم والجور والفساد، وفي إعادة الثقة في نفوس الناس بالإسلام والقرآن.
ج - في كلمة للإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول فيها وهو يزور جده الحسين (عليه السلام): (ألتمس - أي بزيارتك يا حسين بذلك - كمال المنزلة عند الله عزّ وجل وثبات القدم في الهجرة إليك، والسبيل الذي لا يختلج دونك في الدخول في كفالتك التي أُمرت بها) والكفالة تعني أن الكفيل يضمن إحضار المكفول في أية لحظة على أن يكون كافلاً لكل شؤونه في الحياة، وهذا هو المعنى الدقيق الذي أراده الإمام الصادق (عليه السلام) من هذه الزيارة التي جاءت في أصح كتب الشيخ الصدوق وهو كتاب (من لا يحضره الفقيه) وهو ان هناك أناساً أمر الإمام الحسين (عليه السلام) من قبل الله عزّ وجل بكفالتهم وهؤلاء هم الذين يخدمون الحسين (عليه السلام) ويحيون أمر أهل البيت (عليهم السلام) ويقيمون مجالس العزاء ويصعدون المنبر الحسيني لحمل هذه الأمانة وإيصال هذه الرسالة الكبرى إلى العالم كله، وأية منزلة ومكانة أعظم وأشرف من هذه المنزلة التي يكون فيها الخطيب المخلص خادم الحسين مكفولاً من قبل الإمام الحسين (عليه السلام) بأمر الله عزّ وجل؟
د - في حديث الثقلين يؤكد النبي (صلى الله عليه وآله) على حقيقة هامة مفادها: انه لا خلاص لشعوب الأرض، ولا سعادة لهم، ولا حرية ولا رفاه ولا حقوق ولا عدالة اجتماعية، إلا بالقرآن وأهل البيت (عليهم السلام)، بالتمسك بالثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة، والمنبر الحسيني هو أعظم تجسيد حي لهذا الواقع وأنصع ترجمة لهذا الحديث الشريف حديث الثقلين الذي ذكره المسلمون كافة وأجمعت على صحته وصحة سنده الأمة الإسلامية كلها. على أن موضع الشاهد في نقل هذا الحديث أن المنبر الحسيني الذي يستمد وجوده وشرعيته من حديث الثقلين لقادر على خلاص الأمة وإنقاذها من المحن والمتاعب والويلات وهو - أي المنبر - يحمل حلاً لجميع المشكلات التي تضغط على صدر الأمة، سواء كانت اقتصادية، أو اجتماعية، أو ثقافية، فإنها بالتالي تجد حلولها في ظل المنبر الحسيني الذي هو صوت الإسلام الدين القويم.
هـ - وأود هنا أن أضيف نقطة بالغة الأهمية بخصوص موضوع المواجهة الساخنة التي يشهدها المنبر الحسيني مع القوى الأخرى والخطوط المعادية وهي أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حينما أراد أن يواجه النصارى من أهل الكتاب، واجههم بعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليه السلام) في قصة المباهلة المعروفة وانتصر عليهم بأهل البيت وليس بغيرهم وفي هذا بلاغ لقوم عابدين، وهو: أن المنبر الحسيني، - بما أنه الصوت الوحيد الذي ينطلق من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) - فإنه يُعتبر الخطاب الإسلامي لعالم الغرب وللحضارة المعاصرة، وعلى الخطباء والواعظين أن يدركوا هذه الحقيقة وأن يكونوا في مستوى المسؤولية لرفع مستوى هذا المنبر أو بتعبير آخر، لرفع مستوانا إلى مستوى المنبر الحسيني العظيم حتى نستطيع أن نكلم الناس على قدر عقولهم وفهمهم، ونتمكن من هدايتهم وإرشادهم أي نهديهم إلى الحق، ونرشدهم إلى سبيل الرشاد في مدرسة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام).
• نود أن نطرح عليكم سؤالاً يتعلق بكربلاء المقدسة وشؤونها وما يجري على الساحة اليوم من إثارة شبهات حول أحداث كربلاء وانها تحمل نوعاً من المبالغة، فما هو قولكم في ذلك؟
- كربلاء وما أدراك ما كربلاء، إن تاريخها قد كتبه الله عز وجل بنفسه في قلوب الأنبياء والرسل والأولياء وسجل أحداث كربلاء قبل أن يبرأها وجعلها في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.. إن إلقاء نظرة واحدة على يوم كربلاء وواقعة الطف ترينا ان هذه الواقعة استأثرت باهتمام كبير وبتركيز بالغ من الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن أهل البيت (عليهم السلام) بالذات، فقد جاءتنا أحداثها مصورة بدقة متناهية عبر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتاريخ الصحيح، بل أكثر من ذلك فإننا نجد الله عز وجل لم يكتف بتسجيل تاريخ كربلاء والحسين (عليه السلام) في الكتب السماوية وحدها، وإنما سجلها وكتبها في الآفاق بحمرة دم الحسين (عليه السلام)، وجعلها مكتوبة في قلوب الأحرار والشرفاء من المؤمنين والمؤمنات بحروف من محبة الحسين (عليه السلام)، حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(إن للحسين محبة مكنونة في قلوب المؤمنين لا تنطفأ إلى يوم القيامة).
وفي حديث آخر قال (عليه السلام): (إن للحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد ولا تنطفأ أبداً) أي حتى بعد قيام الساعة تظل تلك القلوب مشتعلة بحب الحسين وبالحزن على مصابه (عليه السلام) على أننا حين نقرأ قوله تعالى: (سَنُريهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنفسِهِم حتى يتبيَن لهم أَنَهُ الحق) ندرك من ذلك رؤية خاصة تشير إلى آثار دماء الحسين (عليه السلام) في الحمرة المشرقية والحمرة المغربية التي تظهر في الآفاق حين طلوع الشمس وحين الغروب، وقد أشار إليها أبو العلاء المعري بقوله:
وعلى الأفق من دماء الـ ـشهيدين علي ونجله شاهدان
كما وقد أشارت الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) بهذا المعنى وهذا الخصوص وهي كثيرة بل أكثر من كثيرة لو أردنا استقراءها. هذا من جانب ومن جانب آخر فإننا نجد أن الله عزّ وجل - كما تحدثنا الأخبار الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) - قد عرض قضية كربلاء ويوم الحسين (عليه السلام) على الأنبياء كافة فما من نبي إلا وقد سمع بواقعة الطف ويوم الحسين وبكى لمقتله ومصرعه في يوم عاشوراء وهكذا كل الأنبياء والرسل والأولياء الصالحين. وهذا يعني أن الحسين (عليه السلام) قد سبقه تاريخه وذلك لتوثيق هذا الإسناد.. وقد تحدثت الأخبار والروايات بشكل واسع وعريض في هذا المجال.
يضاف إلى ذلك عرض النقاط التالية:
1 - إن أحداث كربلاء وواقعة الطف وصلت إلينا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً فهذا الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) وهو حجة الله في الأرض كان حاضراً يوم عاشوراء مع أبيه الحسين (عليه السلام) وقد شاهد ورأى بعينه كل ما دار وما جرى من أحداث ووقائع مأساوية أمام عينه وقد رواها بتفاصيلها حتى في خطبه التي ألقاها في الكوفة وفي الشام.
كما أنه كان في كربلاء، الإمام محمد الباقر (عليه السلام) وهو ابن الإمام السجاد (عليه السلام) وحفيد الحسين (عليه السلام) وكان في سن الرابعة من عمره وقد أدرك كل ما جرى من مصائب ولواعج وأشجان وأحداث ونقلها للعالم. أضف إلى ذلك وجود العقيلة زينب ابنة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهي البطلة العظيمة العاقلة اللبيبة العالمة غير المعلمة وقد شاهدت كل وقائع كربلاء وأحداث يوم عاشوراء وكانت ترعى أطفال أخيها الحسين وكانت أسيرة مسبية يطاف بها هي وأخواتها من بنات الرسالة، البلدان من بلد إلى بلد ومن أرض إلى أرض، وكانت زينب (عليها السلام) هي الناطقة باسم أخيها الحسين (عليه السلام) في كل موطن وموضع تقف فيه هذه البطلة وهي التي روت أحداث كربلاء ووقائع عاشوراء وقد عاشتها بنفسها وذاقت طعم مصائبها كلها.. هذا ويمكن القول أن الله عز وجل حين عرض أخبار كربلاء وتاريخ عاشوراء ومقتل الحسين وأهل بيته عليهم السلام وعلى الأنبياء والمرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين)، فإنه إنما أراد بذلك أن يرسخ أسانيد الواقعة وصورها وحقائقها في النفوس، نفوس الأجيال كافة بحيث لا يمكن لأحد أن يشكك في صحتها أو يثير غباراً عليها.
2 - إن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ذكروا وتحدثوا عن واقعة الطف بكل تفاصيلها.
3 - إن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان قد تحدث وتكلم عن يوم عاشوراء ومقتل الحسين من قبل ولادة الحسين إلى ما بعد ولادته، وهذا هو الملف التاريخي الكبير الذي حفظته لنا بطون الكتب لدى المسلمين جميعاً بحيث لم نجد واقعة ولا حادثة ولا قضية استأثرت بهذا الحجم الهائل الكبير من اهتمام الأنبياء والرسل والأئمة والمؤرخين والصحابة والتابعين بمقدار ما استأثرت به واقعة كربلاء ويوم عاشوراء، لذلك فهي فوق الشكوك والشبهات.
4 - ثم بالإضافة إلى الذين كانوا من أهل البيت في كربلاء ورووا الواقعة كلها مثل الإمام السجاد والباقر والسيدة زينب والسيدة الرباب وفاطمة بنت الحسين وسكينة وأمثال هؤلاء الطيبين وقد مرت الإشارة إليهم، أقول: بالإضافة إلى وجود هذا العدد الكبير من أهل البيت (عليهم السلام) فهناك عدد من أصحاب الحسين الذين لم يُقتلوا وإنما وقعوا في الأسر وقد رووا الواقعة بتفاصيلها وأسماؤهم موجودة ومدونة في كتب التاريخ من قبيل عقبة بن سمعان وأمثاله، فقد اكدوا وذكروا الواقعة بكل تفاصيلها وجزئياتها.
5 - حين نقرأ خطب الإمام الحسين (عليه السلام) وكلامه الذي ألقاه في مكة وفي طريقه إلى كربلاء، وخطبه التي ألقاها في يوم عاشوراء، أقول: حين ندرك هذا المعنى ونقرأه بدقة وإمعان فإننا نستطيع أن نصل إلى حقائق تثير الدهشة وتشد القلوب والأسماع وقد صور الإمام الحسين (عليه السلام) فيها حتى عدد الجيش الذي خرج لقتاله وصور نفوسهم وذلك في قوله: (ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا.. إلخ) وطيرة الدبا الجراد، وحين يصور الحسين (عليه السلام) أعداءه بالجراد فإنه يريد أن يبين حجم الجيش وعدده، وانهم جاءوا للإفساد، كما انه خرج للإصلاح في أمة جده، كما أن وجود قبر الحر بن يزيد الرياحي بهذا المكان البعيد عن الحائر الحسيني في كربلاء يدل على اتساع رقعة الحرب التي جرت يوم عاشوراء، ومن ثَمَّ يمكن الاستفادة من ذلك بمعرفة الجيوش التي خرجت لقتال الحسين (عليه السلام) وهكذا يمكن رصد وضبط كثير من الوقائع والأحداث من خلال خطب الإمام الحسين (عليه السلام)، وأعني بها التي لم يهتم التاريخ تسجيلها، أما التي كتبها التاريخ وسجلها أهل البيت (عليهم السلام) فهي بحر ليس له ساحل ولا محيط.
ثم إن وجود مراقد متعددة وكثيرة لرأس الحسين (عليه السلام) في حلب ودمشق وعسقلان والقاهرة والمدينة وكربلاء والنجف وأمثال هذه المناطق ليدل دلالة واضحة على عظم المصيبة وكبر الرزية وأن رأس الحسين (عليه السلام) كان يطاف به في البلدان والفلوات من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان، كما جاء ذلك في الزيارات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، مثل الزيارات التي وردت عن الإمام الصادق (عليه السلام). والإمام المهدي (عليه السلام) وكذلك بقية الأئمة فقد وردت عنهم زيارات متعددة تشير إلى واقعة الطف وما جرى فيها من أحداث وفجائع ورزايا وأحزان.
• يؤخذ عليك انك من أكثر الناس دفاعاً عن الشعائر الحسينية التي تجري فصولها في ذكرى عاشوراء بما في ذلك مظاهر التشبيه والتطبير، واللطم وضرب السلاسل المجرحة وما شابه ذلك، فما هو ردكم على هذا المأخذ؟
- ليت أمامي ألف مأخذ ومأخذ من هذا القبيل، فإنه لشرف عظيم أن تتسم منابري ومجالسي ومحاضراتي بأجواء الدفاع عن هذه الشعائر التي يدل تعظيمها على تقوى القلوب، والقرب من الله ومن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، بل الدفاع عن الشعائر الحسينية صفة ملازمة للإيمان لا تنفك عنه بأي حال من الأحوال، ويكفي في ذلك دليلاً دامغاً وحجة بالغة، أن يكون الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون هم أول من أمر بإقامة هذه الشعائر والتشجيع عليها، وقد كانت سيرة العلماء الأعلام والفقهاء العظام ومراجع التقليد تنصب على هذا المضمار، من إحياء أمر أهل البيت (عليهم السلام) وذكرى عاشوراء ويوم كربلاء على مرور الليالي والأيام.. أضف إلى ذلك أن الناس إزاء الشعائر الحسينية إما مجتهدون، أو مقلدون. فأما المجتهدون فقد أفتوا بإقامتها وقالوا كلمتهم بمشروعيتها، وإنها من أنصع المظاهر التي تحيي الإسلام وتحفظه، وأما المقلدون فقد ساروا واتبعوا طريق الحق في إحياء تلكم الشعائر الحسينية، وكانوا على سبيل نجاة في ذلك.
• ما هي المعايير والموازين المعتمدة من قبلكم في إنجاح أو إسقاط الخطيب؟ أهي معايير الجودة دائماً، أم هناك أيضاً المعايير الأيديولوجية والأخلاقية والعلمية، وبتعبير أكثر دقة نقول: ما الذي يجعل من فلان خطيباً ناجحاً ومن آخر خطيباً فاشلاً؟
- دخل رجل اسمه جعفر بن عفّان على الإمام الصادق (عليه السلام) وكان هذا الرجل ممن يمارس قراءة العزاء على الحسين (عليه السلام) وهو من أهل البصرة، فقال له الإمام (عليه السلام) - ما مضمونه -: (بلغني أنك تقول الشعر - تنشد الشعر - في الحسين (عليه السلام) وتجيد) وهذه الكلمة الأخيرة (وتجيد) تفتح آفاقاً أمام خطباء المنبر وهو إن المطلوب الجودة في التعمق في الفكر، والجودة في الإلقاء، والجودة في الأسلوب وطريقة العرض، وهذا هو السر الكامن وراء نجاح وفشل الخطيب، فالذي يجتهد ويقرأ ويتأمل ويفكر فيما يقرأ ويستخرج طرقاً جديدة في الإلقاء والأسلوبية ويكون همه الدائم هو الصعود إلى أعلى مرتبة في الخطابة والبيان والمنبر، لاشك أن هذا الإنسان يصل إلى ذلكم المستوى، ويحقق نجاحاً منقطع النظير، بخلاف الذي يكسل ويترهل ويجمد على معلومات محدودة، ويقتصر على شيء محدود من الخطابة، فإنه لا يحصد إلا الفشل الذريع.. على أن لي ملاحظة هنا في هذا المجال وهي ان الفشل لا وجود له في عالم المنبر الحسيني، لأن الخطيب الحسيني مهما كان محدوداً، ومهما كان معدود الأفراد من المستمعين فإنه يسجل رقماً عالياً في النجاح، إذ إن إقامة العزاء وإحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) والبكاء على مصابهم وذكر مصائبهم، يجعل من الثواب ما تعجز عن حمله الملائكة، كما ورد ذلك في الروايات والأحاديث الصحيحة التي وصلتنا من أهل البيت (عليهم السلام) ومدرستهم.. كما في حديث الإمام الصادق (عليه السلام): (من بكى وأبكى على الحسين دخل الجنة) وهذا ينطبق على الفرد الواحد، كما ينطبق على المليون، ويمكن قراءة مراجعة الأحاديث هذه في الكتب الأربعة وفي كامل الزيارات والوسائل وما شابه ذلك.
• وبمناسبة ذكر المصادر فبأي كتاب للقراءة الحسينية تنصحون؟
- هناك كتب قيمة وجديرة بالقراءة والدراسة والمطالعة في هذا المجال، وأذكر منها على سبيل المثال:
1 - كتاب أسرار الشهادة، للدربندي.
2 - كتاب الخصائص الحسينية، للشيخ التستري.
3 - كتاب نَفَس المهموم، للشيخ القمي.
4 - كتاب العوالم، للشيخ البحراني.
5 - كتاب بحار الأنوار، للمجلسي.
6 - ثم لابد من قراءة كتب المقاتل مثل: مقتل الحسين، للمقرم، ومقتل الحسين لأبي مخنف، ومقتل الحسين لابن طاووس. يضاف إلى ذلك قراءة كتب التاريخ مثل الطبري، والكامل ومروج الذهب، ومقاتل الطالبيين... إلخ.
• هل لنا أن نعرف نوع العلاقة التي تربط الخطيب بالجماهير، وكيف يحافظ عليها، فالناس لهم حاجات وعندهم مشكلات، والخطيب هو أولى الناس بقضاء حوائجهم، والسعي لحل مشكلاتهم. فكيف يتعامل الخطيب، وكيف يستطيع أن يكون حاضراً مع الناس، وفي الوقت ذاته يرعى دروسه وفكره، ومنبره وينطلق في التحضير والدراسة والحفظ والقراءة. أي أنه كيف يكون في وسعه ان يوفق بين قضاء الحوائج وبين السعي في بناء المنبر الحسيني أروع وأجمل وأقوى بناء خصوصاً ونحن أصبحنا مكشوفين أمام العالم في هذه الأيام من خلال أجهزة الإنترنت ومحطات الفضاء والأقمار الصناعية التي تجري في الآفاق وتنقل للناس كل غث وسمين وشاردة وواردة؟
- هناك حقيقة يجب ألا تغيب عنا أبداً وهي أن الخطيب الذي ينزل إلى الساحة ويعيش مع الناس ويستمع إلى مشكلاتهم يكون - في العادة - أعرف الناس بمشكلات المجتمع وأدرى الناس بمعالجتها.. علماً أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان - كما يصفه الإمام علي (عليه السلام) - طبيباً دواراً بطبه - أي انه كان يدور بطبه لمعالجة النفوس الإنسانية، والمشكلات الاجتماعية، وفي هذا الحديث إشارة رائعة يذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي ان للمريض حالتين - كما هو معروف - حالة تجعله قادراً على الذهاب إلى الطبيب لطلب العلاج والشفاء، وحالة ثانية تستدعي إحضار الطبيب عنده، وذلك لسوء حالة المريض، وتدهوره الصحي... وحين يكون النبي (صلى الله عليه وآله) طبيباً دوّاراً بطبه، فإنه تكون حالة الأمراض الاجتماعية قد استفحلت واستشرت وتفاقمت حتى لم يعد هناك مجال لنقل المريض إلى الطبيب، وإنما لابد أن يحضر الطبيب بنفسه عند المريض، وهذه الحالة هي بالضبط حالة المنبر اليوم إذ ان المجتمعات في انتظار قدوم الطبيب الحسيني إليها، لوضع الدواء على الجرح، وإعادة الناس إلى الإسلام ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
هذا من جانب وجانب آخر يستطيع الخطيب الواعي الهادف أن يجعل من أوقاته وقتاً خاصاً للناس مثلاً واللقاء بهم بشكل لا يؤثر على انطلاقته في الدراسة والقراءة، وقد رأيت قسماً من كبار الخطباء حيث كان الواحد منهم يخصص من وقته ولو ساعة واحدة في الأسبوع للقاء بمن يريد لقاءهم، ثم يكون عنده شخص ثقة وأمين يجعله لمراجعة الناس وتفقد أحوالهم، هذا إذا كان له شأن في هذا المجال، أما أنا ورغم اتصالي المكثف بالناس على اختلاف مشاربهم وطبقاتهم ودرجاتهم في الإيمان والمعرفة، فإن لي رأياً آخر في هذا المجال وهو ان المنبر الحسيني بحد ذاته يعتبر مؤسسة ذات أبعاد فقهية ولغوية وتفسيرية، وأدبية وحضارية وإنسانية.. إن المنبر رسالة مقدسة تأخذ من الخطيب العالم كل وقته وليس له أن يفرِّط في وقت المنبر لأن التفريط جناية، خصوصاً وإنّ المنفعة تعود في النهاية على الناس وإلى الناس لإرشادهم وتوضيح طريقهم في الحياة، ومن هنا فإني أقولها بصوت رفيع إن على خطباء المنبر أن يحترموا أوقاتهم وأعمارهم وان لا ينفقوا منها حتى ولو ساعة واحدة في غير هذا الاتجاه، لأن المنبر اليوم يواجه تحديات في الإعلام والتبليغ والغزو الفكري والاختراق الأخلاقي الذي أخذ يهز قواعد التربية من الأساس، وعليه فإنه لابد من أن يكون للمنبر الحسيني دور فعال وقوي وثابت.
انتظرونا الجزء الثاني