كم يطرح السؤال عن الخليفة الشرعي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكم ينادى بإسدال الستار على الجواب والسؤال ويلهج بـ «ما لنا وللتاريخ، نحن أبناء عصرنا ولسنا مسؤولين عن ما مضى»، رغم ان هذه المقولة تتجاهل أن هوية الحاضر مكوناتها مبينة على عناصر احداث الماضي، وأن تاريخ الامم هو الصانع لهويتها الحاضرة الماثلة، وأن وعى الأمم وثقافتها ودرجة تمدّنها وحضارتها وليد لوعيها وتفعلها بالعبر المستخلصة من تاريخها.
ومن الأمور الراهنة المبنية على عمن الرؤية تجاه الماضي هو السؤال عن الخليفة الحاضر على المسلين من هو؟ ومن يكون؟ وما هي الدلائل عليه؟.
لا ريب أن المسلمين اتّفقوا على خلافة المهدي عليه السلام من ولد فاطمة عند ظهوره وصلاة النبي عيسى ابن مريم عليه السلام خلفه، وانه قد بشّر به سيّد الرسل صلى الله عليه وآله وسلم وان الله تعالى يفتح على يديه البلدان ويُظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، وبه يتحقق الوعد الإلهي بإظهار الإسلام الذي هو دين جميع الرسل على كافة أرجاء البسيطة.
فلا ريب أنه الخليفة الأخير من الذين بشّر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث المتواتر المروي عن الفريقين أن بعده اثنا عشر خليفة، كــــلهم من قريش، وأن الدين لا يزال عزيزاً ما بقي هؤلاء الإثنا عشـــر، وأن الأمة ظاهرة على من عاداها ما بقي هؤلاء الإثنا عشر، بل أمر الناس (جميع البشر) لا يزال بخير ما بقي هؤلاء الاثنا عشر، أي ما بقيت سلسة الإثنا عشر.ويكفي هذا المقدار من إنضمام الاحاديث النبوية ليخرج الباحث الى الحقيقة أن المهدي عليه السلام هو الباقي الحي القائم من هذه السلسة الذي تحفظ به أمر نظام البشرية فضلاً عن حفظ أصل بقاء كيان الأمة الاسلامية وأهل الإيمان، بما يمارسه من دور خفي الذي عبّر عنه بالغيبة والاستتار كي يظل مأموناً على حياته وممارسة دوره الفاعل بتوسط مجاميع من الاولياء والاصفياء المعبّر عنهم في روايات الفريقين بالأوتاد والأركان والنقباء والسياح والابدال وغيرها من المجاميع النافذة في المجتمعات المختلفة كيانات وأنظمتها.
فهو حاضر في كبد الحدث البشري متصدّي للأمور فاعل ناشط قائم بالأمر غير قاعد عنه ولا متقاعس، حيّ لا هالك، حاضر لا متباعد، ذاهب سالك في الأودية النائية مهما تطاول هذا الاستتار الخفي ولم ينكشف بالظهور حقيقة دوره ونشاطه الحاسم في مصير نظام البشرية.
فالظهور ليس إلاّ إنكشاف لحقيقة ما قد قام ويقوم به القائم من آل محمد عليه السلام من مهام في تدبير النظام البشري في مجالات شتى.
وهذا الاعتقاد بوجود خليفة الله تعالى «اني جاعل في الارض خليفة» وبوجود خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الخلفاء اثنا عشر كلهم من قريش)، (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)، الخليفة على المسلمين في الوقت الراهن الحاضر، هذا الاعتقاد يضفى برؤية وسطية في الوقت الراهن الحاضر، نظرية المسؤولية الملقاة على عاتق الأمة وعلى النخبة وعلى أهل العلم تجاه الإصلاح الاجتماعي وتغيير الفساد والقيام باقامة المعروف ودفع المنكر.
هذا الإعتقاد يكوّن نظرية متوازنة في تحديد المسؤولية والتكليف، الاختيار في التغيير وللإصلاح لا مع مسلك التفويض ولا الجبر، فليس المسؤولية مفوّضة بكاملها للأمة وتخبتها ورجالات العلم فيها تفويضاً تاماً على اختلاف فهم المصدر والمرجع الأول والأخير.
ولا المسؤولية ساقطة عن كاهل الامة ورجالاتها تحت عنوان الجبر التاريخي أو الجبر القدري من القضاء الإلهي، أو الجبر الاجتماعي أو جبر البيئة والظروف.
بـــل المــــسؤولية والتكليف على الأمة ونخبهـــا ورجالات العلم هي بيـــن التفويض وبين الجبر، أمر بين أمرين، وهو الاختيار ضمن حدود صلاحيات الاختيار، لا التفويض المطلق ولا الجبر المطلق، بل وسط بينهما. وهذه الرؤية للاختيار ضمن حدود الاختيار وصلاحياته هي تجليّ لمعنى عظيم من معاني الانتظار، انتظار الظهور انتظار الحضور والقدوم، إذ لم نفتقد الخليفة ولم يذهب عن ساحة الحدث لنترقّب قدومه وحضوره، بل خفيت هويته علينا واستقرت معالم شخصيته عن معرفتنا مع كونه صاحب الدور الاول وولي التدبير المهميمن، فأصل زمام التدبير بيده، وهذا باعث على الأمل باستمرار والطمأنينة ولإبتعاد اليأس عن قاموس همم الأمة ورجالاتها في القيام بالإصلاح وتغيير الفساد، وهذا بخلاف رؤية التفويض، وأن زمام الأمور كلها بيد الأمة، فإن مردودها العكسي هو حصول اليأس وانعدام الأمل عندما ترى الأمة نفسها عاجزة عن الوصول إلى الهدف المنشود أمام قوة أعدائها، وعندما ترى ان قواها محدودة تجاه ما يملك عدوّها من طاقات وقدرات.
وأما على رؤية الاختيار ضمن حدوده ومدار صلاحياته، فإن الاعتقاد بوجود تدبير مهيمن خفي على مقادير النظام البشري فضلا عن الأمة يوجد دوام الأمل وتنبض الحيوية ويتدفق النشاط الدائم بلاكلل، ولن تكون هناك في قاموس الأمة هزيمة مستأصلة لها ولا فشل حاسم في أدبياتها واستراتيجيتها، كل ذلك لحتمية ظهور الدين على كافة أرجاء الارض على يد المهدي عليه السلام وحتمية بقاء الارض في بيئاتها المختلفة تحت حفظ تدبيره وإدارته الفعلية ومن ثمّ «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملتُ لكم دِينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا» إذ بولاية الخلفاء الاثني عشر وتدبيرهم لنظام الملّة والدين والامة لن يكتب استئصال لهذا الدين ولن يقدر غلبة للعدو مقوّضة لجذور كيان الأمة، كما جاء في مفاد الحديث النبوي عين ما هو مفاد آية الغدير في سورة المائدة.
لكن كل ذلك لا يعني في الجانب الآخر نظرية الجبر في الإصلاح الاجتماعي وتغيير الفساد في كلّ مجالاته لبدع الأمة ورجالاتها في بلهنية من العيش ورغد رفاه مغدق، بل هو أمر بين أمرين، فكما لا تفويض في الفعل والادارة والقيادة للنظام الإجتماعي السياسي، فكذلك لا جبر في الفعل الجماعي السياسي، بل هناك اختيار إرادة للأمة ضمن حدود الاختيار تحدد موقفها تجاه مسيرة الإصلاح الاجتماعي وفق الرؤية الإلهية.
وكما أن نفي التفويض في المجال السياسي والاجتماعي يفرز نوعاً من الشعور بالرقابة من الجهاز الحكومي الإلهي الذي يديره المهدي عليه السلام فيكون قوّة ردعٍ فكرية ونفسانية وسياسية وأمنية، ردع للأمة ورجالات الإصلاح عن أن يطغوا عن الجادة المستقيمة (فاستقم كما أُمرت ومَن تاب معك ولا تطغوا) كي لا يعود دعاة الإصلاح بالأمس هم روّاد الفساد في اليوم الحاضر، وهذه عظمة ديناميكية وحيوية الإصلاح في عقيدة الانتظار للمهدي عليه السلام والرؤية الصحيحة لعقدية الغيبة بمعنى خفاء واستتار التدبير وسرّية الإدارة المهدوية.
فإن الشعور بالرقابة الدائمة الميدانية على الصعيد الخارجي صمام أمانٍ وضمانة لوجود خطّ الإستقامة في الأمة ولو ضمن فئة منها وبمراتب نسبية.
فكذلك نفي الجبر القدري والجبر الإلهي والجبر الاجتماعي وغيرها من أطر الجبر، فإنّ نفيها ينفي عن الأمة تقاعسها وتخاذلها وتخلّفها عن نماذج ركب الإصلاح فإن نموذج الإصلاح لا ينحصر في أسلوب خاص وطريقة معينة، بل له أدوار مختلفة، ومنه ما هو معلن على السطح ومنه ما هو في الظّل ومنه ما يتناول الهيكل والشكل السياسي والزيّ البيئي الاقتصادي وغيرها من أنحاء وقوالب وقنوات الإصلاح، فنفى الجبر لا يقرّ للأمة قرارها في ترك باب الامر بالمعروف وإقامته ودفع المنكر وإزالته في كلّ الأصعدة بحسب الدرجات والمراتب المتكثّرة.
فنظرية الإصلاح على ضوء عقيدة الانتظار وغيبة الخفاء والسرية لتدبير الخليفة الفعلي على المسلمين نظرة وسطية بين إفراط الأمل أو تفريط اليأس، وسطية بين الجبر القدري أو التفويض العزلي، وتوازن بين الجمود عن المسؤولية الاجتماعية أو التفرد والاستبداد في تولي المسؤولية والاضطلاع بها، كل ذلك لعدم تغييب الخليفة الفعلي على المسلمين عن الخريطة السياسية الاجتماعية.
وكيف لا تكون علاقته فعلية في الحاضر الراهن وقد أنبأ القرآن بذلك مشفوعاً بالاحاديث المتواترة النبوية والبراهين العقلية والعلمية التجريبية، كما أشار تعالى في قوله «إنّي جاعلٌ في الارض خليفة» يشير بذلك إلى الاستخلاف الاصطفائي الخاص. إن الله اصطفى، لضرورة في ضمن الإستخلاف العام لبني البشر بني آدم لتحقيق عبادة وعمارة الأرض، وأن ذلك الخليفة الذي يصطفيه الباري تعالى معادلة دائمة ما دامت الطبيعة البشرية على الأرض، فذكر الجملة اسمية من دون تقييدها بالنبوية أو الرسالة أو باسم آدم، وأبرز تعريف ذكر تعالى لذلك الخليفة أنّه به يدفع مخاوف الملائكة من وقوع الفساد في الأرض في المجالات المختلفة بنحو طاغ مطبق ومن وقوع سفك للدماء واستئصال النسل البشري، فوجوده وتدبيره ضرورة في اصلاح نظام الحياة للبشر على وجه الأرض، بما يزود من البرنامج الالهي التدبيري الذي يتنزل عليه من معلومات إحصائية خطيرة حول الكيان البشري وبقية الكائنات الأرضية، يتنزل عليه في ليلة القدر كما أشارت إليه آيات سورة القدر والدخان والنحل وسورة غافر وغيرها من الآيات والسور ليس المقام مصبوب للبحث فيها، وكذلك الأحاديث النبوية كحديث الثقلين وحديث الخلفاء بعد اثنا عشر وأحاديث الصادر عنه صلى الله عليه وآله وسلم حول المهدي عليه السلام والتي قد رصدها بعض المحقّقين وكذلك بعض مراكز الحديث، فوصل استقصاؤهم إلى اثنا عشر ألف حديثاً من مصادر شتى.
وكذلك الدليل العقلي والعلمي التجريبي، فإن العناية الإلهية بخلق الفرد الكامل في الطبيعة الإنسانية لإيصال سائر الافراد إلى الكمال ضمن تدبير النظام الاجتماعي السياسي البشري، قد حفلت كتب الحكمة قديما او حديثا ببسط وشرح هذا الدليل حتى في الفلسفات البشرية القديمة.
واما الدليل العلمي التجريبي، فإن البيئات الكائنة المختلفة التي تحيط بالإنسان ـ فضلاً عن نظام وجود الإنسان من طبقات النفس والروح والبدن ـ لا ضمان من تخريبها وزوال نظامها الكوني لو خلّيت البشرية تعبث فيها كمختبر لتجاربها وفرضيات النظريات المختلفة، فإن من ذلك مخاطرة للأمن الحياتي للبشري بتهديد نظام الكائنات كما تعترف بذلك إحصائيات التقارير العلمية في الحقول المختلفة التي برزت في العقود والسنين الماضية.
وبكلمة؛ إنّ الأدلة قائمة على ضرورة أن الخليفة الإلهي على البشرية خلافته فعلية قائمة وهو القائم بالأمر الإلهي في النظام البشري بالفعل في الوقت الراهن كما كان ويكون إلى يوم انكشاف أستار السرية التي يعيش فيها، وهو يوم الظهور.
وهذا معنى تقارن الثقلين الذين أُمرنا بالتمسك بهما، فإن حسبان أن معنى التمسك بالعترة هو مجرد وصدف التمسك بتراثهم الروائي وسيرتهم عليهم السلام حسبان واهي.
فإن استغناء البشرية بذلك التراث عن الإمام القائم بالفعل بتدبير الأمور في الحاضر الراهن يساوي الإعتقاد السائد لدى جملة من الناس بالاستغناء بالمصحف الشريف ـ وهو القرآن الصامت ـ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في قولتهم «حسبُنا كتاب الله» ولم يدروا أن الكتاب المبين واللوح المحفوظ في عالم الملكوت وأم الكتاب لا يصلوا إليها من خلال الاستبداد بعقولهم فهم المصحف الشريف، فإنه لا يوصلهم إلى القرآن الكريم في الكتاب المكنون الـــــــذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، وبذلك فيكون ضيّعوا التمسك بالكتاب بعد تضييعهم وتفريطهم بالتمسك بالعترة.فكذلك حال من يقول حسبنا المصحف الشريف وتراث أهل البيت، فإن دعوى التمسك بالقرآن الصامت وبالإمام الصامت لا يغني عن القرآن الناطق والإمام الناطق عن أم الكتاب واللوح المحفوظ والكتاب المبين، فإنه لا وسيلة للتّمسك بتلك الطبقات الملكوتية من الكتاب إلا بالإمام الحيّ القائم بما يتنزّل عليه من الأمر في ليلة القدر وليلة الجمعة وكلّ ليلة وآنٍ من الأمر الإلهيّ في إدارة البشر.
وبهذه الرؤية العقيدية للخليفة الإلهي الحاضر الحي على البشر والمسلمين يتسنّى رسم مسيرة الصلاح والإصلاح وبيان خريطة النظام الاجتماعي السياسي، وهو نظام التوحيد الإسلامي.
فإن نظام التوحيد الذي يرسم بعيداً عن عقيدة القدرية وعقدية الجبر وعقيدة الارجاء والتفويض العزلي، هو بتصوير وتفسير ورسم حاكميّة الإله سبحانه في نظام البشر فضلا عن حاكميته في صلاحية وسلطة التشريع (ان الحكم الا لله) وهو الحكم في التنفيذ والتشريع والقضاء وكل مجال (أليس الله بأحكم الحاكمين) فعزل إرادة الباري عن مقدرات النظام البشري وتفويض ذلك لإرادة البشر هو تفويض عزلي في كائن الانسان الكبير وهو مجموع الاجتماع الانساني، وهو لا يختلف في حقيقته عن التفويض العزلي في الإنسان الصغير وهو الفرد.
وكذلك الحال في نظرية القدرية الجبرية أن كل الأمور بالقدر والقضاء المحتوم في العلم الإلهي ولا حفل للإرادة الإنسانية في الفعل الاجتماعي ولا الفعل الفردي سيان هما في فكرة القدر، يعني الجمود عن الإصلاح وتغيير الفساد، والتنكر لعقيدة جعل الخليفة الاصطفائي الإلهي التي نادى بها القرآن الكريم.
وانه الضامن لاستمرار النظام البشري والحامي له عن خطر الزوال والفناء والدثور.
فالوسطية وعقيدة الاختيار تتمثل في معرفة الخليفة الفعلي الراهن على البشر والمسلمين في عصرنا الحاضر.