بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
المسألة شائكة وطويلة الذيل وقد أشبعها العلماء بحثاً لأهميتها ولا مجال هنا لاستيعاب كل ما ذكر في هذا الصدد ولكن أكتفي بما تختزنه ذاكرتي مما قيل تعقيباً على ما ذكره السيد الخوئي قدس سره ، بعد إيضاح ما ذكره من الأمور المبعدة لصحة هذه الكبرى ببيان موجز بعد حلّ الإشكال الثالث الذي ذكره الى إشكالين مستقلين فتكون الإشكالات المذكورة في كلامه قدس سره خمسة لا أربعة ، وهي :
الإشكال الأول / إن منشأ دعوى الشيخ الطوسي التسوية بين مراسيل ابن ابي عمير وصفوان والبزنطي ومسانيدهم حيث قال في العدة : ( وإذا كان أحد الراويين مسندا والآخر مرسلا ، نظر في حال المرسل ، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به فلا ترجيح لخبر غيره على خبره ، ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به وبين ما أسنده غيرهم ، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم ) هي دعوى الكشي إجماع الطائفة على تصحيح ما يصح عن بعض الرواة حيث قال : ( أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عن هؤلاء وتصديقهم .... منهم : يونس بن عبد الرحمن ، وصفوان بن يحيى بياع السابري ، ومحمد بن أبي عمير ، وعبد الله بن المغيرة ، والحسن بن محبوب ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ) فمنشأ دعوى الشيخ هي دعوى الكشي وليست هي دعوى مغايرة لها ، ولما لم تثبت صحة دعوى الكشي وأنه ليس من التوثيقات العامة ما يسمى بأصحاب الإجماع فكذا دعوى الشيخ لا تثبت ولا تعتبر توثيقاً عاماً .
لا يقال / لو كانت الدعويان واحدة لما اقتصر الشيخ على ذكر الثلاثة ولذكر غيرهم ، فإن عدة من ذكر هم الكشي ثمانية عشر رجلاً .
فإنه يقال / إن الشيخ لم يقتصر على ذكر الثلاثة بل قال ( وغيرهم ) بعد ذكر أسمائهم .
وأجيب / إن بين الدعويين مغايرة فعبارة الكشي لا تدل على أكثر من أن الأصحاب أجمعوا على تصديق هؤلاء والشهادة في حقهم أنهم من أهل العلم والفقه لا أنهم لا يروون الا عن ثقة ، وأما عبارة الشيخ فهي صريحة في هذا المعنى حيث قال ( الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا عمن يوثق به ) . نعم إن استظهرنا أن كلام الكشي ظاهر في ادعائه ذلك أمكن إرجاع دعوى الشيخ إليها .
الإشكال الثاني / إن الشيخ استدل على أن الثلاثة أي ابن أبي عمير وصفوان والبزنطي لا يروون الا عن ثقة بتسوية الأصحاب بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم ، لكن على تقدير تمامية هذه التسوية ووقوعها فالاستدلال غير تام إذ لا يلازم من تسوية الطائفة بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم أنهم لا يروون الا عن ثقة لاحتمال أن يكون منشأ تسوية الطائفة شيء آخر غير أنهم لا يروون الا عن ثقة ، فلعل الطائفة سوّت بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم بناء على بعض المباني الرجالية من قبيل القول بأصالة العدالة وأن كل راوٍ لم يثبت ضعفه فهو ثقة حتى يدل دليل على عدم وثاقته فلعلهم بنوا على حجية مراسيل ابن ابي عمير اعتماداً على هذه الأصالة لا لدعوى أنه لا يروي الا عن ثقة ، ولما كنا لا نرى صحة هذه الكبرى الرجالية فالتسوية غير حجة في حقنا ولا تعتبر شهادة حسية من الأصحاب بوثاقة كل من يروي عنه ابن أبي عمير حتى تكون شهادة حجة في حقنا .
أقول ويمكن أن يجاب / إن السيد الخوئي وإن قال إن هذا هو المظنون قوياً لكنه بعيد لأن كبرى أصالة العدالة محل خلاف فلو كانت هي منشأ التسوية لما أجمعت العصابة على التسوية فالشيخ يدعي الاتفاق على أن الطائفة سوت بين مراسيل هؤلاء ومسانيد غيرهم فلو كان منشأ هذه التسوية هو اعتمادهم على هذه الأصالة لما حصل الاتفاق لأن الأصالة ليست محل اتفاق حتى لو قلنا بأن القول بها كان متعارفاً فهذا لا يحقق الاتفاق ، هذا مضافاً الى أن دعوى كون منشأ التسوية هو أصالة العدالة لازمه شهادة الأصحاب الحدسية بوثاقة كل من يروي عنه ابن أبي عمير بخلاف ما إذا قلنا أن منشأ التسوية أنهم لا يروون الا عن ثقة فهي شهادة حسية بوثاقة كل من يروي عنه ، وما لم تقم قرينة ودليل على أنها حدسية فالأصل كونها حسية وذلك لأصالة الحس في الشهادة ولا يكفي الظن القوي في ذلك ما لم يبلغ حد الاطمئنان .
الإشكال الثالث / إن صحة هذه الدعوى وهي أن ابن أبي عمير وغيره لا يروون الا عن ثقة تتوقف في ثبوتها على تصريح نفس ابن أبي عمير مثلاً أنه لا يعتمد الا الرواية عن الثقات ، والا فمن أين للأصحاب أن يعلموا أن هؤلاء الثلاثة لا يروون الا عن ثقة ما لم يصرح نفس هؤلاء بذلك ، ولما لم يثبت تصريحهم بذلك إذ لم يدعِ أحد ذلك عنهم فلا طريق لنا للعلم بأنهم لا يروون الا عن ثقة .
وأجيب / بأن علم الأصحاب بذلك لا يتوقف على تصريح نفس ابن أبي عمير ونحوه بذلك فمن الممكن أن يثبت لهم ذلك ولو من دون تصريح ابن أبي عمير وغيره بذلك وقد ذكروا أكثر من طريق لثبوت ذلك ذكر الشهيد في الدراية بعضها ، منها : الاستقراء وتتبع روايات هؤلاء الثلاثة بأن يدعى أن الأصحاب استقرؤوا روايات هؤلاء فوجدوا أنهم لا يروون الا عن ثقة . ومنها : حسن الظن بهؤلاء الثلاثة وشدة الوثوق بهم أنهم لا يروون الا عن ثقة . ومنها : ظهور حال هؤلاء الثلاثة في أنهم لا يروون الا عن ثقة فالطائفة وجدت أن ديدن هؤلاء الثلاثة ولو من خلال تلامذتهم أنهم ملتزمون بعدم الرواية الا عن الثقة حتى تعارف ذلك عنهم واشتهر فصار حقيقة متفق عليها . وهذا الوجه إن كان وجيهاً فضعف الأولين ظاهر
الإشكال الرابع / إن هذه الدعوى - أنهم لا يروون الا عن ثقة - لو تمت في المسانيد فهي لا تتم في المراسيل خصوصاً مراسيل ابن أبي عمير ، لأن لازم هذه الدعوى أن ابن أبي عمير يعرف عمن يروي والا كيف يثبت أنه لا يروي الا عن ثقة إذا كان جاهلاً بمن يروي عنه ، ولما كان في مراسيله هو يجهل من يروي عنهم فكيف يقال أنه لا يروي الا عن ثقة فهو بنفسه لا يعرف عمن يروي . وأما جهله في مراسيله بمن يروي عنه فظاهر بعد ما ذُكر في ترجمته أنه اضطر الى أن يروي مرسِلاً بسبب ضياع كتبه فبعد خروجه من السجن اعتمد على حافظته في رواية ما كان في كتبه وقد اقتصرت تلك الحافظة على متون الأحاديث وضاعت عنه الأسانيد وأسماء الرواة ، فإذا كان بنفسه لا يعرف عمن يروي وأنهم ثقات أو لا فكيف للطائفة أن تقف على ذلك ؟ .
وأجيب / لما كانت الدعوى بأن ابن أبي عمير لا يروي الا عن الثقة مبنية على ظهور حاله بذلك فلا يضر جهله بمن يروي عنهم ، وبعبارة أوضح أنه لما كان ديدن ابن أبي عمير أنه لا يروي الا عن ثقة فهو لم يروِ عن ضعيف أصلاً قبل أن يفقد الأسانيد فكل ما كان يدونه في كتبه ويرويه إنما كان يرويه عن ثقات وبالتالي نسيانه لتلك الأسانيد بعد سجنه وتلف كتبه لا يلغي الوثاقة عمن روى عنهم تلك الأخبار .
الإشكال الخامس / إن هذه الدعوى منقوضة بثبوت رواية هؤلاء الثلاثة عن الضعاف فكيف يدعى أنهم لا يروون الا عن ثقة
إن قلت : هذا غير ضائر فإن المقصود أن كل من يروي عنه ابن أبي عمير مثلاً فهو ثقة عنده فهو يشهد بوثاقة كل من يروي عنه فإذا ثبت في بعض من يروي عنه خلاف ذلك سقطت شهادته في خصوص من من ثبتت شهادة مخالفة في حقه .
قلنا : لايصح ذلك ، بل الشيخ أراد بما ذكر : أنهم لايروون ولايرسلون إلا عن ثقة في الواقع ونفس الامر ، لامن يكون ثقة باعتقادهم إذ لو أراد ذلك لم يمكن الحكم بالتسوية بين مراسيلهم ومسانيد غيرهم ، فإنه إذا ثبت في موارد روايتهم من الضعفاء - وإن كانوا ثقات عندهم - لم يمكن الحكم بصحة مراسيله ، إذ من المحتمل أن الواسطة هو من ثبت ضعفه عنه ، فكيف يمكن الاخذ بها ؟
أجيب / بأن غايته وقوع التعارض في من ثبت ضعفه من حيث الجرح والتعديل حتى لو كان المراد التوثيق في نفس الأمر فنُعمل قواعد التعارض في هذا الباب
وأجاب السيد الشهيد أيضاً بإمكان العمل بالمراسيل حتى مع ثبوت بعض الضعاف فيمن يروي عنهم ابن أبي عمير مثلاً وذلك بحساب الاحتمالات بأن يقال إن احتمال كون الوسيط في كل مرسلة على حده أحد الضعاف احتمال ضعيف في مقابل حصول الاطمئنان أنه ليس منهم فإن عدد من يروي عنهم ابن أبي عمير يقارب الأربعمئة في حين من ثبت ضعفه منهم جزماً ستة فقط ووقع الكلام في سبعة آخرين لم يثبت ضعفهم جزماً فكون الراوي في هذه المرسلة أو تلك من أحد هؤلاء الستة أو أكثر بقليل وليس من غيرهم الذين يقاربون الأربعمئة احتمال ضعيف .
وعلى أساس هذا ذهب قدس سره الى حجية مراسيل ابن أبي عمير وفقاً لنظرية حساب الاحتمالات .
هذا ما يحضرني في هذه العجالة
وفقكم الله تعالى