الجزء الثاني :تحليل لطبيعة الانتفاضة وتفنيد شيهات أعدائها
ولنعد قليلاً الى اكاذيب (محمد حسنين هيكل) التي فاقت حد التصور (في مقالة لاحد كتّاب مصر المعروفين وأظنّه انيس منصور مع احدى القنوات
الفضائية العربية التي تبث من اوربا، قال الكاتب في معرض اشارته لحالة الكذب عند هيكل، قال: ان محمد حسنين هيكل كان قريبا جدا للرئيس المصري... لدرجة انه يسمح فيها لنفسه ان ينقل عنه مالم يقله الرئيس قط)... يقول هيكل: لم يكن حراس الثورة الايرانيون هم فقط الذين دخلوا بسلاحهم الى مناطق جنوب العراق، واذا الفتنة تتحرك... كانت حركة الشاه سابقا في الجنوب العراقي مؤيدة ومعززة بنشاط سري قامت به الموساد بقصد ارباك احكومة بغداد...
(ثم يطرح كذبته الكبيرة).. ظهور حكومة مؤقتة شيعية الهوية مقرها في طهران ويتصدر صفوفها السيد محمد باقر الحكيم...
فما هي الفتنة التي تحركت؟ هل انتفاضة الشعب ضد جلاديه هي الفتنة؟ ومن اين جاء بالمعلومات عن نشاط الموساد في جنوب العراق؟ لقد قرأنا عدة مصادر عن نشاط للمخابرات الاسرائيلية في شمال العراق، وذلك للاوضاع غير الطبيعية التي سادت فيها نتيجة سنوات القتال مع السلطة المركزية (منها كتاب دور الموساد في العراق والدول العربية وكتاب الصحفي الامريكي جوناثان – دروب كردستان كما سلكتها) ولم نقرأ لحد الان عن نشاط الموساد في جنوب العراق، وعلى كل حال ما هي علاقة الموساد بانتفاضة شعبية قام بها عراقيون ضد نظام دكتاتوري ظالم يحكم العراق منذ اكثر من ربع قرن بالحديد والنار؟ ام هي الوسيلة التقليدية لتشويه حدث الانتفاضة الناصع امام الرأي العام العربي والاسلامي من خلال اقرانها باسرائيل والموساد...
مَن مِن القرّاء والمتابعين للقضية العراقية سمع بتأسيس حكومة مؤقتة شيعية مقرها في طهران ويتصدرها سماحة السيد محمد باقر الحكيم؟ واذا كان الخبر غير صحيح فلأية اهداف يختلق هيكل هذه القصة المفبركة؟
هل حقا: ان الوفا من الناس كانوا يقتحمون اطلال المخازن وينهبون ما فيها من ذخائر ومؤن ويدخلون في اشتباكات دموية مع جيش عائد مكسور القلب وثائر الاعصاب من معركة غير متكافئة... كما يقول (هيكل في كتابه) وبالنص...؟ ام هو اسلوب اخر لتصوير المنتفضين وهم كل الشعب بصورة الخونة الذين يطعنون جيشهم من الخلف وهو يصارع عدواً خارجيا..؟
اليست الحقيقة التي يعرفها كل العراقيين: ان افراد ذلك الجيش العائد المكسور كانوا اول من اطلق شرارة الانتفاضة الشعبانية عند وصولهم الى مدينة البصرة بعد الانسحاب من الكويت وكان كل يوم جديد تدخله الانتفاضة الشعبية يشهد التحاق العشرات بل المئات من مراتب الجيش العراقي مع اسلحتهم بصفوف الثوار المنتفضين لوعيهم الكامل بان كل ما تعرض له الوطن والجيش والشعب من كوارث وإذلال هو بسبب جرائم نظام صدام وسياساته الحمقاء والمشبوهة وآخرها غزوه لدولة الكويت الجارة... وهي الحقيقة التي عرفها النظام ايضا، فاخذ يعتمد فقط عند تصديه للشعب ولثوار الانتفاضة، على نخبة قوات الحرس الجمهوري واجهزة القمع الخاصة المتكونة على اساس عشائري ذو صلة بعائلة صدام ومناطق تكريت والحويجة وبيجي... ومن اشقياء وعصابات محترفة للقتل، اضافة الى اعتماده على تشكيلات المرتزقة عرب واجانب من قبيل ما يسمى بمنظمة مجاهدي خلق الايرانية وما يسمى بجبهة التحرير العربية...
هل حقا اعتبرت ايران الظروف التي سادت العراق بعد غزو الكويت وبعد بدء الهجوم الجوي والبري لقوات التحالف الغربي، فرصتها النادرة للانتقام من النظام العراقي وفرصة لمعاودة برنامجها التوسعي لاقتطاع جنوب العراق.. كما يقول بالنص مؤلف كتاب (حرب تلد اخرى)؟ ام تجددت اطماع الشاه محمد رضا بهلوي في جنوب العراق مرة اخرى في التسعينات (كما يدعي محمد حسنين هيكل)...
فلماذا اذن لم تحرك ايران قواتها وهي فرصة نادرة حقا في ظل شبه انهيار للسلطة المركزية في ثلاثة ارباع العراق وفي ظل سيطرة قوى شعبية غير معادية لها، بل وتحتاج الى دعمها... لماذا لم تدخل القوات الايرانية الى بعض المناطق العراقية وتستقر فيها كما تفعل بالضبط القوات التركية بين فترة واخرى؟ ولماذا لم تلبي نداءات واستغاثة المنتفضين والعراقيين عامة ومنهم (الالاف من النساء والاطفال والشيوخ المعتصمين في الصحن الحسيني وصحن ابي الفضل العباس عليهم السلام والذين قُتلوا جميعا فيما بعد على يد قوات حسين كامل صهر الطاغية المقبور) خاصة بعدما بدأت اجهزة قمع صدام بتدمير المدن المنتفضة؟ ولماذا لم تسع الى توفير اسناد لوجستيكي يضمن صمود المنتفضين في المناطق والمدن القريبة من حدودها على الاقل، كما كانت تفعل في عهد الشاه، ولهذا بقيت الحركة الكردية مستمرة ومستقرة في مناطقها في كردستان العراق لغاية اتفاق الشاه مع صدام عام 1975. ولماذا لم تسمح بعبور السلاح الثقيل الذي تملكه قوات المجاهدين العراقيين الى داخل العراق؟ ولم تقدم اية اسلحة ثقيلة (دبابات - مدفعية ثقيلة – صواريخ متوسطة المدى – اسلحة مضادة للدبابات والدروع – صواريخ مضادة لطائرات الهليكوبتر وغيرها) وهي اسلحة كانت ستؤثر كثيرا على استمرار الانتفاضة وعلى احتفاظ الثوار بالمناطق المحررة...؟!
حقا كانت فرصة ثمينة لايران لمسك اوراق مهمة داخل العراق، تستطيع بواسطتها الضغط بشدة على النظام الحاكم في بغداد وعلى بعض الدوائر الاقليمية والدولية، حتى ارغامها على الحصول على مكاسب ومطالب تهمها، الا ان سياسات الجمهورية الاسلامية الايرانية خلال الفترة التي تلت الثاني من آب 1990 (أي بعد غزو الكويت) لا تدل اطلاقا على مثل تلك النوايا، بل يعتبر نفس النظام الحاكم في بغداد (وبغض النظر عن تهريج ابواقه الاعلامية) المواقف الرسمية الايرانية مقبولة من زاوية نظرة...
وكل الدوائر الخليجية والاقليمية والغربية اعتبرت الموقف الايراني آنذاك متزناً ومعقولا، كان بامكان القيادة الاسلامية الحاكمة في ايران ان تبرر تدخلها في العراق خلال فترة الانتفاضة (في حالة حصوله)، خاصة وهي قد تعرضت ولثمان سنوات الى عدوان عسكري عراقي شامل، من خلال عدة مبررات من قبيل خوفها على امنها القومي جراء أي تطورات غير مناسبة داخل العراق او لكون العراق القاعدة المركزية للقوى المضادة للنظام الاسلامي الحاكم في ايران (أي نفس المنطق التركي الرسمي الذي يحتل مناطق غير قليلة من كردستان العراق) او خوفها من تحول العراق الى منطقة نفوذ متقدمة لخصمها التقليدي أي الولايات المتحدة الامريكية.
الا انها أي الجمهورية الاسلامية وكما يبدو فضلت ان لا تستثمر تلك الفرصة الثمينة (والتي ربما لا تتكرر في الامد القريب) وفضلت احترام تعهداتها الدولية وقدمت مصداقا آخر على انسجامها مع مبادئها المعلنة في عدم رغبتها في أي تمدد لنفوذها خارج حدودها المعروفة واحترام واقعيات الساحة الاقليمية حتى وان كانت تتعارض مع مصالحها البعيدة... وهي السمات المعروفة للسياسات الايرانية التقليدية، وهي السياسات التي قد لا نرى صحة بعضها آنذاك..
اذن فالدور الايراني المزعوم في الانتفاضة الشعبانية هي اكذوبة اخرى اطلقتها اجهزة نظام صدام لايجاد مخرج من عزلته الاقليمية والدولية من خلال اعادة طرح دوره الكاذب كخط دفاع متقدم عن المصالح الغربية ضد ايران... وهو المبرر الذي كشف غزو الكويت مدى تفاهته وتهافته..
توجد شهادات ميدانية لعدد من ثوار الانتفاضة تؤكد قيام عناصر من أجهزة المخابرات العراقية خلال فترة الانتفاضة بتوزيع والصاق شعارات وصور زعماء سياسيين ودينيين ايرانيين ومن ثم تصويرها بالفيديو، ومن بعد قامت احدى الدول المجاورة للعراق والمؤيدة له خلال غزو الكويت بايصال تلك الاشرطة الى الادارة الامريكية للتأثير على موقفها من النظام ومن الانتفاضة من خلال الترويج لاكذوبة التدخل الايراني، ولازالت بعض الدوائر الغربية ترفع شعار التحذيرمن دور ايراني في العراق لاخافة الحكومات الخليجية ومنعها من التعاون مع ايران لصالح استقرار وأمن المنطقة، وكذلك لتبرير موقفها الشاذ الغريب من قوى المعارضة الاسلامية العراقية المستقلة، ولمنعها من القيام باي دور مستقبلي في العراق من خلال الاتهام بالتبعية للسياسات الايرانية.
لو كان هناك تدخلا ايرانيا حقيقيا في الانتفاضة الشعبية في آذار 1991، لكانت هناك اوضاع سياسية اخرى في العراق ولما انتهت تلك الانتفاضة بتلك الصورة المأساوية التي تكشف بوضوح عدم وجود أي طرف اقليمي او دولي يدعمها.. لو توفر للانتفاضة آنذاك دعم حقيقي وجاد من طرف اقليمي واحد على الاقل، لكان ثوار الانتفاضة ولكانت قيادة حركة المعارضة العراقية تحكم سيطرتها وادارتها على جنوب العراق وبعض مناطق الفرات الاوسط على الاقل..
نعم رفع ثوار الانتفاضة صور زعماء دينيين من امثال الامام الخوئي رحمه الله والمرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه والسيد محمد باقر الحكيم رضوان الله عليه، وهتفوا بشعارات اسلامية وشعارات تكشف التزامهم بخط اهل البيت عليهم السلام وبمدرسة الامام الحسين عليه السلام... نعم قاموا بكل ذلك، ولكن ليس بتأثيرات ايرانية كما تروج لذلك السلطة الصدامية وبعض الجهلة والمغرضين... وانما لأن هذه هي هوية الشعب العراقي وهذه هي معتقداتهم... وفي ثورة العشرين الكبرى (حزيران 1920) ايضا كانت للثوار زعاماتهم الدينية وكانت لهم شعاراتهم الاسلامية والحسينية... وكان ذلك قبل ان تكون في الجارة ايران ثورة اسلامية او جمهورية اسلامية... فهذه هي هوية العراق شاء البعض ام لم يشأ..
نعم دخل المئات من العراقيين الى وطنهم خلال فترة الانتفاضة.. دخلوا من ايران ومن تركيا وسوريا وحتى من الدول المجاورة الاخرى التي تقع حدودها مع العراق في مناطق صحراوية صعبة العبور... وحق العودة الى الوطن لا تستطيع اية قوة وبأي مبرر وفي أي ظرف ان تقف امامه... وهو ما جعل اغلب حكومات الدول المجاورة تغض النظر عن عودة تلكم المئات من المجاهدين، لانها تعرف بانهم من ابناء العراق ولا يريدون لوطنهم وشعبهم الا الخير والامن والاستقرار... بل وقدمت حكومتين عربيتين على الاقل (الجمهورية العربية السورية والمملكة العربية السعودية وحتى دولة الكويت) دعماً سياسياً واعلاميا وربما ميدانيا في الاشهر الاولى من عام 1991 لاكثر من قيادة عراقية معارضة باتجاه العمل من اجل تغيير السلطة الدكتاتورية في بغداد... ويكتفي البعض بالحديث فقط عن الدور الايراني في الانتفاضة الشعبانية، ارضاء للتوجيهات الامريكية في القضية العراقية او لاقصاء المعارضة الاسلامية (وهي القوة الكبرى في ساحة المعارضة) عن ساحة العمل تحت لافتة التبعية لايران...
لقد بلغت الديماغوجية الاعلامية لدى البعض حدا، جعله يلغي وبجرة قلم وجود شعب كامل اسمه الشعب العراقي، ويشطب معاناة ثلاثين سنة لهذا الشعب على يد نظام دموي شمولي متخلف.. كل ذلك تحت لافتة مواجهة التدخل الايراني المزعوم... لنتأمل النموذج التالي السافر في التضليل وقلب الحقائق... كتبت صحفية عربية، كانت معروفة في الثمانينات بكونها احدى ادوات نظام صدام لايصال رسائله السياسية اعلاميا بصورة غير مباشرة، وعرفت في التسعينات بكونها تعبر في مقالاتها وتحقيقاتها عن آراء مراكز قوى اقليمية مرتبطة ببعض الاجهزة الامريكية السرية، كتبت ما يلي:
(والحقيقة الواضحة في دول الخليج، ان كل الاطراف فيها تلتقي حول تعطيل المشروع الايراني في التغيير العراقي، الذي هو مشروع المجلس الاعلى للدولة الاسلامية/ هكذا جاء اسم المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق في المقالة/ وكل الاحزاب الدينية المرتبطة طائفيا مع ايران... ولا يرى الخليجيون ان الدور التركي في العراق يوازي الدور الايراني، لا من حيث الطموحات ولا من حيث الادوات..)(10) بل وتذهب الكاتبة الى ابعد من ذلك حينما تحدد الدور المناسب للعراق (نظاماً وشعباً)، فتقول وبالنص في نفس المصدر السابق (...يبقى ان العراق هاجس الخليج، هاجس سلبي وايجابي.. سلبي على خلفية احداث غزو الكويت... وايجابي على خلفية الشعور بان هناك قوة بشرية ساندة، يمكن الاستعانة بها على الدوام، لتحقيق التوازنات، ليس فقط ضد ايران، رغم وجود الخطر الايراني، انما ايضا ضد طموحات اقليمية اخرى وامام تيارات محلية اثرت واضرّت بالوضع الامني لبعض الدول). (المصدر السابق)
أي باختصار ان يتحول الشعب العراقي الى مجموعات من المرتزقة يوظفها النظام الحاكم في بغداد للقتال بالنيابة عن مصالح مجموعات حاكمة في بعض دول المنطقة..
لا نريد هنا مناقشة اخطاء واكاذيب هذه المقالة التي تم الرد عليها ونشرت الرد نفس الصحيفة في احد اعدادها اللاحقة، ولا نريد الاشارة الى ان مواقف اغلب الدول الخليجية واضحة في تشخيصها لنظام صدام كعدو رقم واحد لها وللشعب العراقي، ولا نريد هنا ايضا الدفاع عن مشروع حركة المعارضة الاسلامية العراقية- وهي القوة الاكثر تعبيرا عن الام وامال الشعب العراقي- للتغيير في العراق... ولكننا اوردنا النص للاشارة الى كم يسعى البعض لتوظيف اكذوبة (التدخل الايراني في العراق) لتنفيذ سياساته وتأمين مصالحه غير المشروعة بالضد من مصالح العراقيين... وهو ما يفسر التركيز على الدور الايراني في الانتفاضة الشعبانية.
لا ينسى محمد حسنين هيكل (وبالمناسبة قد يكون من المفيد قراءة كتاب- زيارة لبيت العنكبوت- للمؤلف د. عبد الله حمد محارب، وكتاب الطغيان او الانتحار القومي بقلم عبد الرحمن شاكر للتعرف تفصيلا على منهج هيكل في الكذب والتحريف) ووزير الخارجية الامريكي السابق (جيمس بيكر) والسكرتير السابق للحزب الشيوعي العراقي- كلا بطريقته الخاصة- ان يطعن بوطنية واستقلالية الاغلبية العربية الشيعية في العراق، واتهامها بالنزعة الانفصالية من جهة وكونها اداة ايران للتمدد خارج حدودها... وهو الامر الذي يكذبه واقع شيعة العراق وتاريخهم السياسي المعروف، وبشكل خاص بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة.. والذي يعكس وحده كفاحية بينهم وبين باقي مكونات الشعب.
بل واغرب من ذلك يعتبر هيكل وأمثاله حقيقة كون الشيعة العراقيين هم الاغلبية السكانية وكون العراق مجاورا لايران- وهي امور ليست من صنع المعارضة العراقية ولا هي سمة المرحلة الراهنة فقط- من الحقائق الخطيرة التي يجب ان تخيف باقي ابناء العراق والمنطقة والعالم.
فالتحليلات التي يطرحها هيكل وجيمس بيكر وبعض المنشقين الجدد عن النظام تقود بالضرورة الى وجوب القضاء على اية انتفاضة شعبية في العراق، وعدم السماح بسقوط صدام الى ان تتمكن القوى الكبرى (وتوابعها من بعض الدوائر الاقليمية) من جعل الشيعة العرب اقلية في العراق وايجاد فواصل جغرافية او سكانية او من أي نوع آخر...
للحيلولة دون اتصالهم الجغرافي والاجتماعي مع نظرائهم في المذهب في ايران وفي دول خليجية عربية اخرى.. كالسعودية.
وقد قمنا بنقد تلك التحليلات بشكل دقيق ومنهجية علمية في الفصل الخاص بـ (نقد المنهج الطائفي في توصيف الازمة العراقية وفي وضع الحلول لها) في خاتمة الكتاب.
اما الكاتب اليساري (صاحب المقالة في المصدر4) فروايته المفبركة لم يذكرها أي شاهد او ثائر من ابناء الانتفاضة، وهي الرواية التي تقول بان الانتفاضة بدأت حين وصلت تفاصيل مجزرة قوات الاطلسي في طريق صفوان وانها بدأت بتصدي اهالي الناصرية للغزاة الفرنسيين... وكأنه يريد القول بان الانتفاضة لم تبدأ بمهاجمة ابناء الشعب والجيش لرموز ومؤسسات النظام الحاكم... وهو الامر الذي تكذبه ليس فقط ما ذكرناه في الكتاب من شهادات لثوار وشهود الانتفاضة عن كيفية بدأ الانتفاضة في كل مدينة من مدن الوطن... منها قصة القوات العراقية التي ضربت تماثيل الدكتاتور وجدارياته في وسط مدينة البصرة بعد عودتها من الكويت ومنها قصص التظاهرات التي انطلقت في النجف وكربلاء والعمارة والناصرية وغيرها من المدن العراقية والتي تمثلت بهجوم الجماهير على منظمات حزب السلطة ومقرات الامن والمخابرات..
بل ان ثوار الانتفاضة وشهودها المنتشرون في عشرات الاقطار في العالم يكشفون وبدقة وهم يتحدثون عن تفاصيل انطلاقة الانتفاضة في مدنهم وقراهم... عن البدايات الحقيقية للانتفاضة..
لا توجد روايات تذكر عن صدام عسكري بين ثوار الانتفاضة وبين قوات التحالف الغربي التي تواجدت في مناطق واسعة في جنوب العراق بعد بدء الهجوم البري وتحرير الكويت، بالطبع ليس حباً بالقوات الغربية او لايمان الجماهير العراقية بنزاهة نوايا واهداف قوى التحالف الغربي.. فالعراقيون عموماً مقتنعون حتى العظم بان نظام انقلاب 17-30 تموز 1968 صنعته شركة النفط البريطانية واجهزة المخابرات الغربية، وان دول حلف الاطلسي هي التي مهدّت ارضية تصفية ثلثي القيادة الحزبية والحكومية في العراق في تموز 1979 لايجاد الرجل (القوي) أي صدام وانفراده بالقرار في العراق لشن العدوان العسكري الشامل على ايران... حيث زار بغداد انذاك وقبل تصفيات القصر الجمهوري بأسابيع، خمسة وزراء لدول حلف الاطلسي وكذلك (جورج براون) حلقة الصلة بين اجهزة سرية غربية وبين صدام/ كما يذكر (حسن العلوي) في كتابه (اسوار الطين) وانه كان يزور العراق سرا وبصورة منتظمة ويلتقي على انفراد صدام التكريتي حتى عندما كان نائباً للرئيس، وانه لولا الدعم الامريكي المباشر او غير المباشر عن طريق ادوات امريكا في المنطقة (مثلا قام السادات المعروف بارتباطاته بالولايات المتحدة الامريكية واسرائيل بارسال اكثر من ثلاثة ملايين مصري في الثمانينات لتمكين صدام من ارسال شباب العراق ورجاله الى محرقة الحرب العراقية الايرانية) لما تمكّن صدام من الصمود خلال سنوات الحرب.
العراقيون مقتنعون ولحد الان بان الادارة الامريكية والتحالف الغربي لم تعتبر اسقاط السلطة من اهدافها في حرب الخليج الثانية ولا بعدها، وانها اتفقت مع ممثلي النظام في خيمة صفوان عام 1991 على المحافظة على النظام ورأسه بالرغم من كل جرائمه.. ولذا اطلقت يد قوات الحرس الجمهوري في تدمير مدن وثوار الانتفاضة... وقدمت المساعدات اللوجستيكية لتلك القوات كما نقل شهود عيان من ثوار الانتفاضة.
العراقيون يعرفون كل ذلك ولكن ثوار الانتفاضة لم يصطدموا بالقوات الغربية الغازية انطلاقا من وعي سياسي فطري ينطلق من ملاحظة موازين القوى والتركيز على العدو الاساسي الذي سبب كل تلك الكوارث والمآسي.. أي نظام صدام، وعدم توفير الحجج التي تنتظرها قوى التحالف الغربي بفارغ الصبر لتأكيد فرضيتها القائلة بتطرف وارهابية حركة المعارضة الاسلامية العراقية ذات القاعدة الشعبية الواسعة وبالتالي ربطها بالموقف من ايران...
بل وذهب بعض ثوار الانتفاضة الى ابعد من ذلك، حينما شكلوا وفودا تضم عناصر معارضة من مختلف التيارات السياسية العاملة في الداخل، وذلك للحوار مع المسؤولين السياسيين الذين كانوا يرافقون بعض مجموعات القوات الامريكية والبريطانية والفرنسية...
نقل احد ثوار الانتفاضة في مدينة الرميثة البطلة (التفاصيل في صفحات الانتفاضة في الرميثة) ما يلي:
(بعد اندلاع الانتفاضة بايام قليلة ذهبنا كوفد يمثل شريحة شمولية من المثقفين وابناء العشائر ووجهاء المدينة الى بعض قادة القوات الامريكية لنثبت لهم ان الانتفاضة ليست اسلامية بحتة.. بل هي تضم الاسلامي والشيوعي والبعثي والقومي والمستقل.. كما انها تضم كل شرائح المجتمع والرجال والنساء والفتيان وكل ابناء العراق- وكان الحوار باللغة الانكليزية- فاجئنا المسؤول الامريكي الذي تحاورنا معه بإظهار ملف جامع لكل ما صدر من علمائنا من فتاوي بمقاومة نظام بغداد وبكل ما ورد من شعارات عفوية على ألسنة الناس وكل وثيقة صادرة من جهة اسلامية) ثم يضيف الثائر الذي كان احد اعضاء الوفد المحاور...(اننا شعرنا على الفوران الامريكان لديهم قرار بدحر الانتفاضة بذريعة انها اسلامية) بينما السبب الحقيقي لموقفهم هو رفضهم لاي تغيير تقوم به قوى شعبية مستقلة في قرارها عن الدوائر الخارجية...(11)
فمن اين جاء الكاتب اليساري برواية تصدي الجماهير للغزاة الفرنسيين والذي شكل بداية الانتفاضة..
ثم عجباً ليساري مزعوم وقائد شيوعي بارز... يدعيان في مقدمة كلامهما بان الجماهير الشعبية هي التي تحركت وسيطرت وسادت... وان الانتفاضة شعبية تمثل كل قطاعات الشعب ومذاهبه واديانه ومعتقداته السياسية... ثم يناقضان انفسهما بعد قليل، فيقول احدهما وبالنص (وما ان ارتفع الهتاف الطائفي سيء الصيت: ما كو ولي الا علي ونريد حاكم جعفري... حتى بدأت الانتفاضة بالتفسخ) ويقول الاخر بالنص (ان سعي بعض الاطراف الى اضفاء طابع ضيق عليها اضرها ضرراً بليغاً...) ولا يكتفي بهذا بل يضيف عبارة لا تخلو من الايحاءات اللئيمة.. (الغالبية الساحقة من ابناء الشعب ونحن من بينهم... لا تريد أي امتداد لاي طرف اقليمي داخل العراق) (المصدر7) بكلمة اخرى يريد ان يقول ان رفع الشعارات الاسلامية الشيعية ستؤدي الى تمدد ايراني داخل العراق...
ولكن قبل ذلك: كيف تستطيع اقلية ان تفرض شعاراتها على الجماهير الشعبية؟ وكيف يمكن لمتسللين من خارج الحدود ان يضفوا طابعهم الضيق على انتفاضة قامت بها كل قطاعات الشعب؟
الاقلية وهي خارج السلطة لا تستطيع فرض ارائها وشعاراتها على جماهير الاغلبية... خاصة اذا كانت تلك الاغلبية مسلحة وتملك زمام امورها في مناطق الانتفاضة.
نخشى ان تكون عبارات المسؤول الشيوعي السابق وذلك الكاتب اليساري اسلوبا اعتادت عليه بعض عناصر المجموعات الحزبية البعيدة عن واقع جماهير الشعب، فهي عندما تكتشف ان معتقدات الجماهير الواسعة وشعاراتها واهدافها تختلف عن تلك التي تحملها هي، تقوم وبدلا من تغيير متبنياتها وشعاراتها الحزبية... باتجاه متبنيات الشعب، تقوم باختلاق اكذوبة وجود اقلية تفرض شعاراتها على الجماهير... بالضبط نفس اسلوب الدكتاتوريات اللاشعبية عندما تتهم اية انتفاضة شعبية بكونها قادمة من خارج الحدود ويقودها الاغراب...
حسبما يبدو ان ما لا يريد البعض الاعتراف به هو ان هوية الانتفاضة كانت وطنية اسلامية.. فلا غرابة لان هذه هي هوية الشعب العراقي.. وهي الهوية التي بعمل ذلك البعض لتغييرها وتشويهها. ثم لنستعرض بعض اهم تلك الشعارات التي يبدو انها لم تُرعِب نظام صدام فقط، بل وارعبت بعض من في قلوبهم مرض.. وبعض من يهمهم كسب رضى دوائر اقليمية وغربية معينة بدلا من كسب تأييد الشعب:
كومي يا زينب هلهلي احنا شباب الحسين
لا اله الا الله .. محمد رسول الله .. صدام عدو الله
ما كو ولي الا علي ونريد حاكم جعفري
بأسمك يا علي نسحك البعثية
منصورة جنود السيد
ماكو زعيم الا الحكيم موتوا يا بعثية
هلّه .. هلّه الصدر وينَه ضيّعوا كبره علينه
عفيه ابني الربّيته لدينه
بغداد اكعدي شنهي النومه
يا صدام شيل ايدك كل الشعب ميريدك
من العمارة لكربله راياتنه منشورة... غصبن على خشوم البعث قبر الشهيد نزوره
الخاين شعبه نكص ايده
ابد والله ما ننسه حسيناه
كوم افتحنه الباب حيدر يا علي والقدس غصبوها
يبو جعفر كوم لينه.. ضاكت الوسعة علينه (ابو جعفر هو المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر)