بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
كثيرون من يستغنون بالدنيا، فيجعلونها نصب أعينهم، ويصرفون أعمارهم وطاقاتهم وجهدهم في سبيل تحصيل متاعها الزائل. إنهم يضيّقون مداركهم، ولا يرفعون من شأن وعيهم ومستوى أخلاقهم وقيمهم الّتي غابت بفعل الإقبال على حبّ الدّنيا وما فيها من متع السلطة والجاه والمنصب، وفتنة النّساء والأولاد والأموال، فينحرفون عن جادّة الصواب، عندما ينسون الله تعالى في كلّ أوضاعهم، ولا يؤدّون حقّه من شكره وحمده والإخلاص له في علاقاتهم وسلوكيّاتهم؛ فقد يسرقون، ويكذبون، ويفتنون بين النّاس، وينشرون الفساد، ويفعلون أيّ شيء لقاء حصولهم على رغباتهم الدّنيويّة؛ الّتي تتحوّل إلى إله عندهم يعبدونه، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً}[الفرقان: 43].
إنّ الإنسان الّذي ينتمي إلى هذا النّموذج، هو إنسان يعطّل كلّ حواسّه وقواه وإمكاناته عن الحقّ والخير، لا بل لا يمنع أذاه عن الحياة، فيستغلّ كلّ ذلك، وتأخذه العزّة بالإثم أن يتجرّأ على ظلم زوجته وإهانتها، وعلى التعدّي على حقوق الجيران والنّاس، ظنّاً منه بأنه يملك عزة المركز والجاه والقرار، وأنّ الدّنيا مقبلةٌ عليه بنعيمها، وينسى أنّ الله تعالى يراقبه في كلّ أنفاسه وحركته، وأنّ ما به من نعمة هو فتنة له وبلاء، فالله تعالى يختبره، كيف يتصرف مع ذلك، وهل يسلك طريق الحمد والشّكر ونفع المحيط بما يلزم، أم سيستغرق في القشور الحسيّة والماديّة التي تجلب له لذّة فانية، وسعادة لا تبقى، فعمرها قصير، وكذلك عمره؟!
وهناك النّموذج الآخر الّذي عرف نفسه وعرف ربّه جيّداً، وعرف أنّ الله تعالى له العزّة جميعاً، {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}[فاطر: 10]، فأدّى حقوق الله تعالى بما منحه إيّاه من نعمة الوجود والحواسّ والعقل والفكر والشّعور، فانطلق في الحياة ليعمرها بكلّ خير ورحمة ومحبّة، فاستعمل لسانه فيما يرضي الله، فكان الإنسان الّذي لا يقول إلا الكلام الطيّب مع زوجته وأهله وأولاده وجيرانه وأصدقائه وأرحامه، واستعمل مشاعره في خطّ حبّ الله، فانعكس ذلك حبّاً للنّاس وللحياة، وفاضت من جنباته الرَّحمة والحنان والتَّواضع، واستعمل عقله في الفكر الصَّحيح، فانطلق متأمّلاً باحثاً، ملتزماً الحقّ ومواجهة كلّ انحراف، فقد عرف أنَّ الله تعالى وحده القيّوم على الخلق كلّه، يملك كلّ عناصر القوّة والعزّة التي ينبغي للمرء أن يلتقي عندها، وينفتح عليها، ويأخذ منها ما يقوّي عزيمته، ويقوّي إرادته، ويعزّز هويّته وشخصيّته في مواجهة كلّ تحدّيات الحياة ومظاهرها وإغراءاتها.
بعدما تقدّم، يظلّ الغنى الحقيقيّ بالله، حتى لو استغنى النّاس جميعاً بالدّنيا وأقبلوا عليها، ويبقى الفرح الحقيقيّ والسّعادة كلّها في الله تعالى، والإقبال عليه، والإخلاص له في كلّ المواقع، حتى لو خرج النّاس بالأولاد والأموال والجاه والعشيرة والحزب والجهة، وما إلى هنالك من اعتبارات زائلة.
فالله تعالى هو الخير المطلق الّذي يدعونا إلى فعل الخيرات وصناعتها، رحمةً وعدلاً في الحياة والعلاقات، والله تعالى هو الكمال المطلق، والجمال المطلق، والغنى المطلق الّذي يحفّزنا على أن نعتني به وننفتح على هديه، لنكون الأعزّاء الأقوياء أمام كلّ مغريات الحياة ومظاهرها.
ماذا لو كسبت ـ أيّها الإنسان ـ غنى الدّنيا بكلّ ما فيها وخسرت الله تعالى؟ فبماذا سيفيدك كلّ هذا الغنى ؟ فذلك يعني أنّك خسرت كلّ وجودك وكلّ حياتك وكلّ مصيرك، وذلك هو الخسران المبين.
أمّا الذي لا تأخذه الدّنيا بما فيها، ويقبل على الله تعالى بنيّةٍ صافية، وعملٍ صالح، وعقلٍ نظيف، وشعورٍ نظيف، ويستغني بالله عمّن سواه، فهو الغني الحقيقي الّذي يكسب دنياه وآخرته، ويفوز بالقرب من ربّه، وينال رحمته رضوانه.
فهلا نكون من الَّذين يستغنون بالله تعالى عمّن سواه، ونكون ممّن ينتمون فعلاً إلى مدرسة الله تعالى ورسوله والمؤمنين، {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}.