علمتني العصـــــــافير
علمتني العصافير لغة الحرية، ووهبتني تقاسيمَ عربيٍ يأبى الضيم..
علمتني العصافير لغة الجد والعمل، وتجرعت من زقزقتها لغة الحرية..
علمتني أن الهواء دمٌ يتدفق في شراييني، وأنَّ الحرية أسمى ما يرنو إليه الكائن.
حبس العصافير موت بطئ، رغم أن جمال العصافير أخاذ..
إلا إنني أعتب على الذين يتلذذون وهم يقيدون حريتهم من أجل لحظات من الاستمتاع.. هل يدرك من يحبس عصفوراً أنه يقتله قتلاً بطيئاً وإن طال عمره ؟
هل يدرك تلك السعادة الغامرة التى يمكن أن تعتلى العصفور إذا فتح له باب القفص؟
جرِّب أن تفتح نافذة لعصفورٍ مقيد، فإن ظل في مكانه فهو يستحق أن يكون حبيساً ..
وإن انطلق يضرب بجناحيه الصغيرين الهواء، يعلو، ويعلو فاعلم أنك قد منحته أجمل شيئ في الحياة.
علمتني العصافير لغة تغيب عن البشر..
إنها لغة المودة والحب، وهي تسبح في ملكوت الله..
ليس للـريح سوى أصواتـِها تسمعها، فتتوارى مع زقزقات لا يفهمها إلا المرهفون..
فما أجمل تلك الأصوات التى تبحث عن مأوى بين ضلوع أضحت حيرى.
جرب يوماً أن تحبس نفسك داخل قصر، وبه مالذ وطاب، هل تستمتع بما فيه ؟
إن جمال العصفور المتألق، وهو يطير بهمة في فضاء رحب، يحيي الأمل في النفوس، ويوقظ الإيمان المخدر..
إنها تؤمن أن الله يرزقها وهى تغدو خماصاً وتروح بطاناً، فما أجمل ذلك العصفور.
لا أنسى حين كنت طفلاً صغيراً رغبتي الجامحة في الإمساك بالعصافير، وإطلاقها لتحلق..
لا أنسى تلك الفرحة العارمة التى كنت أراها على العصفور الذي يقع أسيراً ثم يطلق في الهواء.
كنت أجلس صغيراً على عتبات سلم البيت، وأضع على رأسي قطعة من القماش، وأضع فوقها بعضاً من الخبز، لتنزل الطير لتأكل، فإذا ما هبطت، رفعت يدي مسرعاً لأمسك بها .
كانت تحدث مرات ومرات، وكنت لا أعدم ان أمسك بأحدها بعد محاولات حثيثة
أتأمل جمالها، وخفة حركتها، وألهو بها ثم أطلقها في الهواء.
أدركت منذ صباي أن الحرية أعظم النعم حين كنت أراها في ملامح ذلك العصفور.
ولا أنسى يوماً تسلقت شجرة الجميز العجوز حتى علوتها متتبعاً ليمامة كانت ترقد جميلة، تسلقت برفق وهدوء، حتى وصلت إليها، فأمسكت بذيلها، فطارت اليمامة تاركةً ذيلها في يدي
فنزلت مسرعاً من فوق الشجرة أتبعها حتى سقطت في الماء، فنزلت البحر واستخرجتها منه حية، ثم حملتها معي إلى البيت، وقدمت لها الطعام، وكانت قد فقدت القدرة على الطيران
حاولت عابثاُ أن أطعمها، وأن أسقيها، لكن دون جدوى، لقد فقدت اليمامة المسكينة أغلى ماتملك، ذلك الريش الذى كان يحملها في الهواء، وبعدها ماتت، واذكر كم حزنت لموتها، وكم حزنت لأنني كنت سبباً في هذا دون قصد مني.
لقد كانت تحلم مثلي، تتوارى ..
ليلها نور، وصبحها شمس مشرقة
أوقات راحتها حين يسكن الناس
وأوقات نشاطها قبل أن يستيقظ النيام.
لطالما سألت عن ذلك السر الذي يدفعها لتستيقظ مع نسمات النهار، تغني في صوت واحد، أنغام موسيقى رائعة، وكأنها تناجي ربها، وتدعوه مع البكور أن يهبها الرزق الذي يمنحها الحياة..
لابد أن هناك سر بين زقزقة العصافير، وشقشقة النهار....
لقد علمتني العصافير أنغاماً لايختلف على حلها اثنان، ولغةً لايفهمها إلا القليل من الناس
كم أثراني جمالها، وكم أطربتني أصواتها، وكم أيقظتني من رقادي.
كنت أحسد العصفور على حريته، وأغبط العصفور على همته
وألوم على من لاترى عيونهم إلا القذى وهم يشوهون كل جميل في حياتنا.
ما أجمل تلك الأناشيد
ما أجمل ذلك الصباح الذي نستيقظ فيه والأمل يملأ قلوبنا، والإيمان يعطر أوقاتنا!
سمات كفلق الصبح، ونور الشمس..
كم كان يأخذني غروب الشمس وهى تتوارى خجلاً خلف أشجار النخيل، ومن خلفها يبكى السحاب على الرحيل
وسرعان ماتهدأ الأصوات، وتقل الحركة، ويعم السكون الكون، في ليل الشتاء، المطير، والطويل
كانت الطيور تسرع بعد عناء يومها، لتدخل أعشاشها آمنة هانئة
لا تحمل هم الغد، ولا تبكي على يومها الذي مضى
تكمش ريشها، وتلتحف بأجنحتها
وتأوي إلى مخدع آمن لتعاود دورتها من جديد....
كنت أرقب مع ظلام الليل تلك الأنفاس الدافئة التى كنا نشمها ونحن نلتف حول النار التى أعددناها لتخفف من البرد الزمهرير
لم تكن الكهرباء قد شقت طريقها بعد إلى كل بيت، ولم تكن الشوارع مضاءةً كما هي
فإذا أرخى الليل سدوله، نامت العيون، وأغمضت الجفون، واجتمعت الأسرة لتتناول العشاء بجوار المدفأ، ثم يأوي الجميع إلى مخادعهم، لايشغل بالهم تلفاز، ولايسرق أعمارهم فضائيات هنا وهناك .
لم يكن يطربنا سوي صوت المذياع الذي كان يحرك مشاعرنا، ويلهب حماسنا
كنا ننام على صوت القرآن، ونستيقظ على صوت القرآن..
فإذا نمنا حملنا أحلامنا البسيطة وآمالنا على وسائدنا، تارة نتقلب يميناً فإذا هي شاخصة أمامنا، لكنني أذكر أنها كانت بسيطة، وكان الكون كبيراً في عيوننا
رضعنا القيم النبيلة، والعواطف الجياشة، وفُطِمنا على الحب، فكان عنواناً لكل معاملاتنا مع بعضنا البعض.
كنا ننام ملْ العيون والأجفان، ونستيقظ قبيل الفجر وقد شبعنا من النوم
فإذا انطلقنا إلى بيوت الله، عُدنا وقد أعدت الجدة رحمها الله فطوراً شهياً، كان يُعَد على أطلال النار التى نمنا عليها من أمسنا..
وعلى صوت البابور، كنت أستيقظ أحياناً أخرى، وأنا أطل خلسة تحت لحاف من الصوف، أجاهد نفسي، ويجذبني الدفئ في ليال شديدة البرودة..
رحم الله زمن العصافير الجميل الذي خلّفَ وراءه قلباً متعباً يحن إلى الصبا..
يحن إلى زمن البراءة..
يحن إلى تلك الليالي الخوالي..
يحن إلى البساطة، يحن إلى النغم الأصيل..
يحن إلى أعزاء رحلوا وتركوه يكتوى بنار فراقهم، ويتحسر على أخلاقهم ومبادئهم..
يحن إلى حياة لا يعكر صفوها صراعٌ، ولا يشق صمتها دموع وصراخ، إلى حياة ينام على ضفيتها الأمل، يحن إلى صدرها ذلك الوليد..
إلى صباح لايموت على صدره الحياء، بل يعيشه من الوريد إلى الوريد..
يحن إلى جدود علمونا لغة جميلة، إنها لغة الفجر الجديد .