ففي الآية المباركة يأمر اللّه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر والصمود في وجه الأعداء كوقوف سلفه من الرسل« أُولو العزم» الذين واجهوا معانديهم وصمدوا أمام مخالفيهم، ومن الحريّ بنا وقبل توضيح المقصود من «أُولو العزم» أن نسلط الأضواء على المعنى اللغوي والقرآني للفظة العزم.
العزم في اللغة والقرآن
يظهر من ابن فارس في «مقاييس اللغة» أنّ لهذا اللفظ معنى واحداً وهو القطع. وإليه يرجع معناه الآخر وهو العزم ، وكأنّه يقطع التحيّر والشك،قال:«عزم» له أصل واحد صحيح يدلّ على العزيمة والقطع.( [2])
وأمّا الاستعمال القرآني لهذه اللفظة فالظاهر أنّه نفس الاستعمال اللغوي، أي بمعنى التصميم القطعي والجدي، أو ما يصطلح عليه «عقد القلب». ويشهد لذلك طائفة من الآيات:
ومع أنّ الآيات المذكورة تحكي المغايرة بين «الصبر» و «العزم» ولكنّنا مع ذلك نرى الزمخشري في كشافه قد ذهب إلى أنّ اللفظين مترادفان حيث قال: «أُولو العزم أي أُولو الجدّ والثبات».( [10])
ومن خلال هذا البيان يتّضح المقصود من الآية التالية:
بناء على ذلك، فالعزم لغة هو القطع مقابل الوصل، وفي القرآن الكريم استعمل بمعنى عقد القلب لعلاقة التناسب بينه و بين المعنى اللغوي.
ولذلك نرى أنّ معنى لفظة العزم: هو التصميم القطعي، وأنّ لفظة «أُولو» معناها أصحاب. وعلى هذا الأساس يكون معنى أُولو العزم: أصحاب و ذوو التصميم القطعي والإرادة الثابتة، والقصد المؤكّد الذي لاينفصم عن العمل والسعي في سبيل اللّه سبحانه. وبعد أن عرفنا المقصود من «أُولو العزم» ننتقل إلى بحث آخر وهو:
من هم أُولو العزم من الرسل؟
الوجه الأوّل: هم الذين بعثوا إلى شرق الأرض وغربها، جِنّها وإنسها.( [12]) والجدير بالذكر أنّ هذا التفسير ينسجم مع النظرية القائلة بأنّ رسالة الأنبياء السابقين هي رسالة عالمية شأنها شأن الرسالة الإسلامية المحمّدية; والحال أنّ عالمية الرسالة تنحصر برسالة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط. وأمّا غيره من الرسل السابقين فلا تمتلك رسالتهم تلك الخصوصية، حتى رسالة النبي موسى (عليه السلام) ورسالة المسيح (عليه السلام) كانت مختصة بقومهما وبالمناطق التي بعثا فيها ولم تكونا رسالتين عالميتين، ولقد فصّلنا القول في هذه المسألة في موسوعتنا مفاهيم القرآن.( [13])
الوجه الثاني: إنّ المقصود من «أُولو العزم» هم كلّ الرسل، لأنّه لم يبعث اللّه رسولاً إلاّ كان ذا عزم راسخ وإرادة محكمة في طريق تبليغ الرسالة الإلهية، لأنّه لا جهاد من دون عزم وثبات.
وعلى هذا الأساس تكون لفظة «مِنْ» في قوله تعالى:
( أُولو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) بيانية لا تبعيضية، ويكون معنى الآية: اصبر واستقم كما صبر واستقام المرسلون من «أُولو العزم» من قبلك.
ويؤيد ذلك ـ كون جميع الأنبياء من« أُولو العزم» ـ قوله سبحانه:
ولا ريب أنّ العمل بالميثاق الغليظ يتوقف على العزم الراسخ والإرادة القوية التي تستتبع الصبر والثبات، وأمّا تخصيص الخمسة بالذكر فما هو إلاّ لعظمة شأنهم ورفعة مكانهم، وهناك آيات أُخرى بنفس مضمون الآية المذكورة.( [15])
وقد يقال: إذا كان جميع الأنبياء هم من «أُولو العزم» فكيف وصف القرآن الكريم آدم (عليه السلام) بأنّه لا عزم له؟ كما ورد في قوله:
ويمكن الإجابة عن الإشكال المذكور بأنّ الآية تتعلّق بفترة ما قبل الهبوط إلى الأرض، والحال أنّ بحثنا يتعلّق بـ «دار التكليف» ولا دليل على أنّ آدم قد نسيَ العهد الإلهي ولم يكن له عزماً في هذه الدار.
نقد الوجه الثاني
إنّ هذه النظرية المطروحة في الوجه الثاني قابلة للمناقشة والمؤاخذة،وذلك:
أوّلاً: الظاهر أنّ حرف «مِنْ» في قوله ( مِنَ الرُّسُل ) تبعيضية لا بيانية، وهذا شاهد على أنّ الأنبياء ينقسمون إلى طائفتين: طائفة ارتقت إلى المقام الشامخ «أُولو العزم»، وطائفة أُخرى لم ترتق إلى هذا المقام الشامخ، فكيف ياترى يُدّعى أنّ جميع الأنبياء هم من «أُولو العزم»؟!
ثانياً: أنّ الاستدلال بأخذ الميثاق من الأنبياء دليل على أنّهم كانوا أصحاب عزم وإرادة راسخة غير صحيح، وذلك لأنّ أخذ الميثاق لا يدلّ على وجود العزم في مقام العمل بالميثاق، لأنّ اللّه سبحانه قد أخذ ذلك الميثاق من جميع البشر قبل خلقهم ولم يقم أكثر الناس بذلك الميثاق الذي أُخذ منه يقول سبحانه:
( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) .( [17])
الوجه الثالث: يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنّ المقصود من «أُولو العزم» ليس جميع الأنبياء، بل المقصود طائفة منهم، وهم الرسل الذين صبروا كثيراً في طريق تبليغ الرسالة، وكانوا كالطود الشامخ أمام المصاعب والآلام وأساليب التكذيب والأذى التي تعرضوا لها.
ومن الواضح أنّ هذه النظرية تستبطن مطلبين:
الف: إنّه ليس جميع الأنبياء هم من« أُولو العزم».
ب: أنّ المقصود هو تلك الطائفة من الأنبياء التي صبرت في طريق تبليغ الرسالة وكانت كالطود الشامخ.
وأمّا الصبر والثبات في الموارد الأُخرى فلا يكون ملاكاً للاتّصاف بصفة «أُولو العزم»، وكأنّ معنى الآية: اصبر واستقم كما صبر «أُولو العزم» من الرسل في طريق تبليغ الرسالة.
ونحن إذا راجعنا القرآن الكريم لا نعثر على آية نستطيع من خلالها تعيين تلك الطائفة من«أُولو العزم»، نعم أُشير في بعض الروايات إلى أسماء أربعة منهم، مثل: نوح (عليه السلام) ، إبراهيم (عليه السلام) ، موسى (عليه السلام) ، و عيسى ابن مريمعليمها السَّلام.( [18])
وفي الوقت الذي نرى أنّ هذه النظرية قد حصرت الملاك في كونهم« أُولو العزم» هو ابتلاؤهم بالشدائد والبلايا في طريق تبليغ رسالتهم ونشرها بين الناس، نجد أنّ الروايات الواردة في تفسير الآية توسع الملاك وتطبّق الآية على الأنبياء الذين صبروا في غير مجال تبليغ الرسالة، كصبر يعقوب على فقدان ولده وذهاب بصره، ويوسف (عليه السلام) على الجبّ والسجن للمحافظة على نقائه وطهارته أمام مغريات امرأة العزيز، وداود إذ يبكي على زلّته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنّها معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقال اللّه تعالى في آدم: ( فنسي وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) ، وفي يونس حيث قال: ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) .( [19])
أي لا تكن مثل يونس في استعجال عقاب قومه وإهلاكهم ولا تخرج من بين قومك من قبل أن يأذن لك اللّه.( [20])
ولكن الرواية على خلاف ظاهر الآية فلا يمكن الأخذ بها، بل الرواية الأُولى أحكم من الثانية، خاصة وانّ الرواية الثانية جاء فيها انّ الذبيح بدل (إسماعيل)(إسحاق)، وهذا خلاف القرآن،وانّه شبيه بالروايات الإسرائيلية.( [21])
الوجه الرابع: إنّ المقصود من «أُولو العزم» حسب هذه النظرية كلّ من جاء بشريعة مستأنفة تنسخ شريعة من تقدّمه، وهم خمسة: أوّلهم نوح، ثمّ إبراهيم، ثمّ موسى، ثمّ عيسى، ثمّ محمّد (عليهم السلام) .
روي عن ابن عباس وقتادة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليمها السَّلام قال:«وهم سادة النبيّين، وعليهم دارت رحى المرسلين».( [22]) وقد ورد هذا التفسير في بعض الروايات الخاصة، فقد روى ذلك الكليني بسند موثّق عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، وروى الصدوق رحمه اللّه ذلك بسند موثق أيضاً عن الإمام الرضا (عليه السلام) .( [23])
ولكنّ هنا سؤالاً يطرح نفسه وهو أنّه لم يثبت نسخ كلّ شريعة لاحقة لما تقدّمها؟فعيسى (عليه السلام) مثلاً ـ لم ينسخ شريعة موسى (عليه السلام) ، وقد بيّن الغاية من بعثته وهي القضاء بين بني إسرائيل وفكّ الخصومات، حيث قال سبحانه:
فإنّ معنى ذلك أنّ المسيح جاء مبيّناً لا ناسخاً لما تقدّمه من الشرائع، إلاّ إذا كان المقصود من النسخ هو تجديد بعض الأحكام ورفع القيود والأغلال التي كانت موجودة، حيث قال سبحانه:
الوجه الخامس: المقصود من «أُولو العزم» هم الرسل الثمانية عشر الذين ورد ذكرهم في سورة الأنعام من الآية (82ـ 86) وهم: إبراهيم، إسحاق، يعقوب، نوح، داود، سليمان، أيوب، يوسف، موسى، هارون، زكريا، يحيى، عيسى، ألياس، إسماعيل، اليسع، يونس، و لوط.
والدليل على ذلك قوله سبحانه بعد ذكرهم (عليهم السلام) :
وفي نفس الآية يقول سبحانه: ( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُو العَزْمِ ) .
وهذا الوجه من أضعف الأقوال وأبعدها عن الحق في تفسير «أُولو العزم»، لأنّه سبحانه لم يخص الاهتداء بالثمانية عشر فقط، بل قد أشار إلى آبائهم وأبنائهم وإخوانهم بقوله:
حيث نُهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اتّباع طريقة يونس (عليه السلام) العجولة.
والذي يظهر أنّ أفضل وأحكم الوجوه هو الوجه الثالث والرابع، وهو أنّ المقصود من «أُولو العزم» هم تلك الطائفة من الأنبياء الذين صبروا في طريق رسالاتهم وتبليغ دين اللّه وصمدوا أمام الحوادث كالطّود الشامخ لم يعتريهم تزلزل ولا خوف، وعلى رأس هؤلاء الأنبياء أصحاب الشرائع وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى والنبي الأكرم (عليهم السلام) .
وبالنتيجة: أنّ الوجه الثالث ينطبق مع الوجه الرابع في جهة من الجهات وهي أنّ الأنبياء أصحاب الشرائع من «أُولو العزم».
وأمّا جهة التفاوت بين الوجه الرابع والثالث فهي أنّ الوجه الرابع يحصر «أُولو العزم» بعدد خاص، ولكن الوجه الثالث يطرح عنواناً عاماً ينطبق على المذكورين في الوجه الرابع وغيرهم من الأنبياء أصحاب الإرادة القوية والعزم الراسخ. ولكنّ الوجه الرابع أقرب إلى الواقع، لأنّه مدعوم بروايتين معتبرتين تشهدان له من بين الوجوه.
----------------------------
[1] . الأحقاف: 35.
[2] . المقاييس:4/ 380.
[3] . محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : 21.
[4] . آل عمران: 159.
[5] . البقرة: 227.
[6] . البقرة: 235.
[7] . آل عمران: 186.
[8] . لقمان: 17.
[9] . الشورى: 43.
[10] . الكشاف:3/ 126.
[11] . طه: 115.
[12] . حق اليقين:111، للسيد عبد اللّه شبر.
[13] . مفاهيم القرآن:3/77ـ 106.
[14] . الأحزاب: 7.
[15] . لشورى:13، آل عمران: 81.
[16] . طه: 115.
[17] . يس:60ـ 61.
[18] . انظر تفسير البرهان:2/ 179.
[19] . القلم: 48.
[20] . مجمع البيان:5/169; مفاتيح الغيب: 7/ 468.
[21] . بعض المفسرين فسّر ذلك بالأنبياء الذين أُمروا من قبل اللّه بالجهاد والقتال في طريق نشر الدين، ومن الطبيعي أنّ هذا التفسير يتّحد مع هذه النظرية، ولذلك لم نورده كوجه ونظرية مستقلة.
[22] . مجمع البيان:5/ 194.
[23] . تفسير البرهان:4/178ـ 179. وسند الكليني هو كالتالي: عِدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة بن مهران، قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) : قول اللّه عزّ وجلّ: ( فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل ) فقال: نوح وإبراهيم و....
وأمّا سند الصدوق فهو: حدّثنا محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: حدثنا محمد بن سعيد الكوفي الهمداني قال: حدّثنا علي بن الحسن بن علي بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) ، قال: « إنّما سمّي أُولو العزم، لأنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع... » .
[24] . الزخرف: 63.
[25] . آل عمران: 50.
[26] . الأنعام: 89.
[27] . الأنعام: 87.
الوجه الرابع: إنّ المقصود من «أُولو العزم» حسب هذه النظرية كلّ من جاء بشريعة مستأنفة تنسخ شريعة من تقدّمه، وهم خمسة: أوّلهم نوح، ثمّ إبراهيم، ثمّ موسى، ثمّ عيسى، ثمّ محمّد (عليهم السلام) .
نعم هذه هي الخلاصة التي تساعد على دراسة تاريخ الرسالات السماوية بطريقة عملية
و الطريف ان النبي داود عليه السلام اوتي الزبور و لكن هذه الاضافة لم تكن شريعة جديدة بل كان يحكم بشريعة و توراة موسى عليه السلام.