اتفق المسلمون على رواية: "من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة".
هذا الحديث بهذا اللفظ موجود في بعض المصادر، وقد أرسله سعد الدين التفتازاني إرسال المسلّم، وبنى عليه بحوثه في كتابه شرح المقاصد.
ولهذا الحديث ألفاظ أُخرى قد تختلف بنحو الاجمال مع معنى هذا الحديث، إلاّ أنّي أعتقد بأنّ جميع هذه الالفاظ لابدّ وأن ترجع إلى معنى واحد، ولابدّ أن تنتهي إلى مقصد واحد يقصده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فمثلاً في مسند أحمد: "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية"، وكذا في عدّة من المصادر: كمسند أبي داود الطيالسي، وصحيح ابن حبّان، والمعجم الكبير للطبراني، وغيرها.
وعن بعض الكتب إضافة بلفظ: "من مات ولم يعرف إمام زمانه فليمتْ إن شاء يهودياً وإن شاء نصراني"، وقد نقله بهذا اللفظ بعض العلماء عن كتاب المسائل الخمسون للفخر الرازي.
وله أيضاً ألفاظ أُخرى موجودة في السنن، وفي الصحاح، وفي المسانيد أيضاً، نكتفي بهذا القدر، ونشير إلى بعض الخصوصيات الموجودة في لفظ الحديث:"من مات ولم يعرف"، لابدّ وأنْ تكون المعرفة هذه بمعنى الاعتقاد أو مقدمة للاعتقاد، "من مات ولم يعرف" أي: من مات ولم يعتقد بإمام زمانه، لا مطلق إمام الزمان، بإمام زمانه الحق، بإمام زمانه الشرعي، بإمام زمانه المنصوب من قبل الله سبحانه وتعالى.
"من مات ولم يعرف إمام زمانه" بهذه القيود "مات ميتة جاهلية"، وإلاّ لو كان المراد من إمام الزمان أيّ حاكم سيطر على شؤون المسلمين وتغلَّب على أُمور المؤمنين، لا تكون معرفة هكذا شخص واجبة، ولا يكون عدم معرفته موجباً للدخول في النار، ولا يكون موته موت جاهلية، هذا واضح. إذن، لابدّ من أن يكون الامام الذي تجب معرفته إمام حق، وإماماً شرعياً، فحينئذ، على الانسان أن يعتقد بإمامة هذا الشخص، ويجعله حجةً بينه وبين ربّه، وهذا واجب، بحيث لو أنّه لم يعتقد بإمامته ومات، يكون موته موت جاهلية، وبعبارة أُخرى: "فليمت إنْ شاء يهودياً وإنْ شاء نصراني".
اما حديث الثقلين وهو من الأحاديث المتواترة، رواه حفاظ أهل السنة والشيعة بأسانيد صحيحة عن جم غفير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، عدَّ ابن حجر ـ من علماء أهل السنة ـ أكثر من عشرين منهم في كتابه الصواعق المحرقة[1] وعدَّ غيره من حفّاظ أهل السنة أكثر من ثلاثين صحابياً كما في سنن الترمذي[2]، وألّف الحافظ أبو الفضل المقدسي المعروف بابن القيسراني ـ وهو من كبار حفّاظ أهل السنّة ـ كتاباً خاصاً عن طرق هذا الحديث الشريف[3]. كما أثبتت العديد من الدراسات الحديثية تواتره بما لا يدع أي مجال للنقاش أو التشكيك، نظير ما فعل العلامة المتتبع المير حسين حامد الموسوي في موسوعة عبقات الأنوار وغيره من العلماء[4].
ويتضح من روايات هذا الحديث الشريف أن النبي المكرم صلى الله عليه وآله قد كرر مضمونه بعبارات وألفاظ متقاربة في عدة مناسبات، منها في يوم عرفة من حجة الوداع، وموقف يوم الغدير في طريق عودته منها وبعد انصرافه من الطائف، وفي الجحفة، وفي خطبة له في مسجده بالمدينة بعد عودته من هذه الحجة، وفي حجرته أيام مرضه صلى الله عليه وآله وقد امتلأت الحجرة بالصحابة[5]. وكل ذلك يكشف عن أهمية الوصية النبوية التي تضمنها الحديث بالنسبة للإسلام والمسلمين وإلا لما أولاها ـ وهو الحريص على المؤمنين الرؤوف الرحيم بهم ـ كل هذا الاهتمام في التكرار والتبليغ في تلك المواطن المهمة التي تجمع أكبر عدد من المسلمين، خاصة وأنه صلى الله عليه وآله كان يبادر لإعلان هذه الوصية ويؤكدها على الملأ العام دون أن ينتظر مَن يسأله عنها.
ويستفاد من بعض الروايات أن مضمون الوصية التي تضمنها هذا الحديث الشريف، هو الذي أراد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله كتابته للمسلمين في الأيام الأخيرة من حياته المباركة عندما طلب أن يأتوه بكتف ودواة ليملي عليهم وصية لكي لا يضلوا بعده، كما ورد في نص حديث الكتف والدواة هذا المروي في صحيح البخاري[6] وغيره فمنعوه من ذلك ووقع الاختلاف فصرفهم كما في حديث رزية يوم الخميس المشهور دون أن يدون الوصية، إذْ يُلاحظ أن عبارة "لن تضلوا بعدي" المذكورة في حديث طلبه كتابة الوصية عبارة متكررة في حديث الثقلين أيضاً، كما تكررت وصيته بأهل بيته وعترته خيراً في حديث الثقلين وفي وصاياه في الساعات الأخيرة من حياته المباركة.
ويظهر من ذلك بوضوح أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أراد تسجيل مضمون الحديث الشريف في وثيقة نبوية حاسمة للجدال مدونة بحضور كبار صحابته قطعاً للجدال وتوكيداً للأمر. وكل ذلك يبيّن أن الموضوع الذي يتضمنه مهم للغاية وإلا لما أكد عليه هادي الأمم صلى الله عليه وآله بهذه الدرجة المشددة، وهذا الأمر يكشف عنه نص الحديث نفسه المصرح بأن العمل بالوصية التي يتضمنها هو سبيل النجاة من الضلالة بعده صلى الله عليه وآله... كما سيتضح أكثر خلال دراسة نصه.
كما أن ثبوت تواتر الحديث الشريف عند المسلمين كافة يجعل من الممكن الاستناد اليه في المسائل الاعتقادية كما هو ثابت في علم الكلام الاسلامي، لذا يمكن الاستناد اليه في قضية الإمامة .
دلالات الحديث على وجود الإمام
دلالات الحديث الشريف كثيرة، وقد استدل به العلماء لاثبات معظم مسائل الإمامة حسب مذهب أهل البيت (عليهم السلام)[7]، نقتصر هنا على ذكر أهمها ممّا يرتبط بموضوع بحثنا خاصة.
صرّح الحديث الشريف بأن سبيل النجاة من الضلالة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله، إنما يكون بالتمسك بالقرآن والعترة النبوية معاً : " ما إن تمسكتم بهما "، وليس بواحد منهما فقط، بمعنى أن التمسك بأحدهما لا يكون تاماً وحقيقياً ولن يضمن النجاة من الضلالة إلا إذا اقترن وقاد الى التمسك بالآخر، فلن يكون مدعي التمسك بأحدهما صادقاً في ادعائه لأنهما " لن يفترق" .
حدّد الحديث بوضوح هوية الثقل الثاني بقوله صلى الله عليه وآله : " عترتي أهل بيتي "، والعترة كما يقول علماء اللغة : "نسل الإنسان، قال الأزهري: وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك "[8].
وبهذا تخرج نساء النبي صلى الله عليه وآله من مصداق الحديث.
بل وحتى مع الأخذ بوصف " أهل بيتي " مجرداً تخرج نساء النبي من المصداق لما أخرجه مسلم في صحيحه في ذيل حديث الثقلين حيث وضّح راوي الحديث عن زيد بن أرقم المقصود عندما سألوه : "مَن أهل بيته، نساؤه؟ قال : لا وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل من الدهر ثم يطلقها فترجع الى أبيها وقومها . أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة من بعده "[9] .
الهوامش
(1) سورة النساء 4/165
(2) سورة الانفال 8/42.
(3) سورة الانعام 6/149.
(4) نهج البلاغة 3/188 رقم 147.
(5) شرح المقاصد 5/239 وما بعدها.
(6) مسند أحمد 5/61 رقم 16434.
(7) الصواعق المحرقة لابن حجر: 148، أهل البيت في المكتبة العربية : 279.
(8) صحيح البخاري: 1/ 37، 4/ 31، 4/ 65 ـ 66، 5/ 137،، 7/ 9، 8/ 161 من طبعة دار الفكر المصورة عن طبعة استانبول وفي جميعها وردت عبارة "لن تضلوا بعدي" في الحكاية عن مضمون الكتاب الذي أراد كتابته.
(9) راجع تلخيص وتعريب السيد علي الميلاني للجزء الخاص بطرق حديث الثقلين من موسوعة عبقات الأنوار وقد طبع هذا التلخيص مرتين. الأولى في مجلدين والثانية في ثلاث مجلدات.