الحبُّ والبغض خُلّتان تتواردان على الخواطر، يعبّر بهما عن إقبال النفس وميلها إلى الشىء، وعن إدبارها عنه وتولّيه، فإن الأشياء برمّتها وحذافيرها جزئياّ وكلّياً، أمرياً وخلقياً، غيبيّاً وشهودياً، ملكياً وملكوتياً، سفلياً وعلوياً، نورياً ونارياً، جوهرياً وعرضياً، فردياً واجتماعياً، شخصياً ونوعياً مادياً ومعنوياً،
جسمياً وروحياً، دنيوياً واخروياً، إلى جميع ما يقع مورد تصوّر الانسان وتصديقه، لمّا عرضت على محكمة القضاء في النفس تصوّراً وتصديقاً، المنعقدة لدى عرض كلّ شىء عليها في أقصر آن لمحة البرق بصورة يقصر الفهم عن إدراكها، فلا يخلو من انعكاس الشىء في عدسة القلب ومرآته، وميل النفس اليه ورغبته فيه بعد تماميّة تصوّره وتصديقه، وإذعان النسبة بينه وبينه، أو عدم انعكاسه في صفح القلب، وإعراض النفس ورغبته عنه، وهذه هي حقيقة الحبّ والبغض.
والأمران كما يتبعان كلاهما في أصل تحققّهما البواعث والدواعي لهما الموجودة في الشىء، كذلك يتبعانها في مدارجهما ومقاديرهما ومراتبهما، ويحدّان بعدّها وحدّها، ويوصفان من الكثرة والقلّة والضعف والشدّة بقدر ما يوجد من البواعث وزنتها، فبميزان المسبّبات تعاير المحبّات وتوزن.
فالذات الوحيد الّذي يستأهل للحبّ أولاّ وبالذات قبل كلّ شىء إنّما هو الله تبارك وتعالى نظراّ إلى ذاته وصفاته وأفعاله، فكلّ صفة من صفات جلاله وجماله وكماله، وكلّ سمة من مظاهر قدسه، وسبحات وجهه، وبيّنات عظمته، وكبريائه، ودلائل عواطف رحمته، ولطائف برّه مع تكثّرها بمفردها، باعثة قوية للحبّ الّذي لا انتهاء له. وأسمائه الّتي تناهز الفاّ أو تزيد، وينبئ كلّ منها عن المسمّى بصفة مطابقة، وبصفات التزاماً وتضمنّاً، هي بواعث وموجبات للحبّ له تعالى من ألف ناحية وناحية، تستقلُّ كلُّ واحدة منها رأساً في استعباد الانسان، واحتلال حبّة قلبه بالحبّ.
حب الله تعالى في الاسلام
ولله تعالى الأولويّة والأوّليّة في الحبّ، والّي يوجد لدى غيره من دواعي الحبّ وأسبابه فمن رشحة فضله، وغيث جوده، ونفحة عطفه ولطفه. وإليه تنتهي حلقات الوجود، وإلى عوارف رحمته تمتدّ سلاسل الحياة. ومنه جلّ وعلا سوابغ النعم، وصفو المنائح والمنن، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللَّهِ)
. فمن قدّم غيره تعالى عليه في الحبّ فقد شذّ عن حكم العقل، وقدّم الممكن على الواجب، وآثر المعلول على العلّة، وعلى الله أن يؤاخذه بذلك ويعاقبه كما جاء في قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوا نُكُمْ وَأَزْوا جُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَا لٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَـرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَـكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِى وَجِهَاد فِى سَبِيلِهِى فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِى وَاللَّهُ لاَيَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـسِقِينَ)
ومهما لم تك تحدّ تلكم الصفات صفات الواجب تعالى، ولا تقف دون حدّ موصوف فالحبُّ الّذي تستتبعه هي - وهو وليدها، وينبعث هو منها - لا بدّ من أن يكون غير محدود، ولا يتصوّر فيه قطّ غلوّ، وإن بلغ ما بلغ، إذ الغلو إنما هو التجاوز عن الحدّ، والخروج عن القياس المعيّن المعروف بحدوده ومقاديره، فما لا حدّ له لا غلوّ فيه.
وإنما يختلف الناس في مراتب الحب لله على عدد رؤسهم، لاختلافهم في العلم ببواعثه. وذلك أنّ الحبّ المنتزع من بواعثه وموجباته يستتبعه العلم بها وينشأ ويقدّر بقدر الاطّلاع عليها، وليس جميع أفراد الفئة المسلمة في معرفة الله وصفاته على حدّ سواء، بل، لكلّ أمرء منهم نصيب يخصُّ به، وحظٌّ لا يشاركه فيه غيره ومبلغ من العلم بذلك لا يدانيه أحد، ولكلّ فرد شأن يغنيه.
والحبُّ لله جل وعلا إنما يثمر وينتج للعبد عند ما يتحقّق التحابب من الطرفين ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعد ما يوجد لدى العبد أيضاً بواعث ودواعي يحبّه الله بها،
ومن أجلّ أفراد تلك الفئة الصالحة، عباد الله المخلصين، مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد عرفّه بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الراية الصحيح الثابت المتواتر المتّفق عليه بقوله: "لاعطينّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله".
وإذا تمّ التحابب وحصلت الصّلة من الطرفين يترتّب عندئذ على الحبّ كلّ فضيلة، ويستأهل العبد بذلك لكلّ عناية من الله تعالى وكرامة، ويحصل له القربى والزّلفى لديه حتّى يكون عنده مشرّفا بما جاء في صحيح البخاري
من الحديث القدسي: "ما يزال عبدي يتقرّب إلىّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الّتي يبطش بها، ورجله الّتي يمشي بها، وإن سألني لاعطينّه، ولئن استعاذ بي لاعيذنّه" الحديث
وهذا الوسيط في الحبّ الّذي هو رمز الصلة بين الله وبين من آمن به، ووسيلة العباد إليه، وباتّباعه تدرك سعادة الدارين، وبه يفوز المؤمنون في النشأتين، وتنـزل لهم البركات في العاجل والآجل، له الأولويّة والأوّليّة في الحبّ ثانياً وبالعرض وله السبق في ذلك إلى كافّة الموجودات،
وإلى جميع ما صورّته يد القدرة في عالم الوجود، وإلى هذا يوعز ما جاء في الصحيح من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : "أحبّوا الله لما يغذوكم وأحبّوني بحبّ الله، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي"
وهذه هي قاعدة الاعتبار في النسب والإضافات الّتي سيوافيك تفصيلها.
هذه ناحية واحدة من بواعث حبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهناك نواحي شتّى لا تعدّ ولا تستقصى. نظراً إلى صلته الوثيقة بالله، وانتسابه الاكيد إلى المولى سبحانه تارة وإلى ما جعل الله له من مناقب وفضائل، وإلى شخصيتّه الفذّة العظيمة وما يحمله بين جوانحه من محاسن ومحامد، وملكات ونفسيّات، يستدعي كلٌّ منها حبّه والتعشّق به قبل كلّ شىء بعد الله تبارك وتعالى.
فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) مع قطع النظر عن فضائل طينته وعنصره ومحتده، وما في خَلقه وخُلقه، ومولده ونشأته، ومكارم أخلاقه ونفسياته الكريمة، وكراماته ومقاماته ونعوته وصفاته المتكثرّة الّتي تخصّ به، لو لم يك فيه إلاّ كونه غاية للوجود ولولاهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن الانسان مذكوراً، وما وهدت له الارض، ولم ترفع سماء، وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بالبريّة من أنفسهم بولايته العامّة الكبرى الّتي قورنت بولاية الله تعالى في كتابه، لكان أجدر وأحرى وأولى وأحقّ بأن يكون أحبّ لكلّ امرء آمن به وصدّقه، من نفسه وما تحويه، ومن ذاته وممّن يمتّ به من أهله وولده ووالده وذويه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه والناس اجمعين.
وليست الامّة المؤمنة في ذلك شرعاً سواء، بل هم فيه على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حبّ الله تعالى قال الإمام القُرطُبىُّ: كلُّ من آمن بالنبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه ايماناً صحيحاً لا يخلو عن وجدان شىء من تلك المحبّة الراجحة،
غير أنّهم متفاوتون،
فمنهم:
من أخذ من تلك المرتبة بالحظّ الأوفى
ومنهم: من أخذ منها بالحظّ الأدنى،
كمن كان مستغرقاً في الشهوات، محجوباً في الفضلات في أكثر الأوقات.
لكن الكثير منهم إذا ذكر النبىّ (صلى الله عليه وآله وسلم) اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الامور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجداناً لا تردّد فيه، وقد شوهد من هذا الجنس من يؤثر زيارة قبره ورؤية مواضع آثاره على جميع ما ذكر، لما وقر في قلوبهم من محبّته، غير أنّ ذلك سريع الزوال بتوالي الغفلات، والله المستعان.
وعلى هذا الأصل المتسالم عليه قد جاء في الصحيح مرفوعاً من طريق أنس ابن مالك: (فوالّذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ اليه من والده وولده والناس اجمعين).
وفي الصحيح من طريق ابي هريرة: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ اليه من والده وولده).
وفي لفظ من طريق ابي هريرة: (لا يؤمن أحدكم حتّى أكون احبّ اليه من ولده ووالده والناس اجمعين).
وفي حديث آخر: (ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ اليه ممّا سواهما...) وفي لفظ: (ممّن سواهما).
وفي لفظ للبخاري: (حتّى يكون الله ورسوله احبّ اليه مما سواهما).
وفي صحيح أخرجه أبو بكر المالكي في الجزء السابع من كتاب (المجالسة) من طريق أنس مرفوعاً: (لا يؤمن عبدٌ حتّى أكون أحبّ إليه من أهله وماله والنّاس اجمعين