بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح... نداء يتردّد خمس مرّات في كلّ يوم من حناجر المؤذّنين والمصلّين، نداء هو دعوة من الله لعباده المؤمنين للسّعي والإسراع نحو الفلاح، نحو الهدف الأسمى، نحو الغاية والمطلب لكلّ مؤمن يوقن بلقاء ربّه، ويدرك أنّ هذه الحياة الدّنيا هي دار ممرّ, وأنّ الآخرة هناك هي المستقرّ.
وقد وردت كلمة الفلاح في القرآن الكريم أربعين مرّةً بأكثر من صيغة، والصّيغ الّتي ارتبطت بالفلاح في الآيات، وحتّى في الأحاديث الكثيرة، لم يقتصر مضمونها على التعبّد وذكر الله والإيمان به وبباقي الجانب العقيديّ، إنّما طالت سلوك الإنسان في كلّ مناحي الحياة. فحصاد المؤمن من مواسم عطائه وعبادته، هو حصاد مطلق، حصاد لا يتجزّأ، هو سعادة واطمئنان في الدّنيا، وفلاح وثواب في الآخرة.
والفلاح في اللّغة ليس لقطة نجاح أو ربح في زمن أو مكان ما، وليس ثروةً جُمعت ولا منصب أو موقع، ولا هو قصر أو ممتلكات، بل هو مسار ممتدّ من الولادة حتّى الممات.. في اللّغة، الفلاح هو الشقّ والفوز، ومن هنا يقال فلح الأرض، أي شقّها لرمي البذور فيها. وأفلح الإنسان، أي فاز ونجا وظفر بما يطلب ويجلب له الخير.
إنّ العلاقة واضحة بين عبادة المؤمن وسعيه وكدحه إلى ربّه، وبين عمل الفَلاّح وكدحه لتأمين لقمة عيشه. الفَلاّح، هو من يشقّ الأرض، يحرثها، يعتني بها، ليرمي في أثلامها بذوره، وكلّه رجاء وأمل في أن يُحصّل لعياله موسماً جيّداً. فالمنطلق واحد: كدّ وسعي، والأسلوب واحد: زراعة بذور لنيل موسم حصاد جيّد.
وكم هو جاهل وغبيّ وظالم لنفسه، إذا اختار الفَلاّح بذوراً لا يثق بجودتها، ويعرف أنّها قد لا تثمر، أو إذا رمى بذوره في أرض ميتة أو صخريّة. فَلاّح كهذا، لن يحصد غير الخيبة والخسارة، وهكذا هو الإنسان الّذي يغفل عن نفسه وعن ربّه، ويغفل عن أنّ "الدّنيا مزرعة الآخرة"، كما ورد عن رسول الله(ص).
أمَّا الّذي يتبع نهج المفلحين الّذي رسمه لنا القرآن، فإنَّه مثل ذلك الزّارع العاقل، وحصاده المأمول والمُرتجى معلوم ومعروف ولا شكَّ فيه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الأعراف: 8].
سؤال يسأله كلّ من يسمع "أولئك هم المفلحون": كيف أكون واحداً منهم؟ سؤال يشكّل نقطة البداية للالتحاق بركب هؤلاء. وجوابه في حديث رسول الله، إذ يقول(ص): "قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليماً، ولسانه صادقاً، ونفسه مطمئنّة، وخليقته مستقيمة، وأذنه مستمعة، وعينه ناظرة"... وجوابه في حديث عليّ(ع): «من غلب عقله هواه أفلح.. أطعِ العلم واعصِ الجهل تُفلح».
وأنت عندما تجعل إيمانك بهذه المواصفات، عندها سترى طريق الفلاح بيّناً واضحاً، وتسلكه مطمئنّاً، وكلّ محطّات حياتك وكلّ مواقفك ومنطلقاتك، تقيمها تحت شعار: "لعلّني أكون من المفلحين".
ويُعلّمنا القرآن الكريم فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 35].
الوسيلة هي الطّريق، أو الأسلوب، أو أيّ أمر يُمكن أن يُقرّبك ممّن تُريد التقرّب منه. والله عزّ وجلّ ليس زعيماً وجيهاً، يُجبرك على أن تريق ماء وجهك كي تتقرّب منه، الله عزيز وغنيّ عن عباده، ولا يُريد لهم سوى العزّة والكرامة والخير والصّلاح. لهذا، فإنّ أيّ فعل أو قول يقع تحت عنوان العمل الصّالح، هو وسيلة صالحة تؤمّن لك الوصول إلى ساحة رحمته، المهمّ أن تبدأ الكدح في رحلتك إلى الله.
أنت لست مكرهاً لتكون من المفلحين أو المؤمنين، ولا أحد يحمل سوطاً ويكرهك على الكدح لوجه الله. هذا شأنك، وهذا خيارك، وبيدك الخيار لتكون ما شئت، لكنّك لن تستطيع أن تُسكت هواجسك وقلقك وأسئلتك، كلّما خلوت إلى نفسك أو كلّما مرّ الموت من أمامك، وما أكثره هذه الأيّام: ماذا بعد الموت؟ وهل يستأهل هذا أن آخذ احتياطاتي بأن أتهيّأ.. بأن أتحضّر.. أتزوّد...؟ الأمر متروك لك.
أيّها الأحبَّة: الأرض كالعمر، والعمر كأرض في عهدتك، فإذا تركت أرضك بوراً، فإنّها ستشكوك إلى الله، وتقول لك: ضيَّعتني ضيَّعك الله. وكذلك سيشكوك عمرك إلى الله في كلّ دقائقه وثوانيه، بكلّ شبابه وشيبه، وستُسأل عنه فيما أفنيته وأبليته..
فمن كان ديدنه الغشّ أو الكذب أو النّفاق أو الظّلم، فلا مكان له بين المفلحين، فالله يقول في كتابه العزيز: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[الأنعام: 21]، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}[يونس: 17]، {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المؤمنون: 117]، {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}[يونس: 69].
أمَّا الإنسان العاقل، فهو من يوظّف رصيد عمره في طاعة الله، فهذا الرَّصيد قابل للنّفاد في أيّ لحظة، ومتى أُقفل، فإنَّ قوّة الأرض كلّها لن يمكنها أن تجدِّد لك فيه أو تطيله ولو ثانية.
والعاقل من لا يضع قدماً في البور وقدماً في الفلاحة، ظنّاً منه أنّه يستطيع الجمع بين التجارة مع الله والتّجارة مع غيره طمعاً في زيادة أرباحه.
المفلحون تراهم في الّذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزّكاة، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر...
تراهم في الذّاكرين والشّاكرين والمستغفرين بالأسحار...
تراهم في الّذين هم في صلاتهم خاشعون، وللزّكاة فاعلون، وعن اللّغو معرضون...
تراهم في من هم لأماناتهم وعهدهم راعون، وعلى صلواتهم يحافظون.
تراهم في الّذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم...
تراهم في الّذين لا يأكلون الرّبا أضعافاً مضاعفةً بغية الرّبح ولو على حساب تعب الآخرين ومعاناتهم.
تراهم في من يصبرون ويصابرون ويرابطون في سبيل الله...
تراهم في المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم...
تراهم في الثّابتين الرّاسخين المتجذّرين في إيمانهم، مهما كبرت التحدّيات وبهظت أثمان الإيمان، ومهما كان الألم عظيماً ومهما ثخنت الجراح...
فالثّبات على خطّ الفلاح يُختبر في الأزمات وفي البلاء والشدّة، والمؤمن الثّابت يتحمّل كلّ هذا لأنّه يرى النّتيجة أمامه، يرى حصاد عمره أمامه وفيراً، يرى ثقل موازينه، يرى نفسه وهو يؤتى كتابه بيمينه، يرى كيف تستقبله الملائكة، وكيف يساق إلى الجنّة زمراً مع إخوانه المؤمنين، يفتح لهم خزنتها أبوابها: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}[الزّمر: 73]، {سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[النّحل: 32].
أيّها الأحبّة: إنّ رسالة الإيمان واضحة ولا لبس فيها: كن واعياً واختر طريق الفلاح. فالدّين ليس ثوباً نرتديه، الدّين حبّ وحياة صالحة، ومعاملة ونصيحة، ورفق وعصمة واستقامة، وهو إلى ذلك صمّام أمان لعيش كريم، هو حرب ضدّ الحقد والبغض والفساد والانحراف، وثورة من أجل الحياة وبناء الحياة.
أعاننا الله على ذلك، وهذا هو الفلاح المبين.
والحمد لله ربّ العالمين.