تقدم بحث أهمية الإعلام في الحركة السياسية والجهادية، وتمت الإشارة إلى أن الإعلام في أي حركة سياسية وجهادية مهم جداً، بحيث لا يمكن أن تنتج هذه الحركة وتحقق أهدافها وغاياتها ما لم يكن لها غطاء إعلامي.
وإذا أردنا التفتيش عن أصول الإعلام، نجد أن أصله - كما يبدو - مأخوذ من عملية البلاغ التي يقوم بها الأنبياء والمرسلون، فالمسؤولية الأولى الملقاة على عاتق النبي، هو إبلاغ الرسالة، وإبلاغها - أحياناً - يكون معبراً عن كل أبعاد المسؤولية والعمل الذي يقوم به الرسول {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ...}(32)، وهنا يبدو وكأنه لا يتحمل الرسول شيئاً آخر غير البلاغ.
وأحياناً أخرى يكون هذا العمل والمسؤولية، هو المهمة الأولى في سلسلة المهمات التي يتحملها الأنبياء والرسل، كما في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(33).
ففي الآية الكريمة يحدد القرآن الكريم للرسول ثلاث مسؤوليات رئيسية، وهي: تلاوة الآيات، وتزكية الناس وتربيتهم وتطهيرهم, وتعليمهم الكتاب والحكمة.
ونجد أن البلاغ الذي يعبر عنه في هذا الآية الكريمة بـ(تلاوة الآيات) يأتي في المرحلة الأولى من مراحل هذه المسؤوليات، فالإعلام يمثل الدور الرئيس والأساس في العملية التغيرية التي يمارسها الأنبياء والرسل.
وقد وصف الله سبحانه أنبياءه الذين لا يتحرجون من الالتزام، وإعلام ما فرض الله عليهم من واجبات وتكاليف، بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}(34).
وبالنسبة إلى النهضة الحسينية كان احد الأسباب الرئيسية في استمرارها وإنجاحها، هو الدور الخاص الذي قامت به البقية الباقية من أهل البيت (عليهم السلام) في تغطيتها، وتوضيح معالمها وأهدافها من الناحية الإعلامية، وإبلاغ هذه الرسالة إلى الناس.
علماً إن هذا الدور قام به الإمام زين العابدين (عليه السلام) أولاً ، باعتباره يمثل البقية الباقية من أهل البيت، ومن ثم قامت به السيدة العقيلة زينب (عليها السلام) وبقية أهل البيت (عليهم السلام).
ولاشك أن الإعلام من أجل نجاحه يحتاج إلى المنهج والأسلوب المناسب الذي يجب أن يلتزمه، كأن يكون الإعلام متناسباً مع المخاطبين في مراعاة ظروفهم وعقولهم وأوضاعهم النفسية، والقضايا الهامة التي تتفاعل معها الأمة.
وهذا ما يعبر عنه علماء اللغة بـ(البلاغة) التي هي: عبارة عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وهي بذلك تختلف عن الفصاحة، وهي: أن يكون الكلام متقناً متطابقاً مع النظام الذي وُضعت على أسسه اللغة، ويكون اختياره المفردات اختياراً دقيقاً وبديعاً ومؤثراً (35)، فالبلاغة تحتاج إلى أن يكون الكلام متطابقاً مع الظروف التي يعيشها الناس - وهذا ما يعبر عنه بالخطاب السياسي - من أجل أن يكون مؤثراً فيهم.
ولذلك نجد أن العقيلة زينب (عليها السلام)، وهي رمز المرأة في النهضة الحسينية، عندما أرادت القيام بهذه المهمة الإعلامية - إضافة إلى نساء أخريات قمن بأدوار معينة، لكنها أقل من دور العقيلة - كان لها مراحل أربعة في إعلامها وفي خطابها السياسي، وكانت تنتقي - أيضاً - المضمون في هذا الإعلام وفي هذا الخطاب، بما يتناسب مع هذه المراحل الأربعة التي قامت بها:
المرحلة الأولى: مرحلة الإعلام في الأوقات والأيام التي كانت قبل الدخول في المعركة، أو بعدها بقليل، حيث كان لها حديث في ليلة ويوم عاشوراء، وكذلك في أثناء المعركة، وفي ليلة الحادي عشر، ويوم الحادي عشر، عندما بدأوا المسير باتجاه الكوفة، وكان حديثها يرتكز بصورة رئيسية على إثارة المشاعر والعواطف في الأشخاص الذين اشتركوا في المعركة.
ففي حديثها (عليها السلام) عندما انتهت نحو الحسين (عليه السلام) وهو يجود بنفسه وقد دنا منه عمر بن سعد في جماعة من أصحابه صاحت: ((يا عمر، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟ فدمعت عيناه حتى سالت دموعه على لحيته وصرف وجهه عنها))(36). فقد أثار كلامها (عليها السلام) هذا القلب القاسي، الذي عبَر عن تأثره العاطفي بالبكاء، ثم حديثها يوم الحادي عشر، عندما أرادت توديع الحسين (عليه السلام)، صاحت (عليها السلام): ((يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا.. فأبكت كل عدو وصديق...))(37).
فالقضية هنا وإن كانت قضية التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والعلاقة به تعالى، ولكنها مع ذلك كله نجد حديثها هنا هو إثارة المشاعر والعواطف الخيرة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرة هذا الإنسان، ولإيقاظ الضمائر، وتغيير الواقع النفسي والروحي الذي كان عليه أولئك الناس.
وهي وإن لم تحقق هذا الهدف أثناء المعركة، أو في ظروفها القريبة، ولكن كان لهذه المرحلة الأثر الكبير في التغييرات الروحية والنفسية القتالية فيما بعد.
المرحلة الثانية: خطابها (عليها السلام) في الكوفة، حيث كان الوضع السياسي والنفسي العام فيها موالياً لأهل البيت (عليهم السلام) ويتعاطف معهم، إضافة إلى ذلك فإنَّ أهل الكوفة قدَّموا المواثيق والعهود لنصرة الإمام الحسين (عليه السلام)، وكانت قلوبهم معه لكنهم تخاذلوا عنه في اللحظة الأخيرة، لأسباب عديدة تقدمت الإشارة إليها.
فالعقيلة زينب (عليه السلام) حينما خطبت في أهل الكوفة، وكذلك فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) وغيرهما، كان الحديث يرتكز على التأنيب، لنكثهم العهود، ونقضهم المواثيق، مما جعل الكثير منهم يتأثر بخطابهن، ويبكي بشدة ويندم على ما قام به، وبدأوا يتحركون فوراً؛ للتعبير عن ذلك، ولذلك كان خطابها خطاباً سياسياً بليغاً اختارته بصورة مناسبة، تتطابق مع الأوضاع السياسية والروحية في ذلك الوقت.
المرحلة الثالثة: مرحلة الحديث مع أهل الشام، أي: الحديث مع الأعداء التقليديين الشامتين، وأحاديثها وخطاباتها السابقة، وإن كانت - أيضاً - مع الأعداء، ولكن عموم المستمعين منهم كان ممن يوالي أهل البيت (عليهم السلام)، ولذا كانت الظاهرة العامة في الكوفة - بعد مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) - ظاهرة حزن وبكاء ونحيب، ولكن الأمر كان مختلفاً مع أهل الشام، فالشاميّون كان موقفهم عدائياً من أهل البيت (عليهم السلام)، وكانت الظاهرة الاجتماعية العامة هي: ظاهرة سرور وفرح، بحيث زُينت الشام استبشاراً بقتل الحسين(عليه السلام) (38).
ولذا تغيّر مضمون الحديث وأسلوبه، فأصبح عبارة عن كشف الحقائق من ناحية، وإبراز شجاعة أهل البيت (عليهم السلام)وصمودهم وثباتهم واستمرارهم في هذا الطريق والوقوف إلى جانب الحق من ناحية أخرى، والحديث عن المستقبل الذي لابد أن يتحقق فيه النصر للمؤمنين من ناحية ثالثة (39).
المرحلة الرابعة: مرحلة ما بعد الأسر، عندما استقرت (عليها السلام) في المدينة، ثم نُفيت منها قهراً، نجد أن خطابها (عليها السلام) في المدينة قد تغير، وأصبح لعموم المسلمين، ولم يختص بالأنصار والموالين، كما في الكوفة، كما لم يكن خطاباً مع الأعداء كما في الشام، وإنما هو خطاب مع جمهور المسلمين، الذي كان يريد أن يعرف الحقائق والحوادث التي جرت في كربلاء.