ثباتُ القيم على مدى قرونٍ من الزمن في قضية ما، يفيد اقترانها بإيمان مطلق من قبل جهة ما بدون تأثيرات ذاتية سلبية أو عكسية، ووضوح القيم واستقرارها في حركة السير إلى الهدف، يفيد ارتكاز هذه الجهة في هذه القضية على مرجعية إنسانية لابد وان تكون متكاملة.
أهل البيت (عليهم السلام) لا يقاس بهم أحد، كما قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة» (1).
ولو افترضنا جدلاً أن هناك قياساً بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين يزيد (لعنة الله عليه)، ثم سقناهما كمرجعيتين لجهتين حضرتا في كربلاء في اليوم العاشر من المحرم سنة 61 هجرية.. الحسين (عليه السلام) كمرجعية داعية إلى الخير والحق والفضيلة، ويزيد داع إلى اغتنام الفسق والظلم والنفاق لتثبيت أركان خلافة بني أمية، ومع تباينهما الصريح في المثل والقيم ولا نسبية في قواهما الحربية، سيتبين من موقفيهما أن المثل والقيم لا تكون خالدة وثابتة ومستقرة في سيرها إلى الهدف المنشود عند الإنسان الفرد أو الجماعة، إلا بثبات الأصول والقواعد وبإتباع المرجعية البشرية ذات الوجدان الحي والعقل المتوقد والنفس القوامة والمذهب المستقيم.
نعرف تماماً أن الحسين (عليه السلام) كان مثالاً للخضوع الكلي لأمر الله تعالى، وله (سبحانه وتعالى) أسلم واسترجع، ومن ذلك استهل الحسين (عليه السلام) خروجه من المدينة قاصداً كربلاء بالتصريح لأخيه محمد بن الحنفية: شاء الله أن يراني قتيلاً، وأن يرى النساء سبايا (2).
ثم إن إخباره (عليه السلام) السيّدة أُمّ سلمه (رضوان الله تعالى عليها) قبل خروجه من المدينة بمصيره المحتوم، وما سيؤول إليه أمره من قتل وسبي لأهل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله) من جهة قوم حملوا ثأراً جاهلياً، بقوله لها: «يا أمّاه، وأنا والله أعلم ذلك، وأنّي مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بدّ، وإنّي والله لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وأعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي... يا أُمّاه، قد شاء الله أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مظلومين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا معيناً» (3)، وهذا الإخبار - بكل تأكيدٍ - فيه دلالة على تميز الإمام الحسين (عليه السلام) بما هو فوق قدرة البشر من حيث الإرادة والعزيمة، فضلاً عن وحي يوحى إليه.
وليس أعظم من تقديم الإمام الحسين (عليه السلام) طفلَه الرضيع قرباناً لله وإحقاقاً للحق، حين جعله حرملة طعماً للسهام فأصابه في رقبته! وهو (صلوات الله عليه) الذي سقى أعداءَه وخيولَهم الماء من قبل وقوع المعركة في ظهيرة عاشوراء، قائلاً لرهطه: «اُسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفا»، وبادر بنفسه إلى سقي ابن طعان المحاربي (4)، ومع ذلك لم يأمن طفله ردى سهامهم!
ألم تأبى أنفسُ أنصاره في كربلاء التنعم بالحياة وملذاتها، فسجلوا لهم حضوراً خالداً، وهكذا علي الأكبر والقاسم وبرير وزهير والحر وحبيب ووهب وجون وعمر بن جناده وأبوه جنادة وجميع شهداء كربلاء؟ ألم يرم العباس (عليه السلام) الماءَ من كفيه وفاءً لأخيه (عليه السلام) العطشان، فرجع الميدان يحارب حتى قطع زيدُ بن ورقاء وحكيم بن الطفيل يمينه ويساره؟ ألم يدافع أنصار الحسين (عليه السلام) حتى آخر رمق من حياتهم عن إمامهم (عليه السلام)، فنالوا ما نالوا من نعيم الدارين؟
كان واضحاً ما فعله يزيد كمرجعية سياسية في الشام في ذلك اليوم المفجع، حينما تجاسر وتغنى فرحاً بقتل الحسين (عليه السلام) وسبي عياله ونسائه، قائلاً:
ليتَ أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
قد قتلنا القرم من سادتهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل (5)
وما فعله أعوانه المفسدين في الأرض حينما تسابقوا على رفع رأس الحسين (عليه السلام) على رأس رمح طويل، ورضّ صدره الشريف بحوافر خيولهم تشفياً لأحقاد بدرية وأحدية وخيبرية وحنينية وغيرهن.
ألم يحدثنا التاريخ أن شمر بن ذي الجوشن (لعنة الله عليه) صعد على صدر الحسين واجتز رأسه الشريف بسيفه من قفاه؟ ألم يتجرأ ابنُ زياد على سبايا أهل البيت (عليهم السلام) بذلّهم وإهانتهم في الكوفة؟ ألم يقصد ابن سعد قتلَ الإمام زين العابدين (عليه السلام) المريض لولا تدخل مباشر من عمته السيدة زينب (عليها السلام)؟
ألم تبالغ القبائل من الكوفة إلى الشام في إظهار الفرح ونشر الزينة في يوم عيد، بمناسبة وصول رأس الحسين (عليه السلام) ورؤوس أنصاره والسبايا من أهل بيته، رغبة في رضا أميرهم ابن زياد وخليفتهم يزيد؟ ألم تتجاسر أم هجام على الرأس الشريف فترميه بالحجارة من شرفة دارها؟
المواقف الحاسمة التي يمكن أن تشهد لأصحابها بالخير أو الشر في التاريخ كثيرة جداً، وإذا ما قيد عمل الخير بمرجعية معصومة خالصة الإيمان، فإنه سيكون خالداً، فكيف به إذا ما كان من ركاب سفينة أبي عبد الله (عليه السلام)، بلا شك أنها الأسرع.
______________________________
• الهوامش:
(1) نهج البلاغة، من خطبة له بعد انصرافه من صفين.
(2) مقتل الحسين (عليه السلام) للمقرم: 65، اللهوف للسيد ابن طاووس: 40.
(3) لواعج الأشجان: 31.
(4) تاريخ الأمم والملوك للطبري: 4 / 301 طـ الاستقامة بمصر.
(5) أمالي الصدوق: 231، روضة الواعظين للفتال النيسابوري: 191، مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: 80، الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 2 / 34.