اقول : بين القرآن علة طلب بناء السد كون يأجوج ومأجوج مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ،،، والافساد دأبهم (1) ولو امكن اصلاحهم لبين القرآن ذلك او لعله فعل معهم ذي القرنين ما يمكن به رفع فسادهم من غير حاجة بناء السد او قضى عليهم وهو قادر على ذلك بما اتاه الله من قوة ومن كل شيء سببا ولكن هناك لعله حكمة لبقائهم .
وتجد ايضا ان استفهام الملائكة مع الله تعالى لما ابلغهم بانه جاعل في الارض خليفة كان بخصوص صفة الفساد في الارض وعدم ملائمتها لتكون في خليفة الله . كما في قوله تعالى :
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) / البقرة .
اذن استفسار او استنكار الملائكة على عدم امكان اتصاف خليفة الله بالفساد صحيح ولكن يظهر انهم اشتبهوا بمن سيجعله الله خليفته في الارض مع من علموا منهم سابقا فسادهم ( احفظ هذا )
فاذا رجعت الى قول الامام علي ع عنهم :-خلق الله ألفا ومائتين في البر وألفاً ومائتين في البحر, وأجناس بني آدم سبعون جنساً, والناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج.
فان فرض صحة الرواية ومتنها يبين ان يأجوج ومأجوج ليس من ولد آدم ، وكون انهم بنص القرآن مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فانهم على الارجح خلق من خلق الله السابقين على آدم ابو البشر لم يصلحوا ان يكونوا خلفاء الله ولعلهم وامثالهم كانوا سبب استشكال الملائكة ، ولكن بقوا حتى زمان ذي القرنين الذي دفع اثر فسادهم وقتها ببناء السد , فتأمل .
السؤال الخطير والمهم المترتب على الاستنتاج السابق ( بفرض صحته ) هو : هل ان يأجوج ومأجوج في آخر الزمان هم نفسهم القوم او الاجناس الذين حجبهم ذي القرنين خلف السد ام انهم انتهوا بنهاية بناء السد وان في آخر الزمان هناك مصداق آخر لهم سوف يظهرون بانفتاح السد او الحاجز الذي كان يمنعهم من الاختلاط بالبشر او الناس !
الجواب صعب الاثبات وهنا اضع عناوين نظريات / اطروحات تفسيرية محتملة مختصرة لذلك :
1- يمكن احتمال ان ياجوج وماجوج الخلق الغير منتسبين لجنس بني آدم والذين حجبهم ذي القرنين خلف السد هم نفسهم في آخر الزمان وانهم في مكان مخفي عن اكتشافه الى حين انفتاح السد . ولكن يعترض هذا الاحتمال مشكلة هو ان التطور العلمي الحديث امكن به اكتشاف كل ظاهر الارض تقريبا وحتى بعض تفاصيل ما تحت الارض ولم يعثر على ما يساعد على هذا الفرض اي السد ومن خلفه من قوم .
2- فاذا افترضنا ايضا انهم ليس على ظاهر الارض فهذا ضعيف قبوله ايضا مع ظاهر الايات وان السد بني بين صدفين واستعمل زبر الحديد والقطر لتتميمه . وحتى روايات اصل ياجوج وماجوج تبين بعصها انهم خلق ليس من نسل آدم ولكنهم يعيشون على الارض كبقية المخلوقات ومخلوقات الارض اما على سطحها او في بحرها وقليل منها في باطن الارض تحت التراب كبعض انواع الديدان والحشرات .
3- نفترض انهم ليس اصلا على الارض ، ورحلة ذي القرنين كانت الى كوكب اخر . وهذا احتمال مهم ويمكن ان يفسر اشكالات متنوعة ولكن الدليل على اثباته ايضا ضعيف
4- نفترض ان يأجوج وماجوج في آخر الزمان هم مصداق ليأجوج ومأجوم زمن ذي القرنين ، اي ان صفة الانحراف والافساد وسفك الدماء ستظهر في فئة جماعة او أمة وستظهر في آخر الزمان بقوتها الغاشمة وتموج بين ابناء بقية البشر من ولد آدم ( قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ )
اقول : الترك في ( وَتَرَكْنَا ) يظهر انه من كلام الله تعالى وفعله ، ويظهر منه انه نوع عقاب واستحقاق على من سوف يكون فيه لان الفعل الإلهي العام وفق سنته هو الرحمة والهداية ! اذن لا بد من سبب وعلة تفسر هذا الاستثناء ( انتبه )
اقول : حرم الله ( استثنى ) من الرجعة من اهلكهم في الدنيا بعذاب الاستأصال وعدى ذلك فقانون الرجعة موجود والروايات تبين انها ستكون لمن محّض الايمان محضا او محّض الكفر محضا .
فاذا كان هذا واضحا فسيجمع الله من محّض الكفر محضا ويرجعهم (2) ، فيحاسبهم في الدنيا زمن الرجعة لينصر رسله في الدنيا حسب وعده إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ، وحيث انهم مستحقون للعقاب والعذاب فسيفتح عليهم في الاخير سد ياجوج وماجوج ( بغض النظر عن ماهيته وتفسيره ) وسيموج بعضهم في بعض وسيتركهم الله هكذا ويرفع عنهم الرحمة والهداية بان يرفع خليفته وحجته من الارض لانه ليس هناك باقٍ من يستحق الهداية والرحمة ، فاذا حصل هذا لم يلبثوا كثيرا حتى تبدأ تباشير اعلام الساعة تظهر لهم وتقترب منهم وهذا يناسب قولهم وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ،،، ويعاضد ايضا هذا الرواية التي تقول ( لا تقوم القيامة الا على شرار البشر )/ المعنى
هذه اقرب فرضية واطروحة افسر فيها حقيقة او رمزية ياجوج وماجوج في اخر الزمان ولعلي اضيف اليها لاحقا تفاصيل وادلة اخرى اذا وفقنا الله ، والله اعلم
الباحث الطائي
----------
(1) : الافساد دابهم ~ ولا يمكن لياجوج وماجوج تحمل خلافة الله والهداية لقصور تكوينهم وامكاناتهم ويمكن الاستدلال على ذلك من الايات التالية : حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا . انتهى
اقول : انظر فلقد تعامل ذي القرنين مع القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس بما يناسب مقامهم وهو إما تعذيب من ظلم او الجزاء بالحسنى لمن عمل صالحا وهذا لا يخفى على ذي فطنة انه يلائم من يتقبل وله استعداد للهداية وبالتالي يكافئ المؤمن ويعاقب الظالم ، ولو كان قوم ياجوج وماجوج من هذا النوع لفعل معهم نفس الشيء كما قيل له ان يفعل مع هؤلاء ! وحيث انهم ليس مستحقين للعذاب على ذنب مفعول عن قصد وعناد او خلاف للحق بعد علم ، وليس لعلهم ايضا مكلفين بنوع اتباع هداية لكمالات ما كما حال الانسان الكامل وخلافته لله ، والبشر عموما وغاية خلقهم ، فاكتفى ذي القرنين بصد أذاهم وشرهم بالسد كتفسير محتمل لما فعل معهم ، فتامل .
(2) : وهناك اية تبين حشر الله بعض الظالمين المكذبين بآيات الله في الدنيا وآخر الزمان ( ما بين علامة خروج دابة الارض والنفخ بالصور ) وقبل القيامة كما في قوله تعالى : وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ .
ويوزعون بمعنى يجمعمون في محل واحد وزمان واحد فيرجع اولهم الى اخرهم ، وهذا يتناسب مع احاديث روايات الرجعة ومنهم بعض الكافرين .
ويظهر من قوله تعالى ( فهم لا ينطقون ) ظهور حقيقتهم بما لا يمكنهم التكذيب والنفي والانكار والجحود كما كانوا يفعلون سابقا ! وهذا لا يكون الا بحضور وظهور ادلة الادانة والحساب بشكل غير الشكل الذي معلوم معروف وفق الفهم السببي الظاهري لكل امة وزمانها مهما تطورت لانه ظهور بحقيقة الشيء لا بظاهره ، والله اعلم .
بسمه تعالى
كانت المشاركة السابقة تأملات او اطروحة جديدة قرآنية تفسر قضية ياجوج وماجوج وتستظهر البعض الجديد من الحقائق والقرائن وسنزيد ادناه كشف الطاف ونكات اخرى
في قوله تعالى : فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا .
النقب الثقب ، قال الراغب في المفردات،: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب
كما نعلم من الآيات ان ذي القرنين جعل بين السدين ردما .
اي هناك سدين حاجزين ( صدفين ) كجبلين مثلا بينهما فراغ وملئ الفراغ بردم ما بين الصدفين من مادة الحديد والقطر . فاذا كان هذا واضحا فان ياجوج وماجوج حتى يمكنهم الوصول الى خارج السد سيكون بطريقين :
1- إما الصعود الى اعلى الردم ومن ثم النزول الى الجهة الاخرى وهذا قوله تعالى ( فما اسطاعوا ان يظهروه ) .
2- او ان ينقبوا جدار السد للخروج الى الجهة الاخرى وهذا قوله تعالى ( وما استطاعوا له نقبا ) .
ولم يذكر احتمال اخر مفترض وهو حفرهم / نقبهم تحت السد ( حفر نفق ) وليس في نفس جدار السد ! وهذا لعله استبعد وهو اصعب بكثير بالقياس للطريقتين الاخريتين كما يظهر من محاولات ياجوج وماجوج التي سجلها القرآن ذلك الوقت . وايضا الاية تكشف ونعاضد حقيقة ان الصدفين على سطح الارض وهما كجبلين عظيمين ولهما جذر اعمق في الارض كما اثبت العلم حديثا في دراسة الجبال ، فلا يمكن لياجوج وماجوج التفكير بمحاولة الحفر تحت السد بين الجبلين لان الارض ستكون صخرية صلبة جدا ،
وايضا " كقرينة مهمة اخرى " كون السد على سطح الارض ان الله ذكر محاولة ان يظهروه قبل ان ينقبوه !!! لان الصعود الى اعلى السد ومن ثم النزول وعبوره اسهل من امكان نقبه والتعامل مع قاسي الحجارة من قوم بدائيين في زمان قديم لعلهم لا يملكون الا الادوات البسيطة ، فتامل .
لذلك السياق والفهم والقرائن تصب بوجودهم على سطح ارض في مكان ما ، ويزيد تعقيدا هو فرض بقائهم نفسهم وليس مصداقهم الى اخر الزمان .
وصَفَهُم القرآن " لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا "
1- ماذا يفيد ونستنتج من هذا الوصف .
الجواب : الستر عن الشمس هو ما يستتر به من مسكن وملبس ، وحيث انهم لم يسترهم شيء من هذين او احدهما ، فهذا اشارة وتعبير قرآني يستفاد منه ان القوم كانوا يعيشون حياة بدائية بسيطة جدا بعيدة عن الحضارة ! بحيث ليس لهم مسكن مبني يأوون اليه او حتى ملبس يستترون به ولعلهم ليس لهم العلم بطريقة صناعة ذلك . ( وللعلم حتى عصرنا الحاضر وجدت اقوام بدائية مثلها كما في غابات الامزون في البرازيل واقوام الابوريجنل / الاصليين في استراليا الذين يعيشون شبه عراة )
طبعا هنا لم يذكر القرآن ان ذي القرنين فعل شيء معهم بل اكتفى بذكرهم فقط وهذا لعله يعني انه ليس هناك امر مهم بخصوصهم ،
ولكن ! حيث ان القرآن ذكر شأنهم وهو كتاب هداية وكل ما فيه بقصد فهنا ارجح احتمال انّ ذكرهم يُراد منه ان المنطقة التي وصلها ذي القرنين عن مطلع الشمس كانت فيها بعض الاقوام " البشرية " البدائية التي ابتعدت عن الحضارة ، فتأمل . وهذا سيتأكد ايضا بعد قليل عندما يستمر في طريقه باتجاه مطلع الشمس والقوم الذين وجدهم عند السدين . على عكس القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس حيث يظهر لهم حضارة وعقل وفيهم نزلت رسالة الهداية سابقا وحصل اختلاف فكان هناك ظالمين وكان هناك مؤمنين وفعل ما فعل ذي القرنين بشأنهم .
***
2- ماذا نستفيد ونفهم من قوله تعالى : كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا .
الجواب : لعلها تعني ان الله تعالى عالم مطلع على ما جرى عليه في رحلته وهي بتدبيره وهدايته تعالى له . وهذا بدوره يؤكد ان سيره باتجاه مغرب الشمس وثم مطلع الشمس كان بتوجيه وهداية الهية لغاية ظهرت في آثار افعاله التي اجراها .
***
3- ماذا نفهم من حال القوم الذين وجدهم قرب السدين بأنهم " لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا " .
الجواب : لا يكادون يفقهون قولا بمعنى لا يكادون يعلمون لغة تخاطب يمكن الحديث بها معهم .
وحيث ان ذي القرنين مكنه الله واعطاه من كل شيء سببا ( انتبه ) فان هذا يرجح كثيرا كون هؤلاء القوم كانوا ايضا على حال من البساطة العقلية بحيث انه حتى ليس لديهم لغة معتبرة للتفاهم وإلا لو كان ذلك لامكن لذي القرنين بما آتاه الله ان يجد الوسيلة لذلك ، فتأمل .
وبذلك فان التعبير القرآني يطرح دلالة على تقييم مستوى البشر الحضاري والعقلي ومدى ارتقائهم وذلك من خلال سعة لغتهم وتقدمها ولك ان تنظر الآن ونحن نعيش في هذا العصر وما صاحبه من تقدم حضاري تجد ان لغات العالم تنموا وتتوسع وتتعمق مع هذا التقدم مما زاد في سعة قواميسها اللغوية باضعاف كثيرة ناتجة عن الاسماء والمسميات والمصطلحات العلمية والثقافية المتنوعة التي ومازالت تتوالد .
***
ولكن هناك تسآئل يطرح نفسه وضروري هنا
وهو : حيث نعتقد ان ذي القرنين ورحلته هي كانت مسددة ومحاطة بالتوجيه الإلهي وكان له دور وحضور فعلي في نشر العدل ودفع الظلم وتثبيت الإيمان كما شاهدناه في رحلته الى مغرب الارض وما فعل مع القوم هناك ، فلماذا لم يذكر القرآن انه فعل شيء بخصوص هداية هذه الاقوام البدائية البسيطة الساذجة ? فهل مثلا هي وهذه الحال من المستوى العقلي غير مهيئة لتقبل الرسالة السماوية بالهداية ام أمر آخر !
السد : هو الحاجز بين شيئين ، والقصد المعلوم منه في الآية هو اشارة الى الجبل ، وحيث انهما سدّين ومن سياق تفاصيل الآيات فان الصورة التي يمكن تخيلها عن المكان هي ان هناك ممر او مضيق بين جبلين احدهما على يمينه والآخر على شماله ويظهر انهما ( الجبلين / السدين ) ممتدين الى مسافة طويلة مما يجعل الطريق الوحيدة للعبور على جهتيهما هو فقط من خلال هذا المضيق الطبيعي المفتوح بينهما . وربما يمتدا كلاهما او احدهما في طرفه البعيد ليتصل لعله بحاجز او مانع طبيعي اخر كالبحر . وهناك تفاصيل أخرى مهمة سأبينها لاحقا بخصصوص هذين السدين .
القول : هو كل لفظ يدلي به اللسان تاما كان أو ناقصا. فالتام هو المفيد ، أي الجملة و ما كان في معناها ، و الناقص هو عكس ذلك . ثم يتسع معنى القول ليشمل الآراء و الاعتقادات، فنقول هذا قول فلان أي رأيه و مذهبه .
الكلام : هو كل لفظ مستقل بنفسه مفيد لمعناه، و هو ما يسميه النحويون الجمل. و لهذا نقول عن القرآن كلام الله و ليس قول الله ، لأنه لا يكون إلا أصواتا تامة مفيدة ، و من القوة و الشدة بحيث لا يمكن تحريفه و لا يسوغ تبديل شئ من حروفه ، عكس القول الذي يمكن أن يكون أصواتا غير مفيدة أو آراء معتقدة .
ولقد اشرنا سابقا الى ان القوم يظهر منهم بساطتهم وسذاجتهم وبعدهم عن الحضارة بحيث انهم قد لا يملكون لغة تخاطب معتبرة بينهم الا لعله اليسير من المعاني والمسميات
وحيث انهم قالوا لذي القرنين ما اخبروا به فساد يأجوج ومأجوج وكون انهم بالاصل لا يفقهون قولا يتبين لنا انهم اوصلوا هذه الفكرة والحاجة باستعمال الفاضهم الخاصة الغير مفهومة مع الاستعانة بما يساعد على افهام المقصد واهم واقدم واسهل وسيلة هي لغة الجسم والحركات وبذلك يمكن لنا هنا حل هذه النكته الدقيقة من الآية .
والافساد ( في مُفْسِدُونَ ) هو عكس الاصلاح ، وهو ادخال الخلل والضرر في الشيء بحيث يغير او يعطل حاله او صلاحه او تمامه
والقصد من افساد يأجوج ومأجوج في الارض هو الاضرار والتخريب من حيث القتل والغزو والنهب والتخريب وغيرها من مصاديق الافساد .
ووصف هؤلاء القوم لحال يأجوج ومأجوج بانهم " مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ " فيه إشارة الى انهم يميزون الاصلاح عن الافساد ، وكونهم مسالمين صالحين وغير مفسدين ، مما يعني رغم بساطتهم وسذاجتهم العقلية الا انهم مازالوا على الفطرة الصحيحة وسلامة النية ، فتأمل .
ويظهر من الآية ان هؤلاء القوم يعلمون اسم يأجوج ومأجوج وهذا القدر الظاهر المتيقن ولكن يبقى السؤال هل هذا كان بلغتهم أم لا .
اذا كان بلغتهم او لنقل بقولهم اللفظي البسيط وما يعرّفونهما / يسمّونهما فهذا به يسقط جميع النظريات والاطروحات التفسيرية السابقة التي حاولت تفسير معنى كلمتي يأجوج ومأجوج ونسبتها الى لغات وحضارات سابقة ومحاولة اشتقاق معنى لغوي معين ! وأذا كانت هذه التسمية ( ياحوج وماجوج ) مما وصلهم من طريق آخر فهنا يمكن فتح باب الاحتمال الاخرى الممكنة .
ويظهر ان يأجوج ومأجوج قومين مختلفين ولكن مشتركون في الصفة ( الافساد ) ولا يظهر واضحا من النص هل كان عملهم وضررهم يجري بشكل عمل مشترك ام بشكل مستقل باتجاه الاضرار بهؤلاء القوم .
ولا يظهر واضحا هل ان يأجوج ومأجوج مختلفين ومتخالفين فيما بينهم ويفسدون على بعضهم البعض كما يفعلون بهؤلاء القوم خلف السد ام لا ، الا انه من المتيقن انهما يوجدان خلف السدين على الجهة المقابلة . ويكتفون بالاغارة على هؤلاء القوم ثم العودة الى محل تواجدهم واستقرارهم ،
ولا يظهر ايضا لماذا لا يغزون القوم ويأخذون ارضهم واموالهم ويستقرون عليها ولكن يمكن احتمال ان القوم قد هيّئوا انفسهم لصد هجماتهم والتحصن وربما الدفاع بشكل وطريقة ما تمنع بقاء استمرار وجودهم الا بقدر الخطفة كالغزو السريع ونهب ما يمكن اخذه من اموال وطعام تناسب ما يملك هؤلاء القوم المسالمين البسطاء البدائيين وربما قتل واضرار تصاحب هذه العملية .
ولم يشير عليهم ذي القرنين ان ينتقلوا بعيدا عن السدين الى مكان يمكن لهم الاستقرار والعيش بسلام ولعل السبب هو استقرارهم هناك وتوفر الضروف الطبيعية المناسبة لهم من مرعى وماء تناسب ضروف ومستوى حياتهم . فضلا عن احتمال عدم وجود مكان مثالي قريب يمكن الانتقال اليه ، والله اعلم
مكني هي نفسها مكنني وادغمت النونين بنون واحدة ، والقصد جعل لي ربي من السعة و القدرة خير من المال الذي تعدونني به ( وذلك قوله تعالى : إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) , اذن فلا حاجة لي بما تعرضوه عليّ من مال . والحال ان اصل حركت ذي القرنين باتجاه المغرب ومن ثم المشرق هو بتوجيه وتسديد إلهي غايته الاصلاح والمساعدة .
وقوله : فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا
فالاعانة بقوة هو طلب مساعدتهم بالجهد البشري والعمل معه ،
الرّدمْ : الرّدم في اللغة أشد واقوى مِنَ السّدِّ ، لأنَّ الردمَ ما جُعِلَ بعضُه على بعْضٍ .
ولقد طلب القوم منه ان يجعل بينهم وبين ياجوج وماجوج سدا ، فواعدهم بما هو اشد وامنع منه وهو الردم . ولا يظهر من ذلك هل هو لاجل غاية زيادة قوة ومتانة الحاجز ام لما هو متوفر من مواد لصنعه او كلاهما . ولكن بالعموم تمام العمل وبقائه لامد زمني طويل خاصة مع الخطر المترتب من فساد ياجوج وماجوج يستلزم من العاقل والحكيم كذي القرنين ان يصنع الافضل وهو الردم .
اقول : زُبَرَ الْحَدِيدِ هي قطع الحديد ، والارجح المراد منها احد اشكال وجود الحديد في الطبيعة كبعض الاحجار البركانية وغيرها
حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا : اي جعل هذه الحجارة الحديدية ( زبر الحديد ) بعضها فوق البعض لملئ الفراغ بين الصدفين ( السدين ) حتى وصل الى قمتي الجبلين المتقابلين .
ثم طلب منهم ( قَالَ انفُخُوا ) النفخ بالمنافخ لاشعال النار من الاسفل وتسخين الحديد حتى جعله ملتهبا كالنار ( حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا ) ، ثم افرغ عليه من الاعلى القِطْرُ وهو النّحَاس الذَّائِب . وبذلك يسد جميع الفرغات والثقوب ويجعله صامتا شديدا متماسكا
وهنا وهذه العملية في بناء الردم الارجح بنظري فأني اتصور حتى تتم كان عليهم كلّما وضعوا زبر الحديد بعضها على البعض واخذ الردم بالارتفاع يتطلب منهم جلب ثم رفع هذه القطع الحديدية مستعينين بقوتهم التي طلبها منهم ذي القرنين في بناء الردم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ،
وكذلك يحتاجون الى الصعود وتسلق جانبي الجبلين حتى يمكنهما الارتقاء ووضع المزيد من زبر الحديد الى ان يصلوا الى القمة حيث يتساوى الصدفين .
وهنا وهذه الحال يعني ان جانبي الجلين او احدهما من جهتهم ممكنة الصعود والتسلق اي بدرجة وزاوية مائلة تمكنهم من الصعود او التسلق لاتمام العمل ، وإلا خلافه لعله يصعب جدا او يستحيل انجاز مثل هذا الردم في ذلك الزمان وحدود امكانيات اهله ، فاحفظ هذا الاستنتاج لاننا سنحتاجه في الآية اللاحقة .
بعد ان اكمل لهم ذي القرنين بناء الردم الذي اعانوه في انجازه بين القرآن تمام غايته ونجاح وسيلته وفشلهم في العبور الى الجهة الاخر ، وبين القرآن ان ياجوج وماجوج حتى يمكنهم الوصول الى خارج الجهة الاخرى من الردم كانوا يحتاجون احدى الطريقين :
1- إما الصعود الى اعلى الردم ومن ثم النزول الى الجهة الاخرى وهو الاسهل وهذا قوله تعالى ( فما اسطاعوا ان يظهروه ) .
2- او ان ينقبوا جدار السد للخروج الى الجهة الاخرى وهذا الاصعب وهو قوله تعالى ( وما استطاعوا له نقبا ) .
ولم يذكر احتمال اخر مفترض وهو حفرهم / نقبهم تحت السد ( حفر نفق ) وليس في نفس جدار السد ! وهذا لعله استبعد وهو اصعب بكثير بالقياس للطريقتين الاخريتين كما يظهر من محاولات ياجوج وماجوج التي سجلها القرآن ذلك الوقت . وايضا الاية تكشف ونعاضد حقيقة ان الصدفين على سطح الارض وهما كجبلين عظيمين ولهما جذر اعمق في الارض كما اثبت العلم حديثا في دراسة الجبال ، فلا يمكن لياجوج وماجوج التفكير بمحاولة الحفر تحت السد بين الجبلين لان الارض ستكون صخرية صلبة جدا ،
وكلمتي اسطاعوا واستطاعوا بمعنى واحد
وذكر بعض المفسرين أن الفائدة من هذا التغاير هي فائدة لفظية ، وأن هذا هو مقتضى الفصاحة ، حتى لا تكرر الكلمة بلفظها فإن ذلك معيب عند الفصحاء .
وهذا ظاهر في قصة ذي القرنين ، لأن التكرار واقع في الآية نفسها .
وذهب آخرون إلى أن الفائدة من هذا : فائدة معنوية ، وهي أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، فزيادة حرف (التاء) في إحدى الكلمتين تدل على أن الاستطاعة فيها أشد من الكلمة التي حذفت منها التاء ، فعند المقابلة بين أمرين ، يقال في الأشد منهما : (استطاع) بالتاء ، ويقال في الأخف : (اسطاع) بحذف التاء .
ويظهر لي انه لا بد وان تكون جهتي الجبلين مختلفتين بالشكل حتى يتسنى فهم الآية بخصوص محاولة ياجوج وماجوج وعدم تمكنهما من نقب الردم او الظهور عليه
لانه كما استنتجنا في الاية السابقة لما وضعنا التصور في كيفية بناء الردم وتطلبهم الصعود على الجبل لاتمام العمل من وضع زبر الحديد فوق بعضها البعض ومن ثم صب القِطْر عليها وبينا انه لا بد وان يكون شكل الجبل بزاوية مائلة وشكل منحدر يمكن ارتقائه . فهنا وهذه الحال لماذا لم يتمكن يأجوج ومأجوج الصعود على الجبل كما فعل القوم من الجهة الاخرى !
اذن هنا لا بد وان تكون جهة الجبلين / السدين من ناحيتهما ممتنعة الارتقاء اي ان زاوية انحدار الجبل حادة من جهة قوم يأجوج ومأجوج وكانه جدار عالِ عظيم ، فتأمل ،
والله اعلم
الباحث الطائي
التعديل الأخير تم بواسطة الباحث الطائي ; 04-03-2023 الساعة 01:30 PM.
نأتي الى نهاية هذه الملحمة القرآنية المهمة والفريدة والصعبة ، والتي حار العلماء والمفسرون فيها وخاصة هاتين الآيتين الأخيرتين
سوف نضع اطروحتنا بالاعتماد على نفس معلومات القرآن وبعض الآثار الروائية
( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ) : القائل كما هو ظاهر ذي القرنين ، واسم الاشارة ( هذا ) يشير الى السد/ الردم الذي صنعه ، ووصفه بانه رحمة من الله هو على الاظهر علم بعاقبة الامور اطلع عليه وبينها القرآن في الاية التي تليها وما سيفعله يأجوج ومأجوج في آخر الزمان بعد ان يدك السد وينهار الحاجز ويموج بعضهم في بعض .
( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) : رهن بقاء الردم بيوم الوعد الإلهي ، وكل وعد إلهي آت لا محالة ، وكل لفظ قرآني لوعد إلهي غير مخصص ومحدد بحدث معلوم فهو متعلق بالوعد الاكبر وهو يوم القيامة .
وعليه سيكون : فإذا جاء ( اقترب ) يوم الوعد الإلهي الحق وهو يوم القيامة آن أوان موعد اندكاك السد . وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ~ اي متحقق لا بد منه لان الله لا يخلف الميعاد .
وهنا وهذه المرحلة من هذه الملحمة القرآنية نستعين بآيات اخرى من القرآن تخص ياجوج وماجوج في هذه المرحلة كما في سورة الانبياء : وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
هنا اطروحتنا تقوم على هذا التصور : وهو ان قوم يأجوج ومأجوج في زمن ذي القرنين وبعد بناء السد انتهى امر ضررهم وخطرهم ولم يستطيعوا ان ينقبوا الردم ولا ان يظهروه ، وبقوا خلف الردم ما شاء الله الى ان انقرضوا وماتوا او اي تصور مقارب ولكن ليس كما يتصور البعض من وجودهم وانحباسهم خلف الردم الى يوم الوعد !
ولم يبقى لهم ذكر او وجود ولكن لهم كرة اخرى ورجعة الى الدنيا قبيل يوم القيامة ، سوف يحييهم الله وسوف يندك الردم
والرجعة عموما بحسب هذا التصور هي ستكون رجعتين
الاولى : الرجعة المتواترة عندنا والتي تحصل تدريجيا وبحدود مخصوصة مع موعد ظهور الامام الحجة ع ثم تتأكد وتتسع الى ما بعد رحيل الامام الحجة ع عن هذه الدنيا واول الراجعين هو الامام الحسين ع .
الثانية : هي الرجعة التي تكون بعد تحقق غاية دولة العدل الإلهي وغاية خلق البشرية ورحيل اخر حجج الله على الارض وكل مؤمن معه مع بقاء الاشرار من الخلق بعد ان ارجعهم الله - لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق عند الله / الحديث النبوي .
فإذا ذهب الله بالصالحين وارجع الكافرين ، دك سد يأجوج ومأجوج وارجعهم ايضا الى الدنيا مع رجعة الكافرين والاشرار ،
وعندها : وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ - اي ياجوج وماجوج مع الاشرار من خلق الله في الامم السابقة وهذا مقدمة وعلامة على اقتراب الوعد وقيام القيامة وبدأ الكون والارض تهتز مقدمتا لامر عظيم ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .)
وهنا تشخص الابصار وتتكشف الحقائق بعد الغفلة وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَظ°ذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
ولا يترك القرآن فاصلة زمنية طويلة بعدها ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) انتقل الحديث من موج بعضهم ببعض الى نفخة الجمع التي تاتي بعد نفخة الاحياء وكانها تقول كما قال الامام الحسين ع في كربلاء ( وكأن الدنيا لم تكن ، وكأن الاخرة لم تزل ) هذه وكانها تختصر قصة البشرية من الألف الى الياء ، والله اعلم
الباحث الطائي
التعديل الأخير تم بواسطة الباحث الطائي ; 11-03-2023 الساعة 04:37 PM.