كما الشجرة ان سقاها ورعاها صاحبها نمت وأثمرت، وان تركها ذبلت ويبست؛ كذلك الإيمان إذا حافظ الإنسان على عوامله تعمق وتجذر، ونمى وأثمر، وإلا خبا ضوؤه وصار إلى النقصان. وذكر الله ورسالته هما وسيلة نمو الإيمان في النفس إذا تساقطت عنها الحجب وخشعت. أما إذا قست وتكلست لا تنتفع بالذكر، كما لا تنتفع الشجرة اليابسة بالماء الفرات. ولذلك يحذر الله المؤمنين من قسوة القلب، ويعاتبهم على عدم خشوعهم لذكره وللحق، فيقول: "ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق".
قال إبن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين هذه الآية إلا أربع سنين، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضا. وقيل: عن ابن عباس ان الله إستبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن بهذه الآية. وقيل: عن محمد بن سعد: كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا وأصابوا الريف والنعمة فتغيروا عما كانوا عليه، فقست قلوبهم. والواجب ان يزدادوا بالإيمان واليقين والإخلاص في طول صحبة الكتاب.
ومع إختلاف هذه الأقوال، إلا أنها تلتقي في نقطة واحدة، هي ان الآية جاءت تعالج تحولا سلبيا في حياة الأمة.
وهذا يظهر عناية الله تعالى من خلال وصيه ببناء المجتمع المؤمن وتوجيه حركته نحو الحق والأهداف السامية. ولكن الله لا يبدأ العلاج من الظواهر، انما يوجه الرسول والمؤمنين أنفسهم إلى جذور المشكلة، الا وهي القلوب التي تغير موقفها من ذكر الله ومن تطبيق الرسالة. لقد كانوا في البدء امة مؤمنة حقا ببركة ذكر الله، وكانوا ملتزمين غاية الإلتزام بالحق، ويتسابقون إلى تطبيق الرسالة، ويسلمون لما فيها تسليما. أما الآن فقد بدأ الخشوع ينحسر عن قلوبهم، كما صاروا يتباطؤون في تطبيق رسالة ربهم، ويتملصون عن دعوة قيادتهم إلى الإيمان والإنفاق..
وهذا لا ريب ان لم يبادروا إلى علاجه، سوف يخرجهم من دائرة المؤمنين. أوليس الله جل وعلا يقول: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون* الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون* أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم".
فلماذا إذا لا توجل قلوبهم، ولا يزدادون إيمانا، ولا ينفقون؟
الإشكال ليس في قلة ذكر الله ولا في قلة الآيات ولا في عدم وجود واعظ. فهذا الرسول يناديهم: "آمنوا بالله ورسوله وانفقوا" ويدعوهم للإيمان، والآيات بينة مستفيضة متواصلة، ينزلها الله على عباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ولكن الإشكال في القلوب المريضة والقاسية.
ولنا أن نعرف كم ينبغي ان يكون القلب مريضا وقاسيا، حتى لا يتأثر بالقرآن، إذا تدبرنا في قوله تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون"، فلم لا يحرض القرآن المؤمن على الخشوع؟ والخشوع هو الذي يجعل الإنسان مستعدا للتسليم إلى الحق نفسيا، وتطبيقه عمليا في الواقع؟
وتأكيد القرآن على ان ما نزل حق يهدينا إلى ان قسوة القلب تورط الإنسان في الباطل. وهناك علاقة متينة بين ذكر الله وبين رسالته النازلة من عنده، لأن الله تعالى يتجلى في كتابه.
وفي الشطر الثاني من الآية "ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم.." يلفت القرآن الإنتباه إلى تجربة أهل الكتاب، لنتعظ بتجارب الأمم الأخرى.. انهم كما الأمة الإسلامية أوتوا كتابا من عند الله أنقذهم من الطغاة كفرعون، وأخرجهم من الظلمات إلى نور الإيمان والعلم؛ ولكنهم ابتلوا بقسوة القلب، فماذا كانت عاقبتهم؟!
قال الله تعالى: "ولا يكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل" وكان ينبغي ان يطبقوا ما فيه حتى يصلوا إلى أهدافهم وسعادتهم، ولكنهم كانوا لا يريدون تحمل المسؤولية، فراحوا يلتفون على آياته ويتخلفون عن تطبيقها، لأنهم يريدون إيمانا بلا تكلفة وتضحية، كما يريدون مجدا بلا مشقة وسعي؛ فعلموه أماني، كما قال الله تعالى: "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وان هم الا يظنون". وبدل ان تكون الرسالة قائدهم وإمامهم يكيفون أنفسهم وفقها، أصبحوا يفرضون شهواتهم عليها، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وربما عادت بينهم كتاباً مألوفاً وجزءاً من التراث، فوقفوا عند حروفه وكلماته دون العمل به.
ولأنهم فعلوا ذلك ما عاد الكتاب ينفعهم، فتبدل إيمانهم به إلى الشك فيه، وارتابوا في بشائره ووعوده، والحق الذي اشتمل عليه. وحيث تعاقبت الأجيال الواحد تلو الآخر وهم ينتظرون شيئا من ذلك يتحقق دون جدوى، لأنهم اتخذوه أماني ولم يسعوا إلى تطبيقه، انتهت في نفوسهم جذوة الإيمان، بالذات وان كل جيل يأتي يورث سلبياته الذي بعده.
"فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون" لقد ابتعدوا عن الدين، كل جيل بمسافة بعده عن جيل الرواد الأوائل، الذين آمنوا بالكتاب حق الإيمان، وطبقوا ما فيه كما أراد الله؛ ولأنهم نبذوا الكتاب الذي به حياة القلوب، ذهب خشوعهم، وقد جاء في الأثر عن الإمام الصادق (عليه السلام)، انه قال: (لم يزل بنو اسماعيل ولاة البيت، ويقيمون للناس حجتهم وأمر دينهم، يتوارثونه كابر عن كابر، حتى كان زمن عدنان ابن أدد "فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم" وفسدوا، وأحدثوا في دينهم، وأخرج بعضهم بضعا. (تفسير نور الثقلين/ ج5/ ص 242).
واذا صحت الروايات والتفاسير التي تقول بأن الأمد طال على المؤمنين من أهل الكتاب في انتظار الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي ينصرهم على أعداء الله، ويخلصهم من الضلال والعذاب؛ فإننا نهتدي إلى أحد أسباب قسوة القلب بعد طول الأمد، هو اليأس من روح الله، والشك في وعد الله الذي لا يخلف.