الفتوى: هي بيان الحكم الشرعي في قضية يسأل عنها الفقيه. والمفتي هو الفقيه المتصدي لأسئلة المستفتين، الذي ينبغي أن يكون مستوفياً للشروط الواجبة في المفتي. على ما ذكرها العلماء.
قال ابن القيم: "ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يُبَلَّغُ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ والفُتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حَسَن الطريقة مرْضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات، فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه. كيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾(النساء/127)، وكفى بما تولاه الله بنفسه شرفاً وجلالة، إذ يقول: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ﴾(النساء/176). وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله".
ولا بد للفتوى من مستند شرعي من كتاب أو سنة، ولا بد لها من مراعاة مقاصد الشريعة السامية التي جاءت لتحقيقها، فلا تفصل المسألة عن ظروفها وحيثياتها ولا يغفل عن آثارها وما ستتركه من نتائج، ولا بد للمفتي أن يكون كَّيساً فطناً مدركاً لحال طالب الفتوى ولظروفه، مستشرفاً لهدفه لاسيما عندما تكون الفتوى في شأن عام أو أمر يمس شرائح واسعة من المجتمع الإسلامي.
فقد ورد أن ابن عباس جاءه رجل يستفتيه، يقول: هل للقاتل من توبة؟ (وكان رضي الله عنه يرى أن للقاتل توبة) فاعمل بن عباس نظره في الرجل صعوداً وهبوطاً ثم قال للسائل: ليس للقاتل توبة. فعجب أصحابه من جوابه، وسألوه بعد مغادرة الرجل عن سر تغيير فتواه فقال: نظرت في وجه الرجل فوجدته مغضَباً، وغلب على ظني أنه يريد أن يقتل أحداً، فقلت له ما قلت حتى لا يقتل. وفي هذه الفتوى نرى كيف أن ابن عباس نظر في مقصد الشارع الحكيم فأفتى بما يحقق هذا المقصد.
لم يكن الإفتاء منصباً سياسياً ولا دينياً لا على زمن النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) ولا على زمن الخلفاء الراشدين من بعد. بل مسؤولية صاحب العلم والمعرفة كائناً من كان، ولقد كان أصحاب النبي (صلي الله عليه وسلم) يسألون عن الأحكام في المسائل فكان كل واحد منهم يقف عند ما علم ولا يتجاوزه، حتى الخلفاء عندما تعرض لهم أو عليهم مسائل ولم يكن لهم علم بها كانوا يسألون الناس ممن عاشوا أو صحبوا رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، هل يعلمون شيئاً عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) في المسألة؟ هل قال فيها، أو فيما يشبهها شيئاً أو قضى بشيء أو عمل شيئاً، فإن وجدوا شيئاً عملوا بمقتضاه وإن لم يجدوا رجعوا إلى اجتهادهم واعملوا عقولهم وأفهامهم. ثم استمر الإفتاء رسالة ووظيفة العلماء والفقهاء إذا عرض للناس شيء لا يدرون ما حكمه استفتوا أهل العلم، فكانوا يفتونهم فيه أو كانوا يحيلونهم إلى من هو اعلم منهم بالأمر.
وقد عرف ذلك بين الصحابة فكان منهم من برع في القضاء، كعلي بن أبي طالب (رض) ومنهم من برع في الفرائض كزيد، ومنه من برع في التفسير كعبد الله بن عباس (رضي عنهم أجمعين). وقال مسروق: لقد رأيت مشيخة أصحاب رسول الله (ص) يسألون عائشة عن الفرائض(1).
وبعد مرور عهد الصحابة والتابعين، صار الناس يحتاطون في أمر الفتوى فلم يعد لكل عالم أن ينبري لها، ووضع أهل العلم شروطاً للمفتي لا تتوفر لكثير ممن يوصفون بالعلم.
قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف، قال فربما قال بن سيرين فلست بواحد من هذين ولا أحب أن أكون الثالث. قلت (أي المؤلف) مراده عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة،أما بتخصيص أو تقيد أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم،و في لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه(2).
ثم وفي فترات متأخرة شرطوا للمفتي ذات الشروط المطلوبة في الفقيه المجتهد واعتبروا أن ناقل الفتوى ليس بمفتٍ، وينقل أبن القيم عن أصحاب أحمد أنه لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، وجوزوا للمقلد أن يفتي لنفسه فقط دون غيره، وأباحوا ذلك استثناءاً عند الحاجة وعند عدم وجود العالم المجتهد.
وروى الخطيب عن الإمام الشافعي في كتاب الفقيه والمتفقه: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجل عارف بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيِّه ومدنيّه، وما أُريد به، ويكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله (صلي الله عليه وسلم)، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً باللغة والشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي.
الإفتاء اليوم منصب ديني ـ سياسي، يُعيَّنُ المفتي فيه بقرار صادر عن السلطة السياسية، وتكون مهامه رئاسة الهيئة الدينية في الدولة والتصدر في المناسبات الدينية والسياسية والإشراف على الأوقاف وإصدار الفتاوى أو اللجان التي تصدر الفتوى. وغالباً ما يكون المفتي واقعاً تحت تأثير السلطة السياسية في الدولة، إذا يعتبر ركناً من أركانها، إلا من رحم ربي. لذلك تأتي الفتاوى الصادرة عنه مراعية لأوضاعها ومنسجمة مع توجهاتها، وبالتأكيد يقبض لقاء هذا المنصب راتباً مناسباً، وليس بالضرورة أن يكون المعيّن في منصب المفتي أهلاً لهذا المنصب ولا أكثر أقرانه استحقاقاً له، بل ربما كان أطوعهم للسلطة. ومع وجود المفتي الرسمي في معظم البلدان إلا أن ذلك لا يمنع من وجود علماء يتصدون للإفتاء أي لإعطاء الفتاوى، ربما كان بعضهم مستوفياً للشروط المذكورة آنفاً، أو كان لا يتمتع حتى بأدنى الشروط المطلوبة حيث نجد أن الجماعات السياسية أو الجماعات الدينية، من صوفية وسلفية وأحياناً تقليدية تجعل من بعض مشايخها مرجعاً لأتباعها في الإفتاء.
وبسبب انتشار الجهل بالدين وأحكامه تجد من لا يملك من الأهلية العلمية أو الدينية من يقيم من نفسه مفتياً يرد على الاستفتاءات دون خوف أو وجل، غير عابئ بكل الأحاديث النبوية التي تحذر من ليس لديهم أهلية من الاجتراء على الفتوى. مثل حديث المصطفى (ص): "اجرؤكم على الفتوى اجرؤكم على النار". ومثل قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء/36).
من المعلوم أن للفتوى أصول لا بد منها، ومن هذه الأصول أن يكون السؤال واضحاً ومحدداً ودقيقاً، وحتى نتثبت من ذلك لا بد أن يكون السؤال مكتوباً بلغة واضحة صحيحة حتى يعرف المفتي عن أي أمر يجيب، لأن الجواب يختلف بجزئية صغيرة ترد في السؤال أو تسقط منه. وليس للمفتي أن يعطي جوابه إلا بعد دراسة المسألة وإمعان النظر بها وعليه يستقصي المعلومات المتعلقة والمعطيات وأن لا يغفل عن أي أمر يمكن أن يكون له علاقة بتحديد الجواب لا سلباً ولا إيجاباً. وعليه بعد ذلك أن ينظر فيما يمكن أن تتركه الفتوى من أثر فلا تخالف مقاصد الشريعة.
واضرب على ذلك مثلاً الفتوى التي صدرت عن لجنة البحوث العلمية في الأزهر والتي جاء فيها أنه يحق للسلطات المصرية أن تقيم الجدار الفولاذي بين غزة والأراضي المصرية، بحجة أن السلطة المصرية تقيم هذا الجدار على أرضها، ويحق للمالك أن يتصرف بأرضه كما يشاء. إن هذه الفتوى عالجت أمراً على مستوى الأمة كما لو أنها مسألة شخصية صغيرة، نعم من المعروف أن لكل إنسان أن يتصرف بملكه كما يشاء، ولكن هل هذا الكلام على إطلاقه؟!.. إنه ليس على إطلاقه أبداً، فقد يكون لشخص الحق بتصرف معين ولكن التعسف في استعمال الحق ممنوع، أي إذا كان استعمال هذا الحق يؤذي الآخرين ولا يحقق منفعة للمستعمل فعندئذ ترد القيود المانعة من إلحاق الأذى بالآخرين.
كما ورد في السيرة أن رجلاً كانت له أرض فيها شجر نخيل وإن إحدى شجرات النخيل كان جذرها في أرضه وكان جذعها وثمرها فوق أرض جاره، فاشتكى الجار أذية صاحب النخلة ودخوله إلى أرض جاره الذي عرض على صاحب الشجرة إما أن يبيعها له أو يُضَمِّنَها أو أن يقطعها، فعرض رسول الله (صلي الله عليه وسلم) الأمر على صاحب الشجرة الذي رفض كل العروض وأصر على الاستمرار في سلوكه المؤذي لجاره، فلما فرغ رسول الله (صلي الله عليه وسلم) من أمره ووجد تعنتاً وتعسفاً في استعمال حقه، أمر المتضرر من الشجرة بأن يقطعها من فوق أرضه.
لقد ضربت فتوى لجنة البحوث العلمية في الأزهر بكل المصالح والحقوق وبالواقع عرض الحائط وسوغت للسلطة المصرية فعلها، وهو الفعل الذي يؤدي إلى تضييق الحصار على بلد مسلم لصالح عدو كافر، بما يعين العدو على إخضاع المسلمين وإذلالهم، بل وإلى قتلهم وتجويعهم وجعلهم عرضة للآلام والأمراض. ولو لم يكن من آثار لهذه الفتوى إلا ما ذكرنا من الضرر على أهل غزة لكان كافياً لبطلانها وعدم جوازها. وهذه الفتوى هي أحد نماذج الفتاوى التي يصدرها المفتون لخدمة السلطة السياسية التي يعملون في خدمتها.
إن ما نشهده اليوم من تواطؤ المفتين وعلماء السلطان مع أولياء نعمتهم يجعلنا نشك بكل هذا التاريخ من الفتاوى التي هدرت دماءً وضيعت حقوقاً، فكم من عالم أو مفكر قتل بحجة الكفر أو الزندقة أو الردة، أو محاربة الله ورسوله، أو بحجة الفساد في الأرض أو الخيانة أو ما إلى ذلك من تهم لا ندري اليوم مدى صحتها وصحة الوقائع التي استندت إليها، فربما استندت إلى فرية أو دسيسة أو مؤامرة، فكان الحاكم أو السلطان يستنجد بعالمه ويطلب منه الفتوى بهدر دم أو سلب حق أو غير ذلك.
إن ما نشهده اليوم من زيف وتزلف وخضوع لرغبات الحكام من قبل بعض العلماء أو أدعياء العلم من أصحاب المناصب الدينية الرسمية أو الطامحين إلى مثل هذه المناصب يجعلنا بحق نشك بكل تلك الدعاوى، ولربما وجب علينا إعادة البحث في كل تلك الوقائع فهناك العديد من الأتقياء والعلماء رتب أمر موتهم والتشهير بهم لأنهم اختلفوا مع السلطان فلم يخضعوا له ولم يسايروه أو يسكتوا عن ظلمه. وهناك العديد من الأسماء مثل سعيد بن جبير، والجعد بن درهم وغيرهم كثير رُموا بالكفر والزندقة ومعصية ولي الأمر وقطعت رقابهم لذلك. كما أن هناك العديد من أصحاب السلطة تواطؤ مع أصحاب بعض الفرق الدينية التي انتشرت كثيراً ووقع الاختلاف فيما بينها، فكانت الفرقة ترمي الخصم من أصحاب الرأي الآخر بالتهمة التي تؤدي إلى حبسه أو قتله بتواطؤ من الحاكم، وفي التاريخ أمثلة على ذلك من كبار الفقهاء، فقد سجن أبو حنيفة ومالك وامتحن أحمد ابن حنبل في مسألة خلق القرآن، فسجن وعذب ليتراجع عن رأيه.
واليوم نرى كثيراً من العلماء يتواطئون مع السلطان فيما يريد فيبررون أعماله ويمجدون أفعاله ويثنون على تقواه وهو أبعد ما يكون عن التقوى والدين, وحتى عن الإنصاف الذي ينبغي أن يكون صفة لكل حاكم وكم من حاكم قتل وسحل وظلم ووجد من يلقبه بأمير المؤمنين أو بالرئيس المؤمن.
اختلف الناس إلى فرق وأحزاب وجماعات وطوائف، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾(الأنعام/159) وقال أيضاً: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾(الروم/31- 32).
ففي الآية الأولى يشير ربنا عز وجل إلى أن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً بعيدون كل البعد عن النبي (صلي الله عليه وسلم) فلا هو منهم ولا هم منه. ثم يضرب لنا مثلاً على ذلك مشبهاً الذين يفرقون دينهم بالمشركين، المتعصبين لجماعاتهم الفرحين بما لديهم، والفرح هنا هو التعصب للرأي والاكتفاء به، فالتعصب آفة الدين بل آفة الفكر الإنساني عموماً، يقول ابن القيم في أعلام الموقعين عن رب العالمين: "ثم خلف من بعدهم خلف فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون وتقطعوا أمرهم بينهم زبُراً، وكل إلى ربهم راجعون، جعلوا التعصب للمذهب ديانتهم التي بها يدينون، ورؤوس أموالهم التي بها يتاجرون، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد(3)، كما جاء في القرآن الكريم:﴿قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾ (الزخرف/22).
والفريقان بمعزل عما ينبغي إتباعه من الصواب، ولسان الحق يتلو عليهم: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾(النساء/123). قال الشافعي (رحمه الله): "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله (صلي الله عليه وسلم) لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس". وأضاف: قال أبو عمر وغيره من العلماء: "أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله... وقد جرى إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى من زمرة العلماء..."!.
إن المتعصب ليس من العلماء لأنه مُعرض عن الحق، فهو مع جماعته أو فرقته دون تمحيص ولا تمييز لا يرى الرأي إلا رأيهم، وهذا ليس حال العالم الذي ينبغي أن يظل دائماً طالباً للعلم باحثاً عنه عند الآخرين، مسلماً بأن الذي يراه حقاً قابلٌ لأن يكون غير ذلك فالمرجع في الأمر إلى الكتاب والسنة وما تفرع عنهما من مصادر. لذلك لا ينبغي أن تؤخذ الفتوى من متعصب مهما بلغت مكانته وبراعته لأن الهوى هو الذي يتحكم في آرائه.
لقد حذّر رب العزة المؤمنين من الفتنة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(الأنفال/25- 26). وأخبر المؤمنين أن الذين لم يؤمنوا برسالة محمد (ص) هدفهم إيقاع الفتنة بين المؤمنين فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (التوبة/47- 48- 49 ).
جاء في لسان العرب لابن منظور: معنى جماع الفتنة: الابتلاء، والفتنة: الاختبار والمحنة والكفر. وقال: "الفتنة اختلاف الناس بالآراء، والفتنة: الضلال والإثم، والفتنة: ما يقع من الاستقرار إلى الاضطراب ومن الأمن إلى الخوف ومن الحب إلى الكراهية. والسعي بالفتنة بين الناس من أبغض الأمور إلى الله تعالى وإلى رسوله وإلى المؤمنين، وقد عبر الرسول (صلي الله عليه وسلم) عن كراهيته للفتنة وهي الاختلاف بين الناس وتقاتلهم وتناحرهم بقوله: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها". ومعنى حديث النبي (صلي الله عليه وسلم) إن إمكانية الاختلاف بين الناس موجودة، وإن وصولهم إلى حالة التقاتل قد تقف عند حد كلمة يتلفظ بها إنسان فيوغر الصدر ويوقظ الأحقاد ويحفز النفوس على الثأر والانتقام، وإذا كانت الفتنة في الأمور العادية محرمة وبغيضة إلى نفوس الناس وعقولهم، فكيف بالفتنة التي يمتطى إليها الدين، ويتخذ من الشرعية مستنداً لها بتحريف الأقوال وتزييف الحقائق وحرف معنى الآيات والأحاديث من أجل أغراض دنيوية أو أهداف سياسية أو غايات طائفية أو مذهبية، لا شك أن هذه هي أعظم إثماً وأشد بغضاً، وهي بكل تأكيد أعظم أذيةً وضرراً على الدين وأهله.
نعم هناك اليوم فتاوى لا قيمة لها، ولا أثر لها، إلاّ إحداث الشقاق والنزاع بين المسلمين وزيادة الضغائن والبغضاء والكراهية، ودق الأسافين في العلاقات بين أبناء الدين الواحد والأمة الواحدة حتى تصبح الأمة أحزاباً وشيعاً وفرقاً وطوائف متناحرة فيما بينها، تصرف بأسها عن عدوها لتجعله بين أبنائها، فيسهل على عدوها النيل منها والفتك بأبنائها ووضع اليد على أمرها فلا تعود تملك منه شيئاً، فبدل أن يكون أمرهم شورى بينهم يصير أمرهم في يد أعدائهم يقررون لهم ما يجدون فيه ضعفهم وخذلانهم وضياع قوتهم والعياذ بالله عز وجل.
إن من أشد ما ابتُليَتْ به هذه الأمة ما يسمى بالمنهج التكفيري، هذا المنهج الذي وضع نصب عينيه تنقية الأمة كما يزعم أتباعه مما التصق بها وهو ليس منها وفق مزاعم وافتراءات وسوء فهم وغير ذلك مما يثير الإشكالات سواءٌ على مستوى العقيدة والإيمان أو على مستوى المنهج والسلوك، أو على مستوى المصالح والسياسات. يضع التكفيريون شروطاً وضوابط للإيمان ومن لا تنطبق عليه هذه الشروط والضوابط فهو خارج عن الملة بزعمهم.
وإذا كانت سيرة النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) هي السعي لتكثير سواد المسلمين، وعدم محاسبة الناس على سرائرهم، وعدم آخذهم إلا بما ظهر منهم، ولو كان النبي يعلم منهم خلافه بوحي أو إلهام أو غير ذلك، فقد عرّفَ جبريل عليه السلام مرسلاً من ربه عز وجل، عرف النبي بأسماء المنافقين في المدينة، وجعل النبي (صلي الله عليه وسلم) ذلك السر عند أحد الصحابة وهو حذيفة بن اليمان الذي أوصاه النبي بعدم فضح هؤلاء إلا لضرورة خاصة حددها عليه الصلاة والسلام، ووضع قاعدة للتعامل مع المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر مفادها الحديث الشريف: "بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر".
ولم يرضَ عليه الصلاة والسلام أن ينتقم من بعض من خالفوه وآذوه منهم أُبَيّ بن سلول، الذي تقدم ابنه المؤمن الصادق عبد الله يقول يا رسول الله دعني أضرب عنقه فرفض النبي ذلك قائلاً: "لا يقال أن محمداً يُقَتِّلُ أصحابه".
إن شروط الكفر واضحة في كتاب الله وفي سنة النبي الأكرم (صلي الله عليه وسلم) وهي إنكار الخالق عز وجل وإنكار رسالة محمد (صلي الله عليه وسلم) وتكذيب آية أو أكثر من كتاب الله وإنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة. وشروط الإيمان أيضاً معروفة وقد حددها حديث جبريل عليه السلام الذي حدد فيه أركان الإيمان وأركان الإسلام وبيّن أنّ من أركان الإيمان أنْ تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من عند الله، وبيّن أن أركان الإسلام هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً. إن إضافة أي شرط أو قيد على ما ذكره رسول الله هي أمر مرفوض، وليس ذلك لأحد من الناس.
ونحن اليوم نسمع عن فتاوى يُقْدم أصحابها على تكفير علماء من كبار العلماء في الأمة في مختلف مذاهبها لرأي رأوه أو لحكم حكموا به أو لاجتهاد اجتهدوا فيه، ربما كان خاطئاً أو مصيباً، وترى البعض يقدم على تكفير آخرين لأنه يختلف معهم في وجهة نظر أو في قضية من فروع هذا الدين، أو في قضية سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك. وأخطر ما في منهج التكفير قيام البعض بتكفير طائفة من المسلمين يُعدُّ أتباعها بمئات الملايين، بناءً على مسائل خلافية، تقبل الاختلاف أصلاً لأنها ليست من أصول الدين، بل هي من المسائل الخاضعة لتغيير الزمان أو المكان أو استناداً إلى روايات صحت عند البعض ولم تصح عند البعض الآخر، أو بناءً على اعتقادات تتعلق بالمذهب ولا تتعلق بالدين، أو بناءً على افتراءات تاريخية غير ثابتة، أو في الاختلاف بالنظر إلى أحداث تاريخية تتعلق بالحكم أو الإمارة أو غير ذلك من الأمور المتروكة للناس ترى فيه رأيها تحت قاعدة الشورى "وأمرهم شورى بينهم".
إن هذا المنهج التكفيري مناقض للرسالة التي جاء بها النبي(صلي الله عليه وسلم) ولسيرة هذا النبي، وقد رأينا من ينحدر بالفتوى في هذا المجال إلى مستوى متدنٍ جداً وغير مقبول أبداً كالفتاوى التي ابتلى بها الفلسطينيون بعد نشوب الصراع بين حركة فتح والسلطة الفلسطينية من جهة وحركة حماس من الجهة الأخرى، تلك الفتاوى التي راح مطلقوها يكفّرون بعضهم بعضاً ويبيحون دماء بعضهم البعض إذكاءً لنار الفتنة والاقتتال بين الأهل والإخوة وهم جميعاً تحت مقصلة العدو الصهيوني التي لا تميز بين فلسطيني وآخر، بل تسعى لقطع رقاب الجميع.
وكذلك منها تلك الفتاوى التي حكمت بكفر الشيعة أو السنة في العراق وأفغانستان وباكستان حيث أدت هذه الفتاوى ـ الفتنة ـ إلى أن يعمد أطراف الصراع بتفجير أنفسهم في المساجد والحسينيات بل وفي الأسواق والمدن والقرى لقتل أكبر عدد من الناس لا لجريمة ارتكبوها وإنما لتطهير الأرض منهم كما يزعم التكفيريون.
لقد حصدت هذه الفتاوى مئات الآلاف من أرواح المسلمين كباراً وصغاراً رجالاً ونساءً وأطفالاً، وكل هذه الدماء هي في أعناق مطلقي هذه الفتاوى الذين أعمى قلوبهم الحقد وامتلأت صدورهم بالضغينة فاتبعوا أهواءهم وضلوا عن سبيل الله.
إن المنهج التكفيري هو منهج التنفير من الدين،وبدل أن يسعى هؤلاء التكفيريون لهداية الناس إلى ما يعتقدونه حقاً فإنهم يسعون إلى قتلهم، وكأن هدف المؤمن هو قتل الكفار وليس هدايتهم وإرشادهم ودعوتهم ليؤمنوا بربهم، فكيف بالمسلمين المصلين؟!.
إن واجب كل مسلم هو مناهضة هذا المنهج لأنه لن يؤدي إلى خير بل هو حتماً سيؤدي إلى مزيد من التقاتل وهدر الأرواح وهتك الأعراض وزيادة حالات البؤس والشقاء. إن رب العزة تبارك وتعالى لم يعطِ النبي (صلي الله عليه وسلم) وهو أعدل الخلق حق محاكمة الناس على عقائدهم ولا على سرائرهم، بل أُمر بتذكيرهم فقال تعال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾(الغاشية: 21/22). وقال: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾(يونس/99).
إن هذه الفتاوى التي تمزق جسد الأمة، وتفرق صفها، وتزرع الحقد والبغضاء بين أبنائها، إنما يقف خلفها حكام باعوا أنفسهم للشيطان، وارتموا في أحضان الكفر العالمي فتراهم يسعون فيما يخدم غاياته ويحقق أهدافه في ضرب وحدة هذه الأمة وتفريق صفها وجعلها ألعوبة في يد القوى الطاغوتية. كما أن هناك جماعات لا تختلف عن الحكام الظالمين وضعت نفسها أيضاً بتصرف أجهزة المخابرات المعادية وعملت معها وتعاونت لتحقيق أهداف وغايات وضعت لها، فتذرعت بأحداث التاريخ وباختلاف الآراء وراحت تسفك دماء المسلمين وهي تزعم أنها تريد الحفاظ على الدين.
ومما يؤسف له أن الشارع الإسلامي يتقبل منهج التطرف أكثر مما يتقبل منهج الاعتدال، لذلك ترى الفتنة اليوم في أوجها، وترى أن مسؤوليتنا جميعاً هي مواجهة هذه الفتنة متعاونين على البر والتقوى، واضعين نصب أعيننا حماية هذه الأمة ووحدتها وتخليصها من هذه الموبقات والأمراض التي ضربتها أما على أيدي أعدائها وأما على أيدي الجهلة من أبنائها، والله المستعان في الأمور كلها.