كيف نقيم حركة امامنا الصادق ع في ترسيخ العقيدةالجعفرية::
بتاريخ : 18-11-2006 الساعة : 09:21 PM
[align=center]من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا اللّهَ عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً )
( وجعلناهم أئمة يهدون باءمرنا وأوحينا اليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاءَ الزكاةِ وكانوا لنا عابدين )
نظرتان خاطئتان
"الحمد للّه والصلاة والسلام على رسول اللّه وعلى آله ومن اهتدى بهداه "
ثمة نظرتان خاطئتان بشاءن الامام الصادق عليه السلام ، ناشئتان عن لونين من التفكير; ومن الغريب أنهما على اختلافهما تتقاربان فيالشكل والمحتوى والمنشاء، بل يمكن القول ان النظرتين تشتركان فيبعض المحاور اشتراكا تاما:
النظرة الاولى : نظرة مدافعة يبديها أولئك الذين يخالون أنهم من أتباع الامام ومواليه .. إنها نظرة شيعة الامام الصادق عليه السلام بالقول ، لا بالعمل ، وتتلخص بما يلي:
إن الامام الصادق عليه السلام توفرت له ظروف لم تتوفر لإمام من قبله ولا من بعده ، استطاع أن يستغلها لنشر أحكام الدين ، وأن يفتح أبواب مجلسه لطلاب العلم . جلس في بيته ، وفتح صدره للمراجعين ، وتصدّى للتدريس ونشرِ المعارف ، وارتوى كل من قصده من طلاب العلم وناشدي الحقيقة . اشترك في مجلس درسه أربعة آلاف تلميذ، وعن طريق هؤلاء التلاميذ انتشرت علوم الامام الصادق ، منها العلوم الدينية : كالفقه والحديث والتفسير، ومنها العلوم الانسانية : كالتاريخ والاخلاق وعلم الاجتماع .
وتصدّى الامام لمناقشة المنتمين الى الافكار الدخيلة ، والردّ على الزنادقة والماديين والملحدين ، مباشرة أو عن طريق تلاميذه ، وقارع أصحاب النحل المنحرفة بقوّة . ولكل مجالٍ من مجالات الدين ، ربّى كوكبة من الطلبة والمتخصصين .
ويقول أصحاب هذه النظرة أيضا: إن الامام ـ وحرصا على استمرار هذا المشروع العلمي ـ اضطر الى عدم التدخل في السياسة ،فلم يُقدِم على أي عمل سياسي، بل وأكثر من ذلك فانه سلك طريقايتماشى مع سياسة خلفاء زمانه لاسترضائهم ، ولاستبعاد أية شبهة يمكن أن تحوم حول نشاطه . لذلك لم يجابههم ، ومنع أيضا أن يجابههم أحد. وقد تستلزم الظروف أن يذهب اليهم وينال جائزتهم وحظوتهم ، وإن حدث أن أساء الحاكم به الظن ـ نتيجة حدوث حركة ثورية أو تهمة لفّقها نمّام ـ يتجه الامام عليه السلام الى استمالة الحاكم ومجاملته .
ويورد اصحاب هذه النظرة شواهد تاريخية ، من ذلك رواية ربيع الحاجب وأمثالها، التي تصوّر الامام في مجلس المنصور وهو يبديالاعتراف بالتقصير واعلان الندم ، وتنقل عن الامام عبارات مدح وثناء يبديها تجاه الخليفة المنصور، مما لا يشك الانسان في كذب صدورها عن الامام الصادق عليه السلام تجاه طاغية كالمنصور. هذه العبارات تصور المنصور باءنه كيوسف وسليمان وأيوب ، وتطلب منه أن يصبر على ما يرى من اساءات الامام او إساءات بني الحسن : "إن سليمان أعطي فشكر، وإن ايوب ابتلي فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر،وأنت من ذلك السنخ(1) .
(... هذه نظرة تصور الامام عالما، باحثا، واستاذا كبيرا انتهل من بحرعلمه ابو حنيفة ومالك و... لكنه كان بعيدا كل البعد عن كل مقاومة لعدوان السلطة على الدين ، وعن كل ما تتطلبه مهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر امام السلطان الجائر ... كان بعيدا كل البعد عن الثوار من امثال : زيد بن علي ومحمد بن عبداللّه والحسين بن عليشهيد فخ ، بل عن الجنود المقاتلين مع هؤلاء الثوار، ولم يكن يبدي أيرد فعل تجاه ما يحل بالمجتمع الاسلامي، ولا يكترث بما كان يكتنزه المنصور من أموال طائلة ، ولا بما كان يعاني منه ابناء رسول اللّه فيجبال طبرستان ومازندران ، وفي رساتيق العراق وايران من جوع ،بحيث لا يجدون ما يسدّ رمقهم ، ولا ما يسترهم إذا ارادوا الصلاة جماعة !! ولا يهتمّ بما كان يتعرض له أتباعه من قتل وتعذيب وتشريدوهم صفر اليدين من كل متاع يتنعم به الافراد العاديون من ابناءالمجتمع آنذاك!!
في ظن اصحاب هذه النظرة أن الامام الصادق لم يبد أية حساسية تجاه هذا الوضع ، بل كان قانعاً باءن ياءتيه من مثل ابن ابي العوجاء،فيقارعه بالحجج والبراهين ويغلبه ، ويخرج من بيته مهزوما.. دون أن يؤمن طبعا.
هذه هي صورة الامام الصادق كما يرسمها اصحاب النظرة الاولى .
النظرة الثانية : يحملها اولئك الذين لا يعترفون بامامة الصادق ،وهي نظرة متحاملة على الامام ترى انه عليه السلام وقف تجاه ماكان يحيق بالمجتمع من ظلم موقف عدم اكتراث . فالمجتمع في زمانه كان يضجّ بالمظالم الطبقية والطغيان السياسي والسيطرة المقيتة على أموال الناس(2) وانفسهم وأعراضهم ، واكثر من ذلك على عقولهم ونفوسهم وتفكيرهم ومشاعرهم . حتى لم تعد الامة تتمتع باءبسط الحقوق الانسانية ، بما في ذلك القدرة على الانتخاب . مقابل هذا كان الطواغيت يتلاعبون بمقدرات الناس كيف ما شاءوا، ويبنون القصورالفارهة ، مثل قصر الحمراء جوار آلاف الخرائب التي يعيش فيهاالبؤساء من عامة الشعب .. في مثل هذا المجتمع المليء باءلوان التعسف والاضطهاد يتجه الصادق الى البحث والدراسة وتربية الطلبة ،ويصبّ اهتمامه على تخريج الفقهاء والمتكلمين.. !!.
إن كلا النظرتين مجحفتان ، لا تقومان على أساس ولا تستندان الى دليل واقعي. غير أن النظرة الاولى أشد إجحافا واكثر ظلما للامام الصادق عليه السلام لانها صادرة عن لسان من يدعي أنه من شيعته واتباعه .
لا أريد أن أنهج هنا اسلوب البحث العلمي المتداول في الدراسات بعرض جميع النصوص الواردة عن حياة الامام الصادق عليه السلام واُقارن بينها من حيث المتن والسند لأخرج بنتيجة ، فذلك له مجاله فيمجالس البحث العلمي.
اريد هنا أن اطرح نظرة ثالثة مقابل تينِك النظرتين .. واقرن هذه النظرة باءدلة مستقاة من مصادر موجودة بين ايديكم ، كي تستطيعوا ـمثل حَكَم محايد ـ أن تتطلعوا من خلالها الى الوجه الحقيقي للامام عليه السلام ..
وقبل أن ادخل في صميم البحث يلزمني أن اُشير الى أن كلاالنظرتين لا تقومان على أساس صحيح موثوق به .
فكما ذكرت أن النظرة الاولى تستند الى عدد من الروايات (اوضحت وضع اسنادها في الهامش ). وهذه الروايات تنسجم طبعامع طالبي الراحة ومحبّي العافية ، فيتذرّعون بها باعتبارها حجة قاطعة . انها كافية لأن تكون مبرّراً للانتهازيين من ذوي النفوس الضعيفة المهزوزة .
فهذه الروايات تصور الامام باءنه راح يتملّق المنصور لحفظ حياته ، مع أنه كان قادراً أن يحتوي الموقف باسلوب حكيم . واذا كان ذلك شاءن القدوة فما بالك بالمقتدي؟
نعتقد أن نصّ هذه الروايات كاف لاثبات زيفها. فالامامُ كان قادراً على دفع شرّ المنصور عنه بطرق اُخرى كما حدث في مواقف عديدة تنقلها روايات موثوقة ، فلا دليل إذن على أن يعمد الامام الى هذا الملق الزائف والثناء الكاذب ، ليضفي على المنصور خصالاً ليست فيه ومكانة لا يستحقها. فمكانة الامامة ارفع من ذلك بكثير دون شك،وأسمى من أن تتلوث بمثل هذه المواقف المنحطّة.
ومن حيث السند، فإن تحرّي الدقة في الرواة يكشف لنا عن أشياءكثيرة . ففي عدد من هذه الروايات نرى الاسناد ينتهي بالربيع الحاجب . والربيع حاجب المنصور! وما أعدله من راو؟! ويظهر من المصادر أن الربيع كان أقرب الناس الى المنصور، وأكثرهم زلفة لديه .استوزره المنصور سنة 153ه' (5 سنوات بعد وفاة الامام الصادق )،أي نال رفعة في المقام .. (ولعلّه نال هذا الترفيع ثمناً لما نسبه للصادق عليه السلام من أكاذيب.
مثل هذا الشخص الذي ثبت اخلاصه ووفاؤه لجهاز الخلافة(3) لايستبعد منه أن يختلق الاكاذيب ، فينسب كلام الملَق الى الامام الصادق أو يغيّر كلاماً حادّاً قاله الامام الى كلام تضرّع والتماس . هذاليس بغريب على هذا الحاجب ، لكن الغريب أن يصدق عاقلٌ قولَأحد بطانة الخليفة بشاءن عدو الخليفة ، ومقولة تشيّع هذا المفتري، وهيمقولة تشكل جزءاً من المؤامرة الدنيئة .
والنظرة الثانية ايضا واهية بالدرجة نفسها الدرجة وغير علمية .انها تشبه أحكام المستشرقين المنطلقة عن غرض أو جهل ، ومن روح مادية محضة لا تنسجم اطلاقا مع طبيعة الاحداث الاسلامية . ولقدشاهدنا تلك الاحكام الفجّة التافهة التي تصدر عن بعض المستشرقين تجاه الاسلام وأئمة اهل البيت عليهم السلام . كقول احدهم (4) عن الامام الحسن المجتبى أنه باع الخلافة بالمال ! وقضى عمره بين العطروالمرأة والترف ! وقول مستشرق آخر (5) إن الاسلام نقل المجتمع من مرحلة الرقّية الى مرحلة الاقطاع !!
والنظرة الثانية التي نتحدث عنها تشترك مع أقوال هؤلاءالمستشرقين في السطحية والتسرّع والمنطلق المادّي.
والطريف أن الوثائق التي يعتمد عليها أصحاب النظرة الثانية ليست سوى ما يلفّقه أصحاب النظرة الاولى من أحكام !!
النظرة الصحيحة
النظرة الثالثة : والآن نبدأ بالنظرة الثالثة بشاءن الامام الصادق ،وهي نظرة يمكن أن يستنبطها كل ثاقب نظر بالرجوع الى المصادروالمراجع . وهذا الاستنباط لا يختص بحياة الامام الصادق وحده ، بل يشمل كل أئمة اهل البيت ، مع الفارق في خصائص عمل كل منهم حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان ، وهذا الاختلاف فيالخصائص لا يتنافى مع وحدة روح العمل المشترك وحقيقته ومع وحدة الهدف والمسير.
من أجل أن نفهم طبيعة المسيرة العامة لحياة الائمة (6) ، علينا أولا أن نتبين فلسفة الامامة . التيار الذي عرف في مدرسة اهل البيت باسم الامامة ، والذي تتكون عناصره الاصلية من أحد عشر شخصاً توالواخلال قرنين ونصف القرن تقريباً، انما هو في الواقع امتداد للنبوة .
فالنبي يبعثه اللّه سبحانه بمنهج جديد للحياة ، وبعقيدة جديدة ،وبمشروع جديد للعلاقات البشرية ، وبرسالة الى الانسانية . ويطويحياته في جهاد مستمر، وجهد متواصل ، ليؤدي مهمة الرسالة الملقاة على عاتقه قدر ما يسمح له عمره المحدود.
وعملية الدعوة يجب أن تستمر بعده ; كي تبلغ الرسالة أعلى الدرجات المتوخاة في تحقيق الأهداف . ويجب أن يحمل أعباءالمواصلة من هو أقرب الناس إلى صاحب الرسالة في جميع الابعاد;كي يبلغ بالأمانة الى محطة آمنة وقاعدة رصينة ثابتة مستمرة .
هؤلاء هم الائمة وأوصياء النبي. وكل الائمة العظام واصحاب الرسالات كان لهم أوصياء وخلفاء. ومن أجل أن نعرف مهمة الامام ،لقد(لا بد أن نعرف مهمة النبي. والمهمة يبيّنها القرآن الكريم إذ يقول : (أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)(7)
هذه إحدى الآيات التي تبين علّة النبوة ، وتبين من جهة اُخرى مهمة الانبياء. فالانبياء ابتعثوا لبناء مجتمع جديد، ولاقتلاع جذورالفساد، ولاعلان ثورة على جاهلية زمانهم ، وقلب مجتمعاتهم .وعملية التغيير هذه يعبّر عنها الإمام علي عليه السلام في مطلع استلام مهام حكومته بقوله : ".. حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم اسفلكم .(8)
(... انها عملية صناعة مجتمع على أساس التوحيد والعدل الاجتماعيوتكريم الانسان ، وتحريره ، وتحقيق المساواة الحقوقية والقانونية بين المجموعات والافراد، ورفض الاستغلال والاستبداد والاحتكار،وافساح المجال للطاقات والكفاءات الانسانية ، وتشجيع التعلّم والتعليم والفكر والتفكير.. انها عملية اقامة مجتمع تنمو فيه كل عوامل سموّ الانسان في جميع الابعاد الاساسية ، ويندفع الكائن البشري فيه باتجاه مسيرته التكاملية على ساحة التاريخ .
هذه هي المهمة التي بعث اللّه الانبياء من أجلها، ونستنتج من ذلكأن الامامة ، باعتبارها امتدادا لمهام النبوة ، تتحمل نفس هذه الاعباء.لو أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عاش 250 عاما، فماذا كان يفعل يا ترى ؟ وكيف كان يتحرك على طريق الدعوة ، نفس هذه العملية نهض بها الائمة . هدف الامامة هو نفسه هدف النبوة ، والطريق هوالطريق ، أي إيجاد مجتمع اسلامي عادل ، والسعي لصيانة مسيرته الصحيحة .
مقتضيات الزمان مختلفة طبعاً، وبنفس النسبة يختلف التكتيكوالاسلوب . النبي صلّى اللّه عليه وآله نفسه كان يعمل في بداية الدعوة باسلوب يختلف عن اسلوبه حين قطع شوطاً من الطريق نحو تحقيق هدفه المنشود
المصدر : قيادة الامام الصادق ع :شبكة الرضا ع [/align]