من كتاب -تفسير القرآن الكريم -
السيد مصطفى الخميني قدس - ج 1
(((حقيقة علم التفسير)))
....................
لمقدمة هنا مسألتان : المسألة الأولى ما هي حقيقة علم التفسير ؟ قال ابن حيان: " لم أقف لأحد من علماء التفسير على رسم له . فنقول : التفسير في اللغة الإبانة والكشف ، قاله ابن دريد . . . إلى أن قال : وأما الرسم في الاصطلاح ، فنقول : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي عليها حالة التركيب مع تتمات لذلك ". انتهى .
والذي تقرر : أن لكل علم موضوعا ، وربما يكون موضوع العلم عين موضوع مسائله ، وما هو موضوع علم التفسير في هذه المسألة هو القرآن بمجموعه ، وموضوع مسائله أجزاؤه كعلم الجغرافيا وأما تعريفه : فهو العلم بالمرادات والمقاصد الكامنة فيه بالإحاطة بها بقدر الطاقة البشرية ، والإحاطة المطلقة غير ممكنة حتى لمن نزل عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وما جعله رسما له يرجع إلى انحلال علم التفسير إلى العلوم المختلفة ، وعدم كونه علما مستقلا قبال سائر العلوم المدونة . وأما عوارضه الذاتية
: فهي ما تعرض لموضوعات مسائله من غير واسطة تورث مجازيتها . واتضح من تعريفه ما هو حقيقتها . وأما غايته : فهو الوصول إلى درجة العقول في النيل بالأصول النازلة على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وشرافته - بعد بعض العلوم - أكثر من سائر الفنون لشرافة موضوعه . وله مبادئ تصورية وتصديقية من العلوم الأدبية الراجعة إلى فهم المفردات والمركبات . وحيث إن المحرر في محله : أن وحدة العلوم اعتبارية ، وليست طبيعية ولا تأليفية ، وهي تابعة لوحدة الموضوع
، فعلم التفسير : تارة يكون موضوعه مطلق الكتب السماوية ، وأخرى يكون كتابا خاصا ، والذي هو موضوع علم التفسير في هذه الأمة هو القرآن العظيم والكتاب الكريم ، فيشبه علم الطب في السعة والضيق بحسب سعة الموضوع وضيقه . وغير خفي : أن مسائل هذا العلم ليست من القضايا الحقيقية ، بل هي دائرة بين القضايا الخارجية والشخصية . ونحن قد بسطنا البحث حول هذه المسائل في موسوعتنا الأصولية
، ولمكان أن المفسر لابد أن لا يتجاوز عن مقصوده ، ولا ينظر في بعض الفنون - التي من المبادئ التصورية أو التصديقية لهذا العلم الشريف - نظرا ينتهي إليه مرامه ، أشرنا إلى هذا النموذج الإجمالي ، ونعتذر .
وإن شئت قلت : إن علم التفسير علم طويل سلمه ، سميكة أفلاكه وأنجمه ، بعيد الغور ، غريب الطور ، ذو سبل فجاج ، متفنن الطرق في الاستقامة والاعوجاج ، قلما اهتدى إلى أغواره إلا واحد بعد واحد ، لأن كلام الكبرياء أجل من أن يكون شريعة لكل وارد ، وقليل من الناس وصلوا إلى أسراره وهم مع ذلك ينادون من مكان بعيد ، إذ موضوع هذا العلم - وهو القرآن - ليس له حد يقف إليه الأفهام ، وليس كغيره من كلام الأنام ، وإنما هو مقال الملك العلام ذو عبارات للعلماء وإشارات وحقائق للأولياء ولطائف للأنبياء ، بل هو بحر لجي في قعره درر ، وفي ظاهره خبر ، والناس في التقاط درره والوصول إلى خبره على مراتب متفاوتة . ومن أجل ذلك جاءت التفاسير مختلفة حسب اختلاف أهلها : فمنها ما يغلب عليه العربية والعلوم الأدبية من الإعراب والبيان ، ومنها ما يغلب عليه المجادلات الكلامية مما ظنوها من الحكمة والبرهان ، ومنها ما يغلب عليه القصص والسير ، ومنها ما يغلب عليه نقل الأحاديث والخبر ، ومنها ما يغلب عليه التأويلات البعيدة وبيانات غريبة عجيبة ، لأنهم لم يأخذوا التفاسير من مشكاة النبوة والولاية .
فالتفسير الجامع لمجامع العلوم والأحكام ، والكافل للحقائق والدقائق ، والشامل للإشارات والعبارات ، والحاوي لاس مطالب الحكمة والعرفان ، لم يتيسر لأحد من العلماء والحكماء ، ولا يمكن ذلك إلا لمن خص بهبة من الله تبارك وتعالى ووراثة من الأنبياء ، وأخذ العلم من مشكاة الأولياء ، واقتبس قوة قدسية ونورا من الله في قوالب إنسية . ولنعم ما قيل بالفارسية : جمع صورت با چنين معنى ژرف * نيست ممكن جز ز سلطان شگرف
وقال الوالد المحقق العارف برموز الكتاب وبعض أسراره :
" إن تفسير القرآن لا يتيسر إلا لله تعالى ، لأنه علمه النازل ، ولا يمكن الإحاطة به " .
المسألة الثانية.... ما هو سبب تسمية هذا المؤلف القيم بالقرآن وغيره من الأسماء المذكورة له ؟ أسماؤه المعروفة أربعة :
1 - القرآن : كما في قوله في سورة الزخرف * ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) ، وفي موضع آخر من البقرة : * ( شهر رمضان الذي أنزل فيه ‹ صفحة 7 › القرآن ) * ، وهذا يدل دون الأول ، لأنه أريد هناك معناه اللغوي . ولعله سمي بذلك لقوله تعالى في بدو الوحي والنزول : * ( إقرأ باسم ربك الذي خلق ) *، والمسمى هو هذا المؤلف الذي بين أيدي المسلمين . فيكون بالوضع التعيني كسائر الأسماء الموضوعة للمعاني الكلية . ونظيره كلمة " سلطان " ، فإنه مصدر أو اسم مصدر يطلق على الذات ، فالقرآن يطلق على ذات هذا السفر القيم ، نظير إطلاق الماء على الكل والجزء .
2 - الفرقان : كما في قوله تعالى : * ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ) *
. 3 - الكتاب : كما في آيات
. 4 - الذكر : كما في قوله تعالى : * ( إنا نحن نزلنا الذكر )
وغيرها . ولكن هذه الثلاثة مشتركة بينه وبين سائر الكتب السماوية ، ففي قوله تعالى : * ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ) وفي موضع من سورة الأنبياء : * ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين )
. فعلى هذا يختص الاسم بالقرآن ولذلك اشتهر به ، وما وجدت في الكتاب العزيز إطلاقه على سائر الكتب . وأما وجه التسمية والإطلاق فهو معلوم لا يحتاج إلى الإطالة المنهي عنها والإطناب المزعج . وسيظهر وجوه توصيفه في خلال الآيات الشريفة - إن شاء الله تعالى - بأوصاف مختلفة وعناوين شتى ، فعلى هذا تزداد أسمائه وألقابه إلى العشرات على ما ضبطه بعض المفسرين ولا تنحصر بالأربعة ، وغير خفي أن الخلط بين ما هو في حكم العلم وغيره ، غير جائز . وما هو العلم لهذا الكتاب هو القرآن برفض خصوصية المعنى ، بخلاف سائر الألقاب .
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
(((التفسير والتأويل )))
على المشارب المختلفة والمسالك الكثيرة
على مسلك الأخبار والآثار __
أنه تعالى * ( مالك يوم الدين ) * ، إقرار له بالبعث والحساب والمجازاة ، وإيجاب له ملك الآخرة ، كما أوجب له ملك الدنيا ، وإذ قال العبد : * ( مالك يوم الدين ) * ، فعن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " أنه قال الله عز وجل جلاله : أشهدكم كما اعترف عبدي أني مالك يوم الدين ، لأسهلن يوم الحساب حسابه ، ولأتقبلن حسناته ولأتجاوزن عن سيئاته "
. وهو * ( مالك يوم ) * الحساب ، كما في قوله : * ( يا ويلنا هذا يوم الدين ) وأيضا * ( يوم الدين ) * يوم خروج القائم ( عليه السلام ) ، هكذا في " الكافي " وعنه عن الباقر ( عليه السلام ) : " * ( يوم الدين ) * أيام ثلاثة : يوم يقوم القائم ، ويوم الكرة ، ويوم القيامة وقريب منه : أنه * ( مالك يوم الدين ) * والجزاء والحساب والعقوبة في الدنيا والآخرة ، وأنه تعالى يجزي المتخلف الظالم حسب اقتضاء الظروف أنحاء الجزاء المناسب لتلك الظروف ، ولا يدع إلى الآخرة ، بمعنى أنه لا ينحصر يوم الجزاء بالآخرة ، وإن كان الجزاء الحقيقي والكلي في الآخرة ، وأما في الدنيا فبالنسبة إلى الأمم السالفة ، فقد كان يجزيهم في هذه النشأة وينزل عليهم أنواع العذاب ، من غرقهم ومن الخسف بهم وتنزيل الحجارة وغير ذلك . وأما بالنسبة إلى الأمة المرحومة الإسلامية وسائر الأمم المعاصرين لهم ، وإن كان البناء على تأخير العقوبة وإنما يعجل من يخاف الفوت ، ولكن كثيرا ما يتفق الجزاء والنكال في هذه النشأة أيضا رحمة منه تعالى وشفقة عليهم . إنه تعالى * ( مالك يوم الدين ) * والحساب ، كما في بعض أخبارنا ، وذلك لأن الجزاء يحصل في هذه النشأة أحيانا وفي البرزخ ، لأن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران. وهذا من الجزاء
حقيقة وواقعا ، بل الجزاء في الدنيا يظهر لبعض كثيرا ، فإنا نرى كثيرا من المنغمسين في شهواتهم ، يقضون أعمارهم وهم متمتعون بلذاتهم . نعم إنهم لا يسلمون من المنغصات وربما رقتهم الحوائج ابتلوا في أموالهم ، واعتلت أجسامهم ، وضعفت عقولهم ، ولكنه ليس هذا جزاء كاملا لما اقترفوه من عظيم الموبقات وكبير المنكرات . كذلك نرى كثيرا من المحسنين يبتلون بهضم حقوقهم ، ولا ينالون ما يستحقون من حسن الجزاء . نعم إنهم ينالون بعض الجزاء ، بإراحة ضمائرهم وسلامة أجسامهم وصفاء ملكاتهم وتهذيب أخلاقهم ، ولكن ليس هذا كل ما يستحقون من الجزاء . فإذا جاء ذلك اليوم استوفى كل عامل جزاء عمله كاملا ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر جزاء وفاقا لما عمل ، كما لا يخفى . فعلى هذا يتعين أن يكون المراد من * ( الدين ) * هو الحساب ، ولعل كلمة " الدين " المستعملة في القرآن كثيرا حتى بلغ أكثر من سبعين موردا أريد منها الحساب ، ودين الإسلام وسائر الأديان يسمى بالدين ، لأجل أن القوانين محاسبات الأعمال والأفعال ، ومحددات المسالك والمعايش والسياسات ، فكل ذلك حساب من الله تعالى . وعلى هذا إذا قيل : هو مالك يوم الحساب والدين ، وأريد منه يوم القيامة ، فهو باعتبار أن في ذلك اليوم كمال الدين والحساب وظهور الدين والمحاسبة ، وتتجلى فيه أحكام الإسلام والقرآن حق التجلي والظهور
وعلى مسلك أهل العرفان والشهود ___
أنه تعالى هو الآن * ( مالك يوم الدين ) * باعتبار منتهائيته التي هي حقيقة مالكيته للأشياء في يوم الدين ، إذا لا يجزي في الواقع إلا هو ، الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء ، بإثابة النعمة الباقية عن الفانية في الظهور والتجلي ، وفي كل آن يثيب تلك النعمة عن النعمة الفانية ، عند التجرد عنها بالزهد وتجليات الأفعال ، عند انسلاخ العبد عن أفعاله . وأيضا تعويضه صفاته تعالى عند المحو عن صفاته ، وأيضا إبقاؤه بذاته ونحلته الوجود الحقاني عند الفناء عن ذاته . فتحصل من البدأ إلى المنتهى : أن مطلق الحمد وماهيته أزلا وأبدا ، على حسب استحقاقه إياه بذاته ، باعتبار البداية والنهاية وما بينهما في مقام الجمع على الألسنة بالتفصيل الماضي تحقيقه ، فهو الحامد والمحمود جمعا وتحقيقا والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى ، وكل ذلك بالاعتبارات المساعد عليها البراهين القاطعة ، وإن لا يساعد عليها السنة الطاهرة . وقريب منه : أنه تعالى * ( مالك يوم الدين ) * بالملكية الأرقى من أنواع الملكيات ، لأنها ليست كمالكية الملاك لأملاكهم ، ولا كمالكية الملوك لممالكهم ، ولا كمالكية النفوس لأعضائها ، ولا كمالكية النفوس لقواها ولا لصورها العلمية الحاصلة الحاضرة عنده ، يفني ما شاء منها ، ويبقي ما شاء ، ويوجد ما شاء ، ويمحق ويثبت . بل مالكيته ليوم الدين غير مسبوقة بالسابقة المعدة ، وقريب من المالكية الأخيرة تنظيرا وتشبيها ، فإذا هو مالك حقيقة يوم الدين نفسه ، لا الأمر الآخر الذي توهم أنه المملوك ويوم الدين ظرفه ، بل يوم الدين ليس مثل اليوم المعهود في أفق الزمان وعمود الوقت اعتباريا وتخيليا ، فإنه مرتبة من الوجود وعالم كلي خارجي ، ولأجل ضيق المجال وقصور اللغات عن إفادة المطلوب والمقصود العقلاني ، يعبر عنه بيوم الدين ، وإلا فلكل موجود يوم الدين ، وذلك الموجود نفسه الآخرة ويوم الدين ، لا أن اليوم الكذائي كيومنا هذا يعتبر من الحركة أو هو نفسها ، بل اليوم في عالم الآخرة ولدى المجردات ، لا مبدأ اعتباري له ، فلا معنى لاعتبار الوقت هناك ، كما لا يخفى على أهله ، وجاهله معذور . وقريب منه : أنه تعالى مالك كل شئ ، ولا يخرج عن تحت ظل مالكيته شئ ، إلا أن لتلك المالكية ظهورا وبطونا ، فبطونه في هذه النشآت لظهور مالكية غيره فيها ، ولخفاء أن هذه المالكية ظل مالكيته تعالى على طائفة الملاحدة ، فيتخيلون أن السلاطين ملوك ، وأن الناس ملاك ، وأن الأنبياء والأولياء أرباب السيطرة والقدرة ، وأن سليمان - على نبينا وآله وعليه السلام - صاحب السلطنة والعزة والمكنة . وأما ظهور تلك المالكية فهو في * ( يوم الدين ) * ، لأنه يوم الآخرة وغاية الغايات ، وفيه يصل كل ذي غاية ونهاية إلى الغاية والنهاية ، وإلى كماله المرغوب له والمنتظر فيه ، وهو آخر حقيقته المتدرجة ونهاية حركته الذاتية ، وقد تقرر في الكتب العقلية : أن حقيقة كل شئ فصله الأخير
وهو باضمحلال جميع الاستعدادات والإمكانات الاستعدادية والقوى ، وصيرورتها فعلية محضة ونورا صرفا . فلأجل ذلك أضيفت مالكيته تعالى إلى * ( يوم الدين ) * والحساب ، ضرورة أن في ذلك اليوم يتوجه كل محاسب إلى حسابه ، ويدرك كل راجع ما حوسب وهيئ له . والله من ورائهم محيط . فبالجملة : الإنسان ما بقي في عالم الطبع والبشرية لم يظهر له مالكيته تعالى ، وإذا ارتقى إلى أول عالم الجزاء - وهو عالم المثال - ظهر له أنه تعالى مالك للأشياء كمالكيته للصور العلمية وقواه النفسية ، وإذا ارتقى إلى العالم الآخر - وهي القيامة العظمى والرجعة الكبرى - يتوجه إلى خطائه في السابقات ، ويظهر له أن الأمر ليس مثل ذاك ، ويشهد أن مالكية كل شئ هي مالكيته ، وحينئذ يدرك التوحيد الأفعالي بعد الفناء الذاتي * ( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ). وعلى مسلك أهل الظاهر والتفسير أنه تعالى * ( مالك يوم الدين ) * ، أي سيملك يوم الدين ، أي ما في يوم الدين ، وحيث كان اليوم المزبور محقق الوقوع في المستقبل ، صح أن يقال : هو * ( مالك يوم الدين ) * ، وحيث إن يوم الدين ليس قابلا لأن يملك
يكون قرينة على أن الله مالك الأشياء في يوم الدين . والمراد من * ( الدين ) * : هو الحساب ، أو الجزاء والعقوبة ، أو الآخرة والقيامة التي هي معدومة بالفعل ، وسيوجد - إن شاء تعالى - ولذلك قيل : إن الأنسب أن يقرأ بالتنوين مع نصب اليوم ، أي مالك يوم الدين ، فإن بين قولنا : " زيد قاتل عمرو " وبين قولنا : " زيد قاتل عمرا " فرقا واضحا ، فإن الأول إقرار بالقتل ، ويستحق القصاص ، دون الثاني ، فليتأمل جيدا . وأما فائدة تخصيص هذه الإضافة - وإن كان الله تعالى مالك للأزمنة كلها والأمكنة - فالتنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه من الأمور العظام والأهوال الجسام ، من قيامهم فيه لله تعالى والاستشفاع لتعجيل الحساب والفصل بين المحسن والمسئ وغير ذلك . ............
وعلى مشرب أهل الحكمة ومسلك أصحاب الفلسفة_
أنه تعالى * ( مالك يوم الدين ) * بالفعل وفي الحال ، لأجل أن الدين والجزاء والحساب بالفعل وفي الحال ، ضرورة أن جميع الأفعال والأقوال السيئة ذوات الآثار والتبعات البرزخية والصور المؤذية ، وهكذا الحسنات منها ، وتلك التبعات تحصل في النفس بمجرد اتصافها بها ، وتكون باقية ، وعليه يكون الآن مالك يوم الدين ، لأن كل وقت وآن يوم الدين ، إلا أن ظهور ذلك في الوقت المعلوم ، كما مضى سبيله وتحقيقه ، ولذلك ذكرنا : أن الآية تشهد على تجسم الأعمال والأفعال ، ويأتي إن شاء الله تعالى * ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء ( إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) * ولا شبهة في أن محاسبة النفس ليست مبتدئة من زمن مفارقة البدن ، بل النفس تحاسب من الأول والابتداء ، وإليه يشير قوله ( عليه السلام ) : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا وربما يكون الحديثان يشيران إلى أن لكل إنسان أن يفرغ من حسابه وزن عمله في دار الدنيا ، بحيث لا يحتاج إليهما في دار الآخرة ، وهو على ما قيل كذلك عند اولي الألباب . والله العالم بحقائق الأمور والآيات . وعلى بعض المسالك الاخر أنه تعالى هو * ( مالك يوم الدين ) * والجزاء في جميع النشآت ، وأنه لا يضيع أجر المحسنين في جميع العوالم ، فقال في سورة يوسف : *
( قالوا أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع اجر المحسنين)فيعلم منها ان الجزاء لايختصر بالقيامة والاخرة