هناك مَن قال إنّ مولد الإمام السجّاد عليه السّلام كان في الكوفة، حيث كانت أُسرة أمير المؤمنين عليه السّلام كلّها هناك بعد الانتقال إليها وجَعْلِها عاصمة الخلافة الإسلاميّة يومذاك. ولكنّ أغلب المصادر تذكر أنّ مولده كان في المدينة،
وذلك يوم الجمعة.. قيل: في النصف من جُمادى الآخرة،
والأشهر في الخامس من شهر شعبان.
واختُلف في السنة التي وُلد فيها، فمنهم مَن ذكر سنة 36 هجريّة يوم فتح البصرة وانتصار أمير المؤمنين عليه السّلام في واقعة الجمل. ومنهم مَن ذكر سنة 38 هجريّة ـ ولعلّ هذا التاريخ هو الأشهر.
من أشرف سلالة وأزكى نسب وأطهر أصل..
الجد الأعلى حبيب الله وسيّد الخلق، محمّد صلّى الله عليه وآله. والجدّ الآخر: وليّ الله وسيّد الأوصياء، عليّ عليه السّلام.
والجدّة: عصمة الله وسيّدة نساء العالمين، الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهرا عليها أفضل الصلاة والسّلام.
والأب: ثار الله وسيّد شباب أهل الجنّة، وسيّد الشهداء، وريحانة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم.. الإمام أبو عبدالله الحسين سلامُ الله عليه.
أمّا الأُمّ.. فلا ريب أنّ الأئمّة عليهم السّلام لابدّ أن يكون الله تعالى قد اختار لهم أرحاماً طاهرةً مطهّرة، وأُمّهات هن في معالي النجابة والشرف والعبادة والكرامة. قيل: اسمها «شاه زنان» ـ أي ملكة النساء، وقيل: شهربانويه ـ إذ كانت تُدعى سيّدة النساء.. وهي بنت الملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى ملك الفُرس.
روي أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السّلام كان ولّى حُريث بن جابر الجعفيّ جانباً من المشرق، فبعث إليه ببنتَي يزدجرد بن شهريار، فنحل ابنه الحسين عليه السّلام إحداهما فأولدها زينَ العابدين عليه السّلام، ونحل الاُخرى محمّد بن أبي بكر فولدت له القاسم بن محمّد.. الذي كان من بناته أُمّ فروة (فاطمة) زوجة الإمام الباقر عليه السّلام وأُمّ الإمام الصادق عليه السّلام.
وقد سمّى أمير المؤمنين عليه السّلام «شاه زنان» هذه (مريم)، وقيل: (فاطمة).. فحَظِيَت أن أصبحت زوجةً لإمام، وأُمّاً لإمام.
الإمام هو أعلم الناس قاطبة، فهو وارث العلم النبويّ، حيث يرى ما يجري بوضوح.. ببصيرة إلهيّة وعناية ربّانية. وهذه من مزايا الإمام المعصوم، والإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام قد خصّ بحوادث هائلة،
أبرزها:
• وفاة والدته « شاه زنان » عند ولادته عليه السّلام، فكانت في منزلة الشهيد وحُكمه ـ كما يُستفاد من الحديث الشريف.
• شهادة جدّه أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في محراب عبادته، ثمّ شهادة عمّه الإمام الحسن الزكيّ عليه السّلام غدراً بالسمّ.
• وفي كلّ ذلك كانت الحوادث الخطيرة تجري ولا تخلو من الفتن والاختبارات الصعبة. وقد لازم عليّ بن الحسين عليه السّلام والده في حِلّه وتَرحاله، لم يفارقه في جميع المواقف، لا سيّما بعد تسلّط يزيد بن معاوية وفرضه الوضع الفاسد على حياة الاُمّة الإسلاميّة.
• وحين شدّ الإمام الحسين سلام الله عليه رحاله إلى العراق، في ركب الشهادة المهيب، معترضاً على حكومة الطغيان، وصادعاً بالغيرة على الدين، ومحارباً للمشوِّهين والمحرِّفين.. كان زين العابدين عليّ عليه السّلام أوّل المرافقين لسيّد الشهداء عليه السّلام في تلك الرحلة المقدّسة سنة 60 هجريّة.
• وحلّ الركب الحسينيّ الشريف ساحة كربلاء، وبدأت معركة العدوان على آل رسول الله صلّى الله عليه وآله، فذكرت الأخبار أنّ الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام كان يومها عليلاً في ساحة كربلاء، وقد حضر بعض القتال فدفع الله تعالى عنه، ثمّ أُخذ أسيراً. ويرد اسمه عليه السّلام في بعض مصادر الواقعة، لم يُحدّد من هو عليّ: السجّاد عليه السّلام أم أخوه عليّ الأكبر عليه السّلام ؟!
لكنّه جاء في أقدم نصّ مأثور عن أهل البيت عليهم السّلام في ذكر أسماء من حضر مع الإمام الحسين عليه السّلام أنّ الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام قد قاتل في ذلك اليوم، وجُرح.
. كما جاء في كتاب (تسمية مَن قُتل مع الحسين عليه السّلام من أهل بيته واخوته وشيعته)، الذي جمعه المحدّث الفضيل بن الزبير الأسديّ الرسّان الكوفيّ، وهو من أصحاب الإمامَين: الباقر والصادق عليهما السّلام، حيث ذكر ما نصّه:
وكان عليّ بن الحسين عليلاً، وارتُثّ يومئذٍ، وقد حضر بعض القتال.
و«ارتُثّ» تعني أنّه حُمل من ساحة المعركة بعد أن قاتل وأُثخن بالجراح، فأُخلي من أرض القتال وبه رمق. أجل... فصار صلوات الله عليه عليلاً، يُغمى عليه ويقعده المرض، فيهمّ بالدفاع عن حريم إمامه وأبيه الحسين عليه السّلام فيُرجع من قِبل عمّته العقيلة زينب سلام الله عليها؛ حفاظاً على نسل الإمامة من أن ينقطع. وتمرّ وقائع عاشوراء مريرة، يعيشها الإمام زين العابدين عليه السّلام بتفاصيلها المفجعة.
• ثمّ يُقاد سلام الله عليه أسيراً إلى الكوفة، فيعود بعد ثلاث لدفن الأجساد الطاهرة في ساحة الطفّ. ويعيش أيّاماً في الحبس والأسر، ويشاهد سبيَ عمّاته وأهل بيته، ويعيش آلام اليتامى والأرامل والأطفال العطاشى الجياع.
حتّى تكون المحنة الاُخرى في الشام، في قصر يزيد، فيتعرّض للقتل أكثر من مرّة، إلاّ أنّ العناية الإلهيّة تدّخره وتحفظه. وتكون له خطبة غرّاء في عقر دار يزيد الطاغية، يهزّ بها كيان الحكم الأُمويّ، ويدوّي بنهضة الإمام الحسين عليه السّلام في كربلاء.
• ثمّ تكون العودة إلى المدينة.. مروراً بالأحبّة الشهداء في ساحة الطفّ، حيث الزيارة المقدّسة. وعلى مشارف المدينة يبعث الإمام زين العابدين عليه السّلام مَن ينعى الإمام الحسين عليه السّلام، ثمّ يدخل الركب الحسينيّ الحزين، فتنقلب المدينة إلى حال جديد، وتبدأ بذور الثورات على الحكم الأُمويّ.
• وتكون خطة العمل الجديدة إعادة تربية الاُمّة على العقائد التوحيدية السليمة والأخلاق الإلهية النبوية، وتوجيه القلوب إلى العبادة والمعرفة والإيمان والتقوى، لخلق جيل يحيا الإسلام ويرفض الكفر المتقمّص والفساد المستشري
• وتنهض الاُمّة من جديد ولا تهدأ: ثورة في الكوفة بقيادة المختار الثقفي يُقتل فيها قتلةُ الإمام الحسين عليه السّلام، وثورة ثانية تضمّ التّوابين بقيادة سليمان بن صُرَد الخُزاعيّ.. وثالثة في اليمن ورابعة في المدينة، وخامسة وسادسة، ولا تنتهي حتّى تُقوَّض أُسس الحكومة الأُمويّة حتّى تؤول بعدئذ إلى الانهيار.
هذا، والإمام السجّاد عليّ عليه السّلام كان ما يَفتأ يبعث النهضة الحسينيّة في صور عديدة ، لتعطي آثارها مِن دون أن تثير انتباه السلطان الظالم. حتّى اجتمعت الكتل الثوريّة من كلّ مكان، ونهضت بعضها نهضاتٍ غيورةً موفّقة،
أدّت تكاليفها الشرعيّة، وخلّفت حالة اجتماعيّة رافضة للحكم اللاّشرعيّ القائم يومذاك.. وكان منها: نهضة زيد بن الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام.
• وإلى جانب ذلك.. كان الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام ينشر المعارف الإسلاميّة، ويبثّ روح العبادة في أدعيته المباركة، ويشيع الفضائل والقيم الأخلاقيّة الرفيعة من خلال سلوكه الشريف وتعامله مع المجتمع. ورسالة الحقوق هي إحدى وثائقه الرائعة في تنظيم العلاقات.
. بين العبد وربّه جلّ وعلا، بين الإنسان ونفسه، بين المرء وذويه من الأهل والإخوان وذوي الأرحام والأصدقاء وغيرهم.
شهادته
كانت على يد الوليد بن عبدالملك بن مروان، الذي لم يُطِق أن يرى أو يسمع أنّ هنالك وصيّاً لرسول الله صلّى الله عليه وآله يُجلّه الناس ويحترمونه ويأخذون عنه العلم والخلُق الكريم والدعاء والارتباط الصميميّ بالله عزّوجلّ.
. فدسّ إليه سُمّاً ناقعاً كان سبب شهادته يوم السبت الخامس والعشرين من شهر محرّم الحرام (على أغلب التواريخ) سنة خمس وتسعين من الهجرة النبويّة الشريفة.. وله من العمر يومذاك سبع وخمسون سنة.
ودُفن سلام الله عليه في البقيع إلى جوار عمّه الإمام الحسن المجتبى عليه السّلام، في قبر يُزار وتُنال عنده الكرامات والبركات، حتّى هدمته أيدي العدوان الآثمة في الثامن من شوّال عام 1344 هجريّة،
فبقي اليوم أثراً تحنّ إليه قلوب الموحّدين ويقصده آلاف المؤمنين، ويُبكى عنده على ظُلامة أئمّة الهدى عليهم السّلام هناك: الإمام الحسن، والإمام السجّاد، والإمام الباقر، والإمام الصادق صلوات الله عليهم.. حيث مراقدهم الطاهرة.