بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}قد توحي هذه الآية الكريمة بأن المنافقين كانوا يقومون ببعض الأعمال, أو يطرحون بعض الشعارات, في داخل الحياة الإسلامية, مما كان يسيء إلى خط الإيمان, ويفسح في المجال لحركة فسادٍ في العقيدة والسّلوك والعلاقات, وقد يتمثّل ذلك بعمل المعاصي, وصدِّ الناس عن الإيمان بالأساليب الملتوية – على ما روي عن ابن عباس – أو بمملأة الكفار, فإن فيه من توهين الإسلام, على ما قاله أبو علي, أو بتغيير الملة وتحريف الكتاب على ما قاله الضحاك[1].. وقد يتمثل في غير ذلك مما ذكره المفسرون. والظاهر أن مثل هذه التفسيرات لم تنطلق من نص ديني مأثور عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم), ولكنها ارتكزت على ملاحقة بعض الآيات التي تتحدث عن المنافقين في سلوكهم العملي تجاه النبي(صلى الله عليه وآله وسلّم), مما لا يبرّر لنا حصره في نطاق خاص, لأنه لا يحاول حصر هذه الحالات به, بل يحاول عرض بعض ملامحها المتعلقة بالأفكار الإسلامية العامة.
وعلى ضوء ذلك, يمكن لهذه الآية أن تتحرك في كل مجال من مجالات حركة النفاق في داخل المجتمع, مما قد يوحي ظاهره بالصلاح, ولكنه يحمل الفساد في أهدافه ووسائله ودوافعه.. ولعلنا نواجه مثل هذه الحالات في سلوك الكثيرين من حملة الأفكار التي تتحرك في اتجاه إثارة الفوضى والدمار في المجتمع باسم الإصلاح الذي يستهدف تغيير الواقع من خلال نسف جذوره, كما نواجه ذلك في كلمات البعض ممّن يفسحون المجال في المجتمع للدعوات والأعمال التي يطلقها أصحاب الهوى والفجور والانحلال حيث يحاولون تبرير ذلك بأنه ثورة على الجمود, وتحرير للإرادة الإنسانية من عوامل الكبت الداخلي, وتحطيم للعقد النفسية المرضية التي تؤدي إلى ما يشبه الشلل في حركة الفرد والمجتمع, كما نلاحظ ذلك في الدعوات التي تبرر الأزياء الفاضحة أو العري المنحلّ, بأنه يمنح الإنسان صحة نفسية يتعافى بها من كل العقد الداخلية.
ومن الطريف أن نجد في بعض التحليلات النفسية لحركة التحرر في الأزياء التي تعمل على تقصير الثياب إلى أبعد مدى, أن القضية قضية تحطيم للحواجز النفسية الداخلية للمرأة إزاء حركة الحياة في تفكيرها وسلوكها, وليست مجرد تقصير للثياب, فكلما استطعنا تمزيق أي نوع من الحجاب, أو أي مقدار من الثياب, استطعنا أن نمزّق حاجزاً نفسيّاً, وحاجباً روحياً للمرأة, مما يجعل من قضية الانحلال الداخلي قضية ترتبط بقضايا الحرية في العالم, من دون مراعاة للأسس الروحية والأخلاقية والاجتماعية التي ترتكز عليها هذه القيم التي يدعو إليها الدين ويرعاها في مفاهيمه وشريعته. وعلى هذا الأساس, نقف مع الآية وقفة استيحاء, فقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ}, أي إذا نهوا عن الفساد البيّن, فهم يحاولون فلسفته وإعطاءه الصفات التي تجعله واجهة من واجهات الإصلاح, ويمنحون أنفسهم, من خلال ذلك, صفة المصلحين الذين يريدون أن يغيّروا القيم التقليدية في العالم.
وتحاول الآية الكريمة أن تعطينا – من خلال أسلوبها – انطباعاً, بأنهم غير مقتنعين بما يطرحونه, ولكنهم يريدون تنفيذ مآربهم, وبهذا لا تمثل القضية موقفاً حقيقياً لهم, لأنهم لا يتعاملون مع المواقف الحقيقية الحاسمة في الحياة, بل تمثل محاولةً للّفّ والدوران في سبيل تحطيم الركائز الأساسية للمجتمع, كسبيل من سبل تحطيم الرسالة الشاملة التي تنطلق من هذه الركائز.
ويأتي القرآن لحسم الموقف على أساس كشف الواقع الفكري لهؤلاء, وقيمته في حساب الإصلاح, {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} في ما تفرزه أعمالهم وشعاراتهم من آثار سلبية في حياة الأفراد والمجتمعات, {وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} لأنهم لا يعيشون الأجواء النظيفة التي ترتبط بالقيم, ولذلك, لا يشعرون بالنتائج السيئة المرتبطة بأعمالهم, على أساس المقاييس الواقعية للأشياء, بل يظلّون في ارتباطٍ مجنونٍ بالأطماع والشهوات, مما يجعل الموازين تتحرك في اتجاه القيم الشريرة في تقييم الواقع وتحليله.
المنافقون والشعور بالاستعلاء
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء}هذه إحدى الملامح البارزة للمنافقين, وهي مواجهة الرأي العام بمشاعر الكبرياء والعظمة التي تدفعهم إلى احتقار الناس في مستوى تفكيرهم وطبيعة إيمانهم وطريقة حياتهم, لأنهم يجدون في أنفسهم المستوى الفكري والعقلي الذي يرفعهم عن مستوى الآخرين, ولا سيما إذا كانوا مزوّدين بالثقافة التي تتيح لهم أن يجادلوا ويناقشوا, ويحركوا ألسنتهم بتحليل الأمور وتفسيرها ومحاكمتها, على أساس المصطلحات العلمية التي تعطي لكلماتهم مدلولاً علمياً, كما نرى ذلك في بعض المتعلّمين الذين لا يناقشون القضايا العامة التي يتبناها الناس من خلال طبيعتها الأساسية, بل من خلال طبيعة المستوى الذي يمثله هؤلاء الناس المرتبطون بالفكرة أو بالعقيدة. فإذا حاولت أن تربطهم بالحقائق الدينية أو الكونية التي تربطهم بالله وتقودهم إلى الإيمان, قالوا لك: إن هذا كلام غير علمي, وإن هذه الأفكار التي تطرحها علينا هي أفكار العامة من الناس الذين يعيشون سذاجة الفكر والعقيدة, وليست أفكار المتعلّمين الذين يحملون شهادات العلم والفلسفة.
ولعل هذا هو الذي كان يسيطر على أجواء المنافقين الذين كانوا يُدعَون إلى الإيمان الخالص الذي ينطلق من الفطرة بعفوية وبساطة, باعتبار أن طبيعة الأسس التي يرتكز عليها لا تستند إلى فكر معقَّد, بل إلى الوجدان الذي يتحرك في إطار الفكرة بهدوء وصفاء. فكانوا يجيبون: إننا لا نؤمن بمثل هذا الإيمان البسيط, لأنه إيمان السفهاء الذين لا يعرفون طبيعة الأسس التي يستندون إليها في حركة الحياة. وقد توحي الآية الكريمة بأنهم كانوا يركزون على نوعية الإيمان لا على أصله, لأن المفروض – في أجواء هذه الآيات – قبولهم بمبدأ الإيمان ظاهراً, ولكن الله سبحانه, يكشف طبيعة هذا التعاظم الأجوف والكبرياء الكاذب ويؤكد, من خلال أوضاعهم ومنطلقاتهم وحركاتهم, أنهم يرمون الناس بصفةٍ هي أقرب إلى واقعهم الفكري والعملي من واقع الناس الآخرين.