تحليل موضوعي ونفي الصدفة
هنالك إجماع بين مؤرخي أهل السنة بأن أول من سمع بخبر الاجتماع هو عمر ( 1 ) ، وفي رواية أخرى له أن أبا بكر بلغه الخبر ( 2 ) . وبلوغ الخبر لأبي بكر لا ينفي كون عمر هو أول من سمع الخبر وفي رواية ابن هشام : " فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال . . . " ( 3 )
ثم إنه لا أحد يعرف اسم الذي أتى بالخبر لحد الآن ! ! إنه ليس صدفة إن يضيع اسم المخبر ، مع أن هذا المخبر شخص بارز في المجتمع لأنه يعلم ما يدور في الخفاء ، ولأنه أخبر عمر وأبا بكر ، ومما يدل على بروز هذا الشخص أن عمر وأبا بكر أصغيا إليه وصدقاه وكلماه ، فمخبر بهذا الوزن لأمر بهذه الأهمية لا يمكن أن يضيع اسمه إن وجد ، مما يلقي ظلالا من الشك على وجود حقيقي لمثل هذا المخبر .
ثم إنه ليس صدفة أن تجتمع الأنصار وهم الأغلبية الساحقة من سكان العاصمة " المدينة " ولا يعلم بهذا الاجتماع من المهاجرين كلهم إلا عمر وحده ! ثم لماذا ينادي عمر أبا بكر وحده ولا ينادي غيره من المهاجرين مع أن المهاجرين كلهم يلقون نظرة الوداع على نبيهم وإمامهم ويشاركون الآل الكرام مصابهم الفادح ؟ وهذا ليس صدفة أيضا .
ثم أين كان الفاروق الذي لم تتحمله رجلاه عندما سمع بخبر وفاة النبي وتوعد بالموت وتقطيع أطراف من يزعم موت النبي ( 4 ) ؟ ولما تأكد له الموت من
( 1 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 219 .
( 2 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 201 . ( 3 ) ابن هشام ج 2 ص 656 .
( 4 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 197 . ( * )
المفترض أنه ذهب إلى بيت نبيه وإمامه ليلقي عليه نظرة وليشارك الأمة مصابها . فإذا ذهب إلى بيت نبيه ورئيسه فكيف جاءه الخبر من دون الناس ؟ ومن الذي أتاه بهذا الخبر وكيف اهتدى إليه من بين الألوف المتواجدين في البيت المبارك أو حوله ؟ فمن المؤكد أن هذا ليس صدفة .
وحول الأنصار أنفسهم ، من المؤكد قطعا أن الأنصار لم يجتمعوا جميعا فالذين اشتركوا في بدر هم الخيار ، كما ورد بنص الشرع ومن غير الممكن أن يتم اجتماع الأنصار ولا يحضره البدريون وهم الخيار ، فاللذان صادقا المهاجرين الثلاثة هما من أهل بدر ولو كانت غاية الاجتماع اختيار خليفة لحضره هذان البدريان أو على الأقل لما كانا خارج الاجتماع بتلك اللحظة .
ثم إن النبي قد فارق الحياة وهو مسجى في بيته الطاهر ، فهل يعقل أن يتركه الأنصار ولا يذهب منهم أحد لإلقاء نظرة الوداع عليه بالوقت الذي تتأهب فه العترة الطاهرة لمواراته في ضريحه المقدس ؟
هذا أمر لا يمكن تصديقه إلا بحكم التقليد الأعمى ، ثم إن الأنصار على فرض اجتماعهم كلهم من أجل انتخاب خليفة عرفوا أحكام الشرع وعرفوا أن محمدا من قريش ، وأن الأئمة من قريش ، وعرفوا الأحكام الواردة في أهل بيت النبوة ، وشهدوا تنصيب الولي والخليفة من بعد النبي في غدير خم وأوصاهم النبي بعلي وبأهل بيته وخاطبهم مجتمعين ذات مرة قائلا لهم : يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده أبدا ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هذا علي فأحبوه بحبي وأكرموه بكرامتي فإن جبريل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز وجل ( 1 ) .
فكيف ينسون هذا النص أو يتناسونه جميعا ؟
كيف ينسون قضية التنصيب ، وما هي علاقتهم بشعار " لا ينبغي أن يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة " ، فهم ليسوا من قريش ولا مصلحة لهم بإبعاد آل محمد ، كيف ينسون قوله ( ص ) عن علي : إنه وليكم بعدي ، وإنه مولى
( 1 ) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد ج 9 ص 170 تحقيق أبي الفضل وحلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 63
ومجمع الزوائد ج 9 ص 132 وكفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 210 وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 313
وكنز العمال ج 15 ص 126 والرياض النضرة للطبري ج 2 ص 233 وفضائل الخمسة ج 2 ص 98
ومطالب السؤول لابن طلحة ج 1 ص 60 وفرائد السمطين ج 1 ص 197 ح 154 . ( * )
كل مؤمن ومؤمنة بعده . . . الخ ، ما هي مصلحتهم بتجاهل هذه النصوص الواضحة القاطعة وأمثالها ؟
فالأنصار لم تجتمع لاختيار خليفة منها ، وهذا أمر عسير تصديقه بكل الموازين لأن الأنصار يعرفون الولي ويعرفون الخليفة ، بدليل أنهم وفي غياب علي وعندما أدركوا أن الأمر سيفلت من أيديهم قالوا : " لا نبايع إلا عليا " ، وفي رواية قال بعض الأنصار : " لا نبايع إلا عليا " ( 1 ) .
مما يدل على أن بعض الموجودين أرادوا مبايعة غيره إن صدقت الرواية الثانية ، لكن من المؤكد أن إحدى الروايتين صادقة ، وعندما غلب الأنصار على أمرهم وراجعتهم فاطمة الزهراء عليها السلام طالبة النصرة فكانوا يقولون لها : يا بنت رسول الله - قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول علي كرم الله وجهه : أفكنت أدع رسول الله ( ص ) في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانة ؟ فتقول فاطمة : ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي له ولقد صنعوا ما الله حسيبهم ومطالبهم ( 2 ) .
وبشير بن سعد - الذي خرج عن إجماع الأنصار وكان أول من بايع أبا بكر - لما سمع حجة الإمام واحتجاجه قال مخاطبا عليا : " لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان " ( 3 ) .
من كان هذا تفكيرهم لا يعقل أن يعقدوا اجتماعا بقصد انتخاب خليفة للنبي في غياب الولي الذي نصبه النبي وليا لهم من بعده أمام أعينهم في غدير خم وقدموا بأنفسهم له التهاني ، وسمعوا النبي مرات ومرات وهو يقول لهم : إنه وليكم من بعدي ، وإنه مولى كل مؤمن ومؤمنة بعدي .
ثم إن سعد بن عبادة الصحابي الجليل وسيد الخزرج وصاحب المواقف التي لا تعرف المهادنة أكبر من أن يقبل الخلافة من بعده في وجود الولي وأهل بيته وشيوخ
( 1 ) راجع على سبيل المثال ج 3 ص 198 والإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 8 وشرح النهج لابن أبي الحديد ج 2 ص 266 .
( 2 ) راجع الإمامة والسياسة ص 12 .
( 3 ) الإمامة والسياسة ص 12 و ص 8 . ( * )
المهاجرين ، ثم إنه كان مريضا بالإجماع ولا يقوى على النهوض ، ولو كان قادرا على النهوض لما ترك وليه ونبيه دون أن يلقي عليه نظرة الوداع .
ومن المؤكد أن منزل سعد ملتصق بهذا المكان حيث حملوه فأدخلوه داره كما يروي ابن قتيبة ، ومن الممكن أن هذه المجموعة من الأنصار كانوا من عواده وأخبروه بموت النبي ، وليس من المستبعد أن يكون قد جرى حوار هادئ بين المجتمعين ، ومن الممكن جدا أن يكون هذا الحوار قد تناول عصر ما بعد النبي ( ص ) .
دخول المهاجرين الثلاثة أخذ الاجتماع طابعا خاصا بدخول المهاجرين الثلاثة ومن الطبيعي أن الحديث سينقطع بعد دخول هؤلاء المهاجرين ، من الذي بدأ الحديث ؟ من الذي فتح المناقشة بعد دخولهم ؟ لا أحد في الدنيا من أهل الملة يعرفه على وجه التحديد ، لكن الفاروق يتصور أن هؤلاء يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر ( 1 ) ، وأن الفاروق نفسه كان يتوقع قدوم جدد وانضمامهم إلى هذا الاجتماع . وأقبلت أسلم بجماعتها حتى تضايق بهم السكك فبايعوا أبا بكر فكان عمر يقول : " ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر " ( 2 ) بمعنى أنه يعلم اسم مؤيده سلفا .
وأسلم بطن كبير من بطون الأنصار كثير العدد كما يبدو ، ومع هذا لم يكونوا في الاجتماع هذا ، مما يؤكد أن اجتماع الأنصار لم يكن له طابع سياسي أبدا ، ثم قول الفاروق : " فأيقنت بالنصر " النصر على من ؟ والنصر بماذا ؟ وكل هذا يؤكد المهمة الترجيحية التي فرضت على الأنصار بالمعنى الذي نوهنا عنه آنفا .
الغاية من قدوم المهاجرين الثلاثة كان الهدف من ذهاب المهاجرين الثلاثة إلى الأنصار هو بالتحديد تنصيب خليفة للنبي وذلك بغياب قريش كلها ، فرأي قريش هو عينه رأي الثلاثة ، وهو ينصب بالدرجة الأولى والأخيرة على عدم تمكين الهاشميين من الجمع بين الخلافة والنبوة ،
( 1 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 201 - 218 . ( 2 ) الطبري ج 3 ص 222 . ( * )
وبهذه الحالة فلا داعي لوجود قريش لأنها ممثلة بهؤلاء الثالثة أو على الأقل ممثلة بعمر المؤمن إيمانا تاما بهذه المقولة ، والغاية أيضا أن يجري تنصيب الخليفة في غياب العترة الطاهرة كلها وخاصة عميدها علي بن أبي طالب ، لأنه إن حضرت العترة الطاهرة أو حضر العميد تتغير حتما النتائج ويقيم الحجة عليهم ويقنع الأنصار .
فإذا غابت العترة الطاهرة وغاب عميدها ، فمن المؤكد أن الجو سيصفو لهم ويتمكنوا من تعيين أحدهم خليفة ، فيبايعه مؤيدوهم من الأنصار ، وإذا بايع أناس من الأوس فبالضرورة ستبايع الخزرج حتى تتقاسم المجموعتان هذا الشرف . وعندما يتم ذلك تواجه العترة الطاهرة ويواجه عميدها بمرجع وهو بيعة الأنصار ، وإذا بايعت الأنصار فلن ترجع عن بيعتها .
وأي مواجهة من العميد أو من العترة لن تكون بين علي وأبي بكر أو بين علي وعمر ، أو بين علي وأبي عبيدة كأشخاص ، إنما تكون مواجهة بين خليفة حاكم وأحد رعاياه أو بين أحد نائبي الخليفة وأحد الرعايا المحكومين للدولة ، وهي مواجهة معروفة النتائج .
فبمواجهة منطقية متكافئة لا قدرة للفاروق على الولي ، لأن الولي باب الحكمة اللدنية ، وبمواجهة متكافئة بين الفاروق والولي فإن الولي سيحسمها على مستوى القوة ، لأن أفعال الفاروق بالقتال ليست كأفعال الولي ، ففي معركة الخندق مثلا نادى عمرو بن ود حتى بح صوته والصحابة ومنهم الفاروق يسمعون ولم يقوى على التصدي إلا الولي .
لكن عندما يكون الفاروق نائبا للخليفة فلا داعي ليواجه الولي بنفسه إنما يرسل له سرية مجتمعة وتجر الولي إلى الفاروق جرا كما حدث فعلا .
والوقت الذي اختاره الثلاثة لتنصيب الخليفة ملائم جدا لهدفهم ، وهو وقت تجهيز النبي والإعداد لمواراته في ضريحه ، وهذا هو الوقت المثالي لتنصيب الخليفة في غياب العترة الطاهرة وغياب عميدها ، فهم منصرفون بكليتهم إلى مصابهم وذاهلون حتى عن أنفسهم بهذه الفاجعة الأليمة ، بل إن المسلمين أنفسهم في حالة ذهول وبالتالي هذا هو الوقت المناسب لتنصيب خليفة بالصورة التي تتمناها بطون قريش .
ثم إن اختيار الأنصار بالذات للترجيح اختيار موفق ودقيق ، فغاية بطون قريش أن لا يجمع الهاشميون الخلافة مع النبوة ، وهذه البطون لا تحفظ لها على أي شخص
إذا لم يكن هاشميا ، فمعارضة قريش غير واردة ، فأول من بايع الخليفة هو عثمان الأموي ومن معه من بني أمية ، ثم سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف ومن معهما من بني زهرة ( 1 ) .
ولفهم دقة الاختيار لو أن قريش كلها بايعت أبا بكر ولم يبايعه الأنصار لما كان لبيعة قريش أدنى قيمة واقعية ولأمكن الإمام في ما بعد أن يقيم الحجة على قريش وأن ترجح كفته بالأنصار .
ومن هنا فلا معنى لتحضير قريش لأنها فريق والثلاثة يقومون مقامها ويحققون أهدافها .
وهكذا ولأول مرة في التاريخ بقيت العترة الطاهرة خاصة والهاشميون عامة بدون مرجح واقعي يضمن لهم الفوز على بطون قريش ، بعد أن تمكن الثلاثة من الانفراد بالأنصار والتعبير عن ضمير البطون القرشية ، واستبعاد الهاشميين بالكامل عن الخلافة والولاية والأعمال فيما بعد .
ومن هنا نفهم سر أسلوب عمر بأخذ بيعة المهاجرين والعترة الطاهرة وعميدها بعد خروج الثلاثة من السقيفة : كان الناس في المسجد الشريف مجتمعين ، فلما أقبل عليهم أبو بكر وأبو عبيدة وقد بايع الأنصار أبا بكر ، قال لهم عمر : ما لي أراكم مجتمعين حلقا شتى ، قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعته وبايعه الأنصار .
فقام عثمان ومن معه من بني أمية فبايعوا وقام سعد و عبد الرحمن ومن معهما من بني زهرة فبايعوا .
وأما علي والعباس بن عبد المطلب ومن معهم من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم ومعهم الزبير بن العوام ، فذهب إليهم عمر في عصابة ، فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبا بكر ، فأبوا . . . . . .
أنظر إلى لهجة الفاروق وأسلوبه بأخذ البيعة . . . . . .
في السقيفة : الجالسون في السقيفة مجرد جماعة من جماعات الأنصار وليسوا كل الأنصار ولا نصفهم ولا ثلثهم ولا ربعهم ولا حتى عشرهم ، لأن الأكثرية الساحقة من سكان المدينة من الأنصار ، والقسم الأكبر منهم كان في بيت النبي أو حوله بالعقل
( 1 ) راجع على سبيل المثال الإمامة والسياسة لابن قتيبة ص 11 ( * )
والضرورة وحتى الذين شاهدوا سعد بن عبادة ومن حوله لم ينضموا إليهم " الرجلان الصالحان " اللذان شهدا بدرا وهما عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة برواية للطبري ، وبرواية أخرى عويم بن ساعدة ومعن بن عدي ( 1 ) ، فلو كان اجتماعا للأنصار لما تركاه ، ثم إن أسلم " التي أقبلت بجماعتها حتى تضايق بهم السلك " لم تكن موجودة ويبدو أن عمر كان يتوقع قدومها وموقن من تأييدها بدليل قوله : " ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت النصر " ، هؤلاء جاءوا بعد المبايعة مما يدل على أن موضوع اختيار الخليفة من بعد النبي ولد بقدوم المهاجرين الثلاثة وفرضه المهاجرون الثلاثة .
لأن الذي جاء بخبر اجتماع الأنصار ما زال مجهولا للآن ولا يعلم به أحد ، ولأن الذي فتح المناظرة بعد قدوم المهاجرين الثلاثة ما زال مجهولا ، فعندما يدخل هؤلاء المهاجرون لا بد أن يطرحوا السلام ولا بد من تكلم بعد طرح السلام . فمن هو هذا المتكلم الذي فتح المناظرة ؟ إنه تماما كالذي جاء بخبر اجتماع الأنصار وما زال مجهولا ، مع أن الذين لهم أدوار أقل من دور ناقل خبر الاجتماع ومن دور فتح باب المناظرة عرفوا . كل هذا يؤكد أن هنالك مقاطع من الحقيقة مقصوصة ، وجوانب من الروايات مبتورة بالرغم من تعدد الروايات وتعدد الرواة .
والحقيقة أن قصة اجتماع السقيفة صيغت وأرخت تحت إشراف مؤيدي الفاروق والصديق ، وتم تناول القصة وطرحها بالطريقة التي لا تثير حفيظة الحكام ولا تستفز المؤيدين والتي تصور هؤلاء الثلاثة كرواد وكأبطال لقصة تاريخية ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال تعدد الروايات ومضامين هذه الروايات وتناقضها مع بعضها أحيانا فما قاله " الصالحان البدريان " ورد مضمونه بروايتين متناقضتين مثلا ( 2 ) .
وسعد بن عبادة يصور في رواية كطالب للخلافة ومنافس عنيد للثلاثة يثير غضب الجموع وتوشك أن تقتله بل ويقال : اقتلوه قتله الله ( 3 ) ، ويصور في رواية ثانية كرجل أقام الفاروق عليه الحجة فسكن واقتنع وبايع ( 4 ) ، ولا ترى تمردا من الحباب أو من غيره ، لأن الأمور استقرت في
( 1 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 205 - 206 .
( 2 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 205 . ( 3 ) الإمامة والسياسة ص 10 .
( 4 ) تاريخ الطبري ج 3 ص 203 . ( * )
مكانها الصحيح . . . . . . الخ .
أعظم ثروة فكرية إنسانية لو أن المهاجرين الثلاثة شاركوا العترة الطاهرة والمسلمين في تجهيز النبي لمواراته في ضريحه المقدس وبعد مواراته اتجهت جموع المشيعين إلى المسجد فأدت الصلاة المفروضة بإمامة مولى الثلاثة ومولى كل مؤمن ومؤمنة باعتراف الثلاثة ، وبعد أن فرغت من صلاتها قام كل واحد من هؤلاء الثلاثة فتكلم بما يحلو له ، ويبين تصوره وطرح فكره ، وأتيحت الفرصة ليقول كل ذي رأي رأيه .
وبعد ذلك قام الولي ببيان رأيه وحكم الشرع في كل الآراء المطروحة باعتباره هو الهادي بنص الشرع ، وهو المبين للأمة بعد النبي كل أمر تختلف عليه بنص الشرع ، والأنصار وجموع المسلمين يسمعون كل ذلك ويعونه ويقومون بدور المرجح ثم يبايعون الإمام الذي أرادهم الله بالنص أن يبايعوه ، لو حدث ذلك لكانت ثمرة هذه المناظرة أعظم ثروة فكرية إنسانية على الاطلاق ولتغير مجرى التاريخ تماما ، ولأمكن تطبيق النظام السياسي الإسلامي الذي أنزله الله على عبده ، ولأمكن من خلاله انتشال الجنس البشري كله وتكوين الدولة العالمية التي تحكم الكرة الأرضية وفق أحكام الشرع .
تلك أمنية ، ما تحققت لأننا تركنا النص واجتهدنا ، وأمة تترك النصوص الشرعية وتعمل باجتهادها أمة هالكة لا محالة وذائقة وبال أمرها جزاء وفاقا لتبديلها نعمة الله وهدايته وتأويلها للواضحات من أوامر الله لا لشئ إلا ليتوافق هذا التأويل مع ما تهوى الأنفس .
الحجج الشرعية لأطراف السقيفة عاجلا أم آجلا سيكتشف الباحثون أن لقاء جماعة من الأنصار مع سعد بن عبادة هو لقاء عادي من كل الوجوه ، وليس له أي طابع سياسي ، وإن جرى فيه حديث سياسي فما هو إلا مجرد تبادل بوجهات النظر بين أناس اجتمعوا عند مريض .
لكن الذي أعطى لقاء هذه الجماعة هذا الطابع السياسي والتأسيسي هو قدوم المهاجرين الثلاثة ، لقد حوله هؤلاء المهاجرون إلى لقاء سياسي وتأسيسي اتخذوه أساسا لتنصيب الخليفة من بعد النبي بالصورة التي أرادوها .
وطالما أن هذا اللقاء
أصبح سياسيا وتأسيسيا فما هي الحجج الشرعية التي طرحت فيه ، حتى فاز بموجبها من فاز ؟ .
حجة المتواجدين من الأنصار لم تكن غاية المتواجدين من الأنصار أن ينصبوا خليفة منهم كما يحلو للرواة التركيز على ذلك ، لأن كل الأنصار تعلم أن الخلافة ليست فيهم ومن غير الوارد أن يبدلوا جميعا عهد الله وعهد رسوله والنبي لم يدفن بعد .
وهم يعلمون أيضا أن النبي قد نصب الولي من بعده ، وأن التهاني قد قدمت لهذا الولي حال حياة النبي ( ص ) وكل مسلم على الاطلاق بما فيه الثلاثة يعلمون أن عليا مولى المؤمنين ووليهم مجتمعين من بعد النبي ومولى وولي كل مؤمن ومؤمنة على انفراد بما فيهم الثلاثة المهاجرين .
وبالتالي وحيث أن المتواجدين لا غاية لهم ولا مطمع بتنصيب خليفة منهم ولم يطرح ذلك أصلا قبل حضور الثلاثة فمن الطبيعي أن لا تكون لهم حجة بذلك ، والحجج المنسوبة إليهم لا تخلو من روح المواءمة والتسوية ومن مستلزمات إخراج القصة وتتويج أبطالها ، وتبرير ما فعلوه ، ثم تداولت الأمة هذه القصة تحت إشراف الأبطال وبالكيفية التي أقروها وتداولتها وسائل الإعلام الرسمية ، وأهملت الروايات المتناقضة معها ثم أخذتها الأجيال اللاحقة كحقيقة مكرسة رسميا وشعبيا ونفرت واستنكرت من كل ما يعيبها باعتباره خارجا على إجماع الأمة .
غاية المهاجرين الثلاثة المقاصد الحقيقية للثلاثة هي : أن ينصبوا خليفة من بعد النبي ، وبهذا الوقت بالذات وفي غياب العترة الطاهرة ، وأثناء انشغال الجميع بتجهيز النبي ودفنه ، وأن يحصلوا على بيعة من حضر ، فإذا بايعهم أناس من الأوس ، فبالضرورة سيبايع الحاضرون من الخزرج حتى لا ينال الأوس الشرف وحده .
وتصبح للمبايعين مصلحة بتثبيت الخليفة الجديد ، فيخرج من يبايعه الحاضرون كخليفة ، ويخرج المهاجران الاثنان كنائبين للخليفة وخلف الثلاثة يسير الذين بايعوا الخليفة كجيش له يأتمر بأمره ، ومن يتصدى لمن بايعوه أو يعارضه فإنه لا يعارض شخصا عاديا ، إنما يعارض خليفة النبي ، ويخرج
عن طاعة ولي أمرها ، ومن يفعل ذلك فلا غضاضة على الخليفة لو قتله حتى قتلا باعتباره خارجا على الجماعة وشاقا لعصا الطاعة ، وطامع بالسلطة وحريص عليها وموقف الشرع واضح : " لا نولي هذا الأمر من طلبه . . . . . . الخ " وهذا ما حدث بالضبط .
ما هي الحجة الشرعية لهؤلاء الثلاثة بماذا احتج هؤلاء الثلاثة حتى أعطتهم الأنصار المقادة ؟
وهل كانت حجتهم شرعية فعلا ؟ بمعنى أن لها وجودا في الشرع ؟
احتج أبو بكر وعمر بالقرابة من النبي وأن أقارب النبي هم أولى بسلطانه .
ملخص حجة أبي بكر التي احتج بها على من حضر من الأنصار قال أبو بكر : " فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ، والناس تبع لنا ، ونحن عشيرة رسول الله ، ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابا ليست قبيلة من قبائل العرب إلا ولقريش فيها ولادة " .
ملخص حجة عمر التي احتج بها على من حضر من الأنصار " إنه والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبيها من غيركم ، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيها وأولو الأمر منهم ، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين ، من ينازعنا سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم ، أو متورط في هلكة " ( 1 ) .
جواب الأنصار قالت الأنصار : " لا نبايع إلا عليا " . قال بعض الأنصار : " لا نبايع إلا عليا " ( 2 ) حدث هذا وعلي غائب بإجماع الأمة ، فكيف لو كان حاضرا
( 1 ) راجع فيما تقدم على سبيل المثال الإمامة والسياسة ص 6 .
( 2 ) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 198 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن أبي الحديد ج 2 ص 265 . ( * )
لهذا الاجتماع ؟ .