ومنها : ما يدل على أن ترك المعوذتين شاع في أوساط من المسلمين حتى كانوا يسخرونممن يعتقد أنهما من القرآن ويقرأ بهما في صلاته ! وهذا أمر أكبر من تأثير ابن مسعود، وهو عادة لا يحدث بدون عمل من السلطة مؤثر على الناس !
قال أحمد في مسنده ج 1ص 282 ( حنظلة السدوسي قال قلت لعكرمة : إني أقرأ في صلاة المغرب بقل أعوذ بربالفلق وقل أعوذ برب الناس وإن ناساً يعيبون ذلك عليَّ!! فقال وما بأس بذلك ،إقرأهما فإنهما من القرآن ! )
وينبغي أن نتذكر هنا أن عكرمة هو عبد لابن عباس الهاشمي ومنه أخذ ثقافتهالقرآنية ، وإن صار فيما بعد من الخوارج .
ومنها : أنه رويت عن ابن مسعود رواية أو أكثر في فضل سورتي المعوذتين ، فهيتناقض رواية أنه أنكرهما ..
ففي كنز العمال ج 1 ص 601 ( استكثروا من السورتينيبلغكم الله بهما في الآخرة : المعوذتين ينوران القبر ويطردان الشيطانويزيدان
في الحسنات والدرجات ويثقلان الميزان ويدلان صاحبهما الى الجنة ـالديلمي عن ابن مسعود ) .
ومنها : أن تهمة حذف المعوذتين لم تقتصر على ابن مسعود ، فقد تظافرت الرواياتعلى أن أبيّ بن كعب اتخذ موقفاً محايداً فلا هو خطأ ابن مسعود في حذفهما ولا هو شهدبأنهما من القرآن !
والحياد أمام نفي شئ من القرآن نفي لقرآنيته ، وشهادة بعدموجود دليل على أنه من القرآن !!
روى أحمد في مسنده ج 5 ص 129 ( عن زر بن حبيش قال قلت لأبي بن كعب: إن ابن مسعودكان لا يكتب المعوذتين في مصحفه ! فقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلمأخبرني أن جبريل عليه السلام قال له : قل أعوذ برب الفلق فقلتها ، فقال قل أعوذ بربالناس فقلتها . فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم !! ) ورواه الهيثمي فيمجمع الزوائد ج 7 ص 149 وقال ( رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح ) !
وروى البيهقي في سننه ج2 ص394 عن أبي بن كعب قال ( سألت رسول الله صلى اللهعليه وسلم عن المعوذتين فقال قيل لي فقلت . فنحن نقول كما قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم ... زر بن حبيش يقول سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقلت يا بالمنذر إنأخاك ابن مسعود يحكهما من المصحف؟ قال إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقيل لي فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قال ابن حجرفي لسان الميزان ج 3 ص 81 ( واختلف على أبي بن كعب في إثبات المعوذتين ) انتهى .
ومعنى كلام أبي ابن كعب كما تدعي هذه الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله لميصرح بأن المعوذتين سورتان من القرآن ، بل قال : قال لي جبرئيل : قل أعوذ برب الفلق ... قل أعوذ برب الناس .. !!
فلم ينص النبي على أنهما سورتان ولو قال إنهما من قول جبرئيل ، فقد يكون جبرئيلعلمه إياهما ليعوذ بهما الحسنين فقط ، وليس لتكونا جزء من القرآن !!
هذه الأمور وغيرها .. تدفع الباحث الى القول بأن جوا سياسيا معينا كان يستنكرعلى الناس ويعيب عليهم قراءة المعوذتين في الصلاة !!
وهو المسؤول عن نسبة هذهالروايات الى ابن مسعود وابن كعب .
وبسبب ذلك ذهب بعض الباحثين الى تكذيب نسبةهذا الرأي الى ابن مسعود مثل الفخر الرازي والباقلاني وابن حزم ..
قال السيوطيفي الإتقان ج 1 ص 227 عن عدد السور ( وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة لأنه لميكتب المعوذتين ! وفي مصحف أبي ست عشرة لأنه كتب قط آخره ( سورتي ) الحفد والخلع ! ) . وأورد في ص 270 دفاع الفخر الرازي والقاضي أبي بكر والنووي وابن حزم عن ابنمسعود ، ولكنه رجح كلام ابن حجر في شرح البخاري بأنه قد صح ذلك عن ابن مسعود ، فلايمكن إنكاره ..
البخاري ومقف التشكيك العجيب !!
أمام هذه التشكيكات في المعوذتين في مصادر إخواننا السنة؟؟؟ ، يبقى عندهم عدد منالروايات التي تثبت جزئيتهما من القرآن الكريم ، وعمدتها ما رووه عن عقبة بن عامرالجهني كما في مسلم ج 2 ص 200 فقال ( عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى اللهعليه وسلم : ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط ، قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذبرب الناس . ... عن عقبة بن عامر قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنزلأو أنزلت عليَّ آيات لم ير مثلهن قط المعوذتين . وحدثناه أبوبكر بن أبي شيبة حدثناوكيع ح ، وحدثني محمد بن رافع حدثنا أبوأسامة كلاهما عن إسماعيل بهذا الإسناد مثله ) .
ورواها الترمذي ج 5 ص 122 وج 4 ص 244 وقال في الموردين ( هذا حديث حسن صحيح ) ثمروى عن عقبة ( أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كلصلاة . وقال هذا حديث حسن غريب ) . ثم كرر رواية ابن كعب . ورواه البيهقي في سننه ج 2 ص 394 .
وقال الشافعي في كتاب الأم ج 7 ص 199 ( أخبرنا وكيع ، عن سفيان الثوري ، عن أبيإسحق ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : رأيت عبد الله يحك المعوذتين من المصحف ويقوللا تخلطوا به ما ليس منه ـ ثم قال عبد الرحمن ـ وهم يروون عن النبي صلى الله عليهوسلم أنه قرأ بهما في صلاة الصبح وهما مكتوبتان في المصحف الذي جمع على عهد أبي بكرثم كان عند عمر ثم عند حفصة ثم جمع عثمان عليه الناس ، وهما من كتاب الله عز وجل ،وأنا أحب أن أقرأ بهما في صلاتي ) .
وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ج 7 ص 148 عدةروايات في إثبات أن المعوذتين من القرآن .
أما البخاري فقد اختار أن يقف في صف المشككين في المعوذتين !
فقد كان روىرواية عقبة في تاريخه الكبير ج 3 ص 353 ثم تراجع عن روايتها في صحيحه ، فلم يرو إلاروايات أبي ابن كعب المتزلزلة المشككة !
مع أنه عقد في صحيحه عنوانين للمعوذتينلكن اكتفى بروايات التشكيك دون غيرها !
وقد ألف تاريخه قبل صحيحه كما في تذكرةالحفاظ ج 2 ص 555 !!
قال في صحيحه ج6 ص96 ( سورة قل أعوذ برب الفلق... عن زر بنحبيش قال سألت أبيَّ بن كعب عن المعوذتين فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال قيل لي فقلت . فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... سورة قلأعوذ برب الناس ... وحدثنا عاصم عن زر قال سألت أبيَّ بن كعب قلت أبا المنذر إنأخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا . فقال أبيّ : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلمفقال لي قيل لي فقلت ، قال فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) انتهى،
فيكون البخاري متوقفاً في أنهما من القرآن لعدم ثبوت دليل على ذلك عنده !!
ومن طريف ما تقرأ في إرشاد الساري في شرح البخاري ج 7 ص 442 قول القسطلاني ( وقعالخلاف في قرآنيتهما ثم ارتفع الخلاف ووقع الإجماع عليه ، فلو أنكر أحد قرآنيتهماكفر ) انتهى .
وقد تضمن كلامه فتوى بتبرئة الذين خالفوا إجماع الصحابة من الماضين ، وتكفير منخالف إجماعهم ممن بعدهم ..
ولا نظن إخواننا السنة يلتزمون بذلك !
وتضمن فتوى أخرى بكفر منكر قرآنية المعوذتين من بعد الصحابة وكأن ذلك مما أجمععليه الفقهاء .. ولم يذكر حكم من شك فيهما كالبخاري الذي اقتصر على نقل رواياتالتشكيك ، وتجاهل روايات جزئيتهما من القرآن ولم يعتمدها في صحيحه !!
موقف أهل بيت النبي عليهم السلام وشيعتهم من المعوذتين :
لا يوجد في مصادرنا الشيعية أثر لسورتي الخلع والحفد .. كما لا توجد ذرة غبارعلى أن المعوذتين جزء من القرآن ، بل كان موقف الأئمة من أهل بيت النبي صلى اللهعليه وآله التأكيد على قرآنيتهما .. روى الشيخ الطوسي في تهذيب الأحكام ج 2 ص96 ( .. عن سيف بن عميرة عن منصور بن حازم قال : أمرني أبو عبدالله عليه السلام أن أقرأالمعوذتين في المكتوبة ) .
وروى الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 4 ص 786 ( عنأبي عبدالله عليه السلام أنه سئل عن المعوذتين أهما من القرآن ؟ فقال : هما منالقرآن . فقال الرجل : إنهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ولا في مصحفه . فقال أبو عبد الله: أخطأ ابن مسعود ، أو قال كذب ابن مسعود ، وهما من القرآن . فقالالرجل : فأقرأ بهما في المكتوبة ؟ فقال نعم ) انتهى .
- وقال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة في فقه العترة الطاهرة ج 8 ص 230 :
( الثانية : أجمع علماؤنا وأكثر العامة على أن المعوذتين من القرآن العزيز وأنهيجوز القراءة بهما في الصلاة المفروضة ، وروى منصور بن حازم قال : أمرني أبوعبدالله عليه السلام أن أقرأ المعوذتين في المكتوبة . وعن صفوان الجمال في الصحيح ... قال في الذكرى : ونقل عن ابن مسعود أنهما ليستا من القرآن وإنما أنزلتا لتعويذالحسن والحسين عليهما السلام ! وخلافه انقرض ، واستقر الإجماع الآن من العامةوالخاصة على ذلك )
انتهى
تقديم الاخ الشيخ محمد العاملي.