الامام علي عليه السلام في كتب غير المسلمين
تختلف الكتابة في أي فكر أو عن أي شخص صعوبة وسهولة، بلحاظ ما يكتنفه الفكرمن عمق والشخص من غموض، فكيف عندما يصل الحديث إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام)؟
يقف الكاتب أمامه حائراً، لا لعدم معرفة حقيقته فحسب، بل لا يعرف من أين البداية والنهاية، فكيف وهو المصداق لقول رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم):
«ما عرفك إلا الله وأنا، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرف الله إلا أنا وأنت»(1).
وهنا يشهد به كل من كتب عنه حيث لم يصرح أحد بأنه أدرك حقيقة وكنه هذه الشخصية المباركة.
ومن هنا نجد الأدباء والعلماء والمؤرخين والمربين وغيرهم ـ على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم ـ يسبحون لعلهم يرجعون بدرّة من بحر علي بن أبي طالب(عليه السلام).
وسأقتصر في الحديث عما كتبه بعضهم من غير المسلمين.
***
ـ شخصية علي (عليه السلام)
كتب «سليمان كتاني» فقال: من ذلك المعدن الطيب، كفكفت شخصية الإمام مستكملة كل مقوماتها... شخصية برز العقل فيها السيد المطلق، فإذا هي منه كما هي الديمة من الغمام تستمطره فينهمر بها انسجاماً بانسجام(2).
ـ عبادة علي(عليه السلام)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام ):
إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار،
وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد،
وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار(3).
وعلّق عليه جورج جرداق بقوله: «إن عبادة الإمام ليست شيئاً من سلبية الخائف الهارب أو التاجر الراغب كما هي الحال عند الكثير من المتعبدين، بل هي شيء من إيجابية الإنسان العظيم الواعي نفسه والكون على أساس من خبرة المجرب وعقل الحكيم وقلب الشاعر(4).
ثم يقول هذا ليس لنفسه فقط، بل عمد إلى توجيه الناس إلى أن يتقوا الله في سبيل الخير الإنساني العام(5).
ولسليمان كتاني كلام في هذا المضمار فيقول: التقوى والإيمان شعوران صميمان ومنبعان صافيان، غارا في جناحه واندفقا على لسانه، فإذ أصحابه على نصب الكعبة حسام ومن ورعه(6) قبلة للإسلام(7).
***
ـ علم علي(عليه السلام):
«ها إن ههنا لعلماً جماً لو أصبت له حملة»(8).
ولم يصب الحملة لا لأنهم كلهم أميون، بل العلماء لم يقدروا على أن يحملوا جزءاً من أسرار ومخزون علم علي.
وقد قال جورج جرداق: «علي بن أبي طالب(عليه السلام) فذ من أفذاذ العقل، وهو بذلك قطب الإسلام وموسوعة المعارف العربية، ليس من علم عربي إلا وقد وضع أصله أو ساهم في وضعه»(9).
ويقول أيضاً: "علي يتقن القرآن نصاً ويحياه جوهراً فيستقيم به لسانه كما يستقيم جنانه"(10).
وفي مجال الفقه، يقول: "ولم يقف علم علي بالفقه عند علمه بنصوصه وأحكامه بل تجاوزه إلى العلم بأدوات الفقه، ومنها علم الحساب الذي كانت معرفته فيه تفوق معرفة معاصريه"(11).
ويرى أن الحكمة بما هي نظر نافذ وعقل محيط وحس أصيل وقوة على الحصر والاستنباط والإيجاز ثم جهد دائب على ذلك جميعاً، إنما هي من آثار الإمام علي(عليه السلام)، فإن له في ذلك ما يجعل له مركزاً جليلاً بين حكماء الأمم وأفذاذ التاريخ... وقد كان لهذه الحكمة العلوية أبلغ الأثر في توجيه الثقافة الإسلامية وقد طبعها بطابع إنساني، مصدره في الدرجة الأولى اثنان: محمد بن عبد الله وعلي بن أبي طالب(عليه السلام)(12).
***
ـ عدالة علي(عليه السلام):
الحديث عن عدالة علي كحديثنا عن كفَّتَي الميزان حين تتوازيان، وإن طباعه وسلوكه عين العدل والمساواة ويشهد له القريب والبعيد.
والذي يدل على سلوكه ويكشف عن شخصيته ما جاء على لسانه بقوله: «فإن الحق لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تُزوّج به النساء وفُرّق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة. ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق»
(13).
يقول في هذا المضمار جورج جرداق: «إن إيمان علي بالعدالة الإجتماعية ليس ما يتيسر لجميع الناس من الإيمان، بل إنه موطد على دعائم من العقل الرجيح الذي لا تفوته خفايا الأمور ولا يطغى عليه عرف العصر والناس"
(14).
والحق والعدالة صفتان متلازمتان، وقلادتان فريدتان، وحجتان لامعتان.. وُشم بهما وجدانه وحلا بهما بيانه، وسن عليهما سنانه... فإذا القيم بين الحق والعدل تتلمس في معتقده تراثها(15).
ويرى جورج جرداق ما جاء في عهد علي إلى مالك الأشتر حين أوصاه «إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة!» هو موجز دستور علي في العدالة الاجتماعية(16).
***
ـ علي والحرية:
«لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً»(17).
هذا الإيمان الأصيل العميق بالحرية، تلقاه في الأسس التي قامت عليها مناهج علي في الحكومة والسياسة والإدارة(18)...
وإعلاءً منه لشأن الحرية والعمل الحر، اشترط ألا يجبر عامل على عمل، فالعمل الذي لا يواكبه الرضا الوجداني العميق فيه إساءة إلى الحرية ثم إلى العمل ذاته(19). ويقول: «ولست أرى أن أجبر أحداً على عمل يكرهه»
(20).
وفي مكان آخر يقول جرداق: «ويهزّك في ابن أبي طالب من اعترافه للناس بحريتهم أكثر من هذا، يهزك فيه هذا الانسجام بين سيرته في الناس وبين إيمانه بأن الحرية أصل إنساني لا يجوز فيه التأويل ولا يصح عنه الانحراف"(21).
***
ـ علي سيف على الظالم وترس خلفه المظلوم:
يقول علي(عليه السلام): «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه»
(22).
وهكذا حارب الظالمين بلسانه وسيفه وهو معتصم بذمته في ذلك، وظل يديل من أهل البغي حتى استشهد عظيماً، ولو قد استوت قدماه من مزالق دهره لغير أشياء وتيك آية ابن أبي طالب(عليه السلام)(23).
***
ـ الخلافة في قاموس علي(عليه السلام):
«قلوب الرعية خزائن راعيها، فما أودعها من عدل أو جور وجده فيها»
(24).
إن الرسالة التي قدمها النبي(صلى الله عليه واله وسلم) لم يكن هو أخف منه شأناً فيها فإنه والنبي أبواها.
ولم تكن الخلافة لتغريه بالرئاسة، فإنه لم يطلب يوماً مجد الدنيا وكنوزها، وكثيراً ما توفرت له فرفضها، ولكنه كان يتشدد في طلب الخلافة، لأنه كان يؤمن تمام الإيمان بنفسه، ولم يكن شديد الإيمان بغيره بأنه هو الذي يتمكن من صيانة أقدس وأجلّ ما أنتجه الفكر في سبيل خلق الإنسان العظيم الذي هو تراث الحياة العزيزة(25).
لم تكن الولاية في نظر ابن أبي طالب حقاً يوليه الله بشراً فيستأثر به ويدوم عليه ما شاء هو وما شاء له ذلك المتنفذون والأقربون، ولم تكن الولاية في نظره حسباً تشيد عليها الأمجاد، ولا شرفاً قديماً تبنى له العروش ويتوسل به إلى استعباد الناس، ولم تكن قهراً مادياً تخضع به الجماعات للسيف والنار وقطع الارزاق وهدر الدماء، ولا قهراً معنوياً تخضع به الجماعات للوالي بالترهيب أو الترغيب، ولم تكن الولاية استبداداً في الرأي بعد استتباب الأمر، ولم تكن الخلافة في مذهب ابن أبي طالب بُعداً عن الناس وانصرافاً عن الشعب ودنواً من الكبر واحتجاجاً عن النظر في الأموال العامة وحاجات الأفراد والجماعات، بل إنها سبب في تقريب الوالي من الناس وعطفه عليهم وتواضعه لهم، ثم انصراف تام إليهم لا عذر يقبل دونه ولا حجة. ولم تكن الولاية في مذهب ابن أبي طالب عصبية، لأن التعصب مذموم إلا إذا كان لمكارم الخصال والأخذ بالفضل والكف عن البغي وإنصاف الخلق واجتناب الفساد في الأرض. والولاية على كل حال، ليست في مذهب ابن أبي طالب لأولئك الذين يقول فيهم: لو وُلوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وقيصر. لذلك كله، لم يقبل علي بالخلافة إلا معتزماً أن يقيم حقاً ويزهق باطلاً وإلا فمفارقة الحياة أولى(26).
****
خاتمة:
إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، أن يأتيك حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي(عليه السلام)(27).
*****
الهوامش:
(1) إرشاد القلوب، ج2، ص209، ومناقب آل أبي طالب، ج3، ص267، وبحار الأنوار، ج15، ص 39 و84.
(2) محمد شاطئ وسحاب، سليمان كتاني، ص327، دار المرتضى.
(3) قصار الحكم، ص237، نهج البلاغة.
(4) الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج1، ص74.
(5) المصدر نفسه.
(6) ورعه: تقاه.
(7) محمد شاطئ وسحاب، سليمان كتاني، ص328.
(8) نهج البلاغة، قصار الحكم 147/7.
(9) الإمام علي صوت العدالة، ج1،ص97.
(10) المصدر نفسه، ج1، ص97.
(11) المصدر نفسه، ج1، ص102.
(12) المصدر نفسه، ج1، ص105.
(13) نهج البلاغة، الخطبة 15.
(14) علي وحقوق الإنسان، ج1، ص183.
(15) سليمان كتاني، ص 328.
(16) علي وحقوق الإنسان، ص 186، ج1.
(17) نهج البلاغة، الكتاب 31- 78.
(18) علي وحقوق الإنسان، ج1، ص 163.
(19) المصدر السابق، ج1، ص165.
(20) تاريخ العقوبي، 40، ص 152، أنساب الأشراف 240، ص390.
(21) علي وحقوق الإنسان، ص 173و174.
(22) نهج البلاغة، الخطبة 37 ـ 3
(23) أنساب الاشراف، ص 234.
(24) غرر الحكم، 6825، عيون الحكم والمواعظ، 370/6243.
(25) سليمان كتاني، محمد شاطئ وسحاب، ص 378.
(26) جورج جرداق، علي صوت العدالة الإنسانية، ج1،ص155 و156 و157 و158.
(27) ميخائيل نعيمة، مقدمة كتاب علي صوت العدالة الإنسانية، ص21.
****
لكم خالص دعائي