شيخ المتكلمين: أبو سهل النوبختي
كبير من أكابر البيت النوبختي، وعلم من أعلامهم، واحد من أشهر ما أنجبت هذه الأسرة الكريمة المحترمة، عنيت به أبا سهل إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت. كان واحداً من رؤساء الشيعة العظام ممن عاصر زمن الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عج)، وهو من مشاهير متكلميهم حيث كانت له إسهامات واضحة وأيادٍ سابغة في الفكر الكلامي الإمامي، لا بل في حفظ هذا المذهب وصونه عملياً من التفرقة والانقسام، هذا إضافة إلى إسهاماته النظرية في تشييد نظرية الإمامة والذب عنها في أحلك الظروف والمراحل التي مرّت بها في تاريخ التشيع.
ولادته: كانت ولادته سنة 237ه في عصر الإمام الهادي (220 254) وعندما توفي الإمام العسكري سنة 260ه كان له من العمر ثلاث وعشرون سنة، وأما وفاته فكانت سنة 311ه، وهو في الرابعة والسبعين من عمره أيام سفارة النائب الثالث للإمام المهدي (عج) الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي، فيكون أبو سهل قد أمضى إحدى وخمسين سنة من حياته في فترة الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عج).
.
أقوال العلماء فيه: نقف مع أقوال العلماء فيه من المؤالف والمخالف.
فصاحب لسان الميزان ابن حَجَر العسقلاني (ت 852ه) يقول في ترجمته: «إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت النوبختي... كان من وجوه المتكلمين من أهل الاعتزال، وذكره الطوسي في شيوخ المصنفين من الشيعة... وذكر له غيره أي غير الطوسي (كتاب الملل والنحل) كبير اعتمد عليه الشهرستاني في تصنيفه. أخذ عنه أبو عبد اللَّه النعمان المعروف بالمفيد شيخ الشيعة في زمانه وغيره»(1).
وقال ابن النديم في فهرسته: «أبو سهل إسماعيل بن علي بن نوبخت من كبار الشيعة، وكان أبو الحسن الناشئ(2) يقول: إنه أستاذه، وكان فاضلاً عالماً متكلماً، وله مجلس يحضره جماعة من المتكلمين»(3). وترجمه النجاشي بقوله: «كان شيخ المتكلمين من أصحابنا وغيرهم، له جلالته في الدنيا والدين، يجري مجرى الوزراء في جلالة الكتَّاب، صنف كتباً كثيرة»(4).
وقال الشيخ الطوسي في ترجمته: «كان شيخ المتكلمين من أصحابنا ببغداد ووجههم ومتقدم النوبختيين في زمانه، وصنف كتباً كثيرة»(5). ومن خلال ما تقدم من أقوال أولئك الأعلام في حق أبي سهل النوبختي نجد أن هناك اتفاقاً بينهم على عظيم منزلته العلمية والفكرية وبخاصة في الجانب الكلامي.
مكانته الاجتماعية: الظاهر أن أبا سهل كان يحتل مكانة اجتماعية كبيرة في عصره، فكما هو معروف فإن أبا سهل من أسرة بغدادية شيعية عريقة ومرموقة كانت تتمتع بنفوذ واسع في بغداد حاضرة الخلافة العباسية آنذاك ، وذلك لمنزلة هذه الأسرة العلمية الرسمية ولما كانت عليه من مكانة مالية تتمثل فيما كانت تملكه من عقارات وثروات، مما جعل الشيعة يتطلعون إليها ويعقدون عليها الآمال في الذب عنهم والرد على مخالفيهم، وخاصة في زمن الغيبة الصغرى حيث كانت هذه الفترة من أقسى الفترات التي واجهت التشيع وعلى مختلف الأصعدة، حيث كانت هناك ضغوطات من قبل السلطة الحاكمة وكذلك من قبل الفرق المخالفة من معتزلة وسنة وأهل حديث وغير هؤلاء بغية تقويض الكيان الشيعي، كل ذلك أدى إلى محنة عظيمة عصفت في البنيان الشيعي في ذلك الوقت. وعلى كل حال، فإن أبا سهل كان مقرباً من السلطة الحاكمة في زمانه، فمن الثابت أنه كانت له بعض الأعمال الإدارية، فقد سبق معنا ما ذكر النجاشي من أن أبا سهل كان بين الكتَّاب تالياً لمنصب الوزراء في الجلالة والحظوة، وقد كان يُكلَّف بإنجاز بعض الأعمال في الأمصار مبعوثاً من قبل رؤساء الدواوين، وكان له ذلك خاصةً في عهد الخليفة العباسي المقتدر (295 320ه)، وإضافة إلى ذلك كلِّه، فقد انتهت إلى أبي سهل وفي أواخر أيامه الزعامة المطلقة للطائفة الشيعية الإمامية في بغداد، وكانت له شوكته ومنزلته العلمية، فكان رئيس أسرته والموجه العام للإمامية. وانطلاقاً من ذلك عاش الواقع الشيعي نوعاً من الراحة والاطمئنان في أيامه، يدعمه في ذلك رجالات بني نوبخت الذين كان بعضهم ذا رئاسة واقتدار في بغداد كأبي الحسين بن عباس (244 324ه)، وأبي القاسم الحسين بن روح المتوفى سنة 326ه.
مكانته العلمية: لا شك أن شهرة أبي سهل النوبختي تعود إلى مكانته العلمية وبخاصة في علم الكلام(6).
وأما ما ادعاه ابن حجر من انتساب أبي سهل إلى مذهب الاعتزال، فأرى أنها من السقطات التي وقع بها ابن حجر كما وقع فيها غيره من أعلام السنّة عند ترجمتهم لبعض أعلامنا السابقين وذلك بنسبتهم إلى مذهب الاعتزال بادعاء ذهاب الشيعة مذهب الاعتزال فيما يتعلق بالأصول، وهذا ما أدى بالشيخ المفيد إلى وضع الشواخص المميزة للمذهب الشيعي عن غيره من المذاهب وخاصة الاعتزالي، وذلك من خلال أعماله الكلامية الرائدة في هذا المجال، وكيفما كان فقد استخدم أبو سهل علم الكلام وبذل جهوداً علمية كبيرة وصنف عدداً كبيراً من الكتب يدور موضوعها حول الإمامة، ووقف عمره على الدفاع عن عقائد الإمامية ورد الغلاة والواقفة وأهل السنّة، وقد أفلح من خلال ذلك بالوصول إلى نتائج مهمة على صعيد تثبيت الأصول الدينية للمذهب الشيعي والمحافظة عليها، ومن هنا خلد ذكره في هذا المذهب وأصبح جديراً بلقب «شيخ المتكلمين». ولعل كتبه وآراءه في موضوع الإمامة قد فاقت جميع مؤلفات المتكلمين المتقدمين عليه، ومن هنا أصبحت مرجعاً للمتكلمين الذين تلوه، وهذا من بركات الطلاب الكثُر الذين تخرجوا على يديه ونشروا كتبه وعقائده، هذا إضافة لما كان عليه من المنزلة العلمية والنفوذ والاعتبار.
ومن الملاحظ أن جميع المتكلمين الكبار من الإمامية في القرنين الرابع والخامس كالمفيد والمرتضى والطوسي وغيرهم، هم تلاميذ لأبي سهل النوبختي بواسطة واحدة أو بوسائط. ومن هنا، نجد آراءهم في موضوع الإمامة وغيره من المسائل الكلامية تشابه إلى حدٍّ ما آراء أبي سهل التي دوّنها في كتبه العديدة. إلى هذا ومع أن أبا سهل النوبختي هو تلميذ الرواد الأوائل للفكر الكلامي الشيعي الإمامي، وسليل أفكارهم وآرائهم التي ذب عنها ودافع عن صحتها ودوّنها في كتبه بعد التمحيص والتدقيق، إلا أنه وكما ذهب بعض الباحثين قد قام بعملين هامين ومميزين من أجل اكتمال علم الكلام على مذهب الإمامية:
أما الأول: فهو دفاعه عن العقائد التي كان قد دونها غيره من متكلمي الإمامية المتقدمين عليه بعد أن حظيت بتأييد الأئمة (ع)، يضاف إلى ذلك أنه دفع بعض التهم التي رمي بها عدد من متكلمي الطائفة الإمامية الأُوَل فيما يتعلق بالرؤية والتشبيه والتجسيم وغيرها، وهكذا تبنى وكالمعتزلة موقفاً مناصراً لاستحالة رؤية اللَّه تعالى و«حدوث العالم» ومخالفاً للمجبرة في باب المخلوقات و«الاستطاعة»، كما أنه نهج سبيل المعتزلة في باب «الإنسان» والرد على «أصحاب الصفات»، ومنذ ذلك الحين حدث تقارب فكري بين مذهبي الاعتزال والإمامية أكثر من أي وقت سابق، وربما يكون هذا هو الذي دعا ابن حجر العسقلاني إلى نسبة أبي سهل إلى الاعتزال.
وأما الثاني: فحاصله أن المتكلمين الشيعة قبل أبي سهل قد استدلوا على الإمامة وأثبتوها عبر الأدلة السمعية النقلية، بيد أن أبا سهل وبعض معاصريه ابن أخته أبا محمد الحسن بن موسى النوبختي، وأبا الأحوص داود بن أسد البصري كانوا أول من استخدم الأدلة العقلية في إثبات وجود الإمامة وبيان أوصافه وذلك تبعاً لأبي عيسى الورَّاق وابن الراوندي، وهذا العمل الذي قام به هؤلاء وتبعاً لهذا الباحث كان له دور في جعل الإمامة من أصول الدين عند الإمامية مثلها مثل التوحيد والعدل والنبوة، وإدخالها في المباحث الكلامية. وأبو سهل هو الذي ثبت ذلك، وجعله قطعياً، وقام بجمع الأدلة والاحتجاجات التي عرضها السبَّاقون في هذا المجال، وجعل مسألة الإمامة تابعة للنبوة من المسائل الكلامية لمذهب الإمامية.
(#) انظر: كتاب آل نوبخت، عباس إقبال الأشتياني، ترجمة، علي هاشم الأسدي، ص123 154.
(1) لسان الميزان، لابن حجر العسقلاني رقم الترجمة: 1319، ج1، ص424.
(2) أبو الحسن الناشئ (271 365ه) هو شاعر ومتكلم، مشهور بقصائده الكثيرة في أهل البيت (ع) وقال الطوسي إن له كتاباً في الإمامة.
انظر: جعفر السبحاني، بحوث في الملل والنحل، ج6، ص551 552.
(3) الفهرست لابن النديم، ص251.
(4) النجاشي، رجال النجاشي، ج1، ص121.
(5) الطوسي، الفهرست، رقم الترجمة 36، ص12.
(6) انظر: لسان الميزان، ج1، ص424، كذلك: الفهرست لابن النديم، ص251، وكذلك: رجال النجاشي، ج1، ص121 122، وكذلك فهرست الطوسي، ص221.