بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وفرجنا بهم يا كريم
الإستصحاب الإستقبالي
المراد من الإستصحاب الإستقبالي هو ما يكون فيه المتيقن فعلياً ويكون المشكوك استقبالياً، بمعنى ان يكون المكلَّف على يقين بشيء فعلا إلاّ انَّه يشك في استمراره فيما يُستقبل من الزمان، فهو وان كان يشترك مع الإستصحاب الاعتيادي في تأخر المشكوك على المتيقن إلا انَّ الإختلاف بينهما من جهة انَّ الحالة المألوفة هو فعلية متعلَّق الشك وماضوية متعلَّق اليقين، أما الاستصحاب الإستقبالي فإنَّ الحالة الفعليّة للمكلف هي اليقين بالشيء ويكون المشكوك متأخراً.
ومثاله مالو كان المكلَّف متيقناً بعجزه عن الوضوء الإختياري إلاّ انَّه يشك في استمرار هذا العجز فيما يُستقبل من الزمان، فاليقين والشك وان كانا فعليين - وكذلك متعلَّق اليقين وهو العجز فعلي أيضاً - إلاّ انَّ متعلَّق الشك وهو بقاء العجز استقبالي.
فهنا لو كنَّا نبني على جريان الإستصحاب فإنَّ مقتضاه هو البناء على بقاء العجز فيما يُستقبَل من الزمان.
وباتِّضاح ذلك نقول انَّ السيد الخوئي (رحمه الله) ذكر انَّه لم يجد من تعرَّض لهذا النحو من الإستصحاب إلاّ المحقق النائيني (رحمه الله) فإنَّه أشار إلى هذا النحو من الإستصحاب في المقدمات المفوتة ونقل عن صاحب الجواهر (رحمه الله) انَّه يرى عدم جريانه إلا انه لم ينقل المنشأ الذي حدى بصاحب الجواهر (رحمه الله) إلى القول بعدم جريانه.
ولعلَّ منشأه - كما أفاد السيد الخوئي (رحمه الله) - هو انَّ أكثر الروايات التي استدلَّ بها على حجية الإستصحاب تفترض فعلية المشكوك وتقدم المتيقن، كما في مضمرة زرارة (لانَّك كنت على يقين من طهارتك فشككت) إلا انَّه مع ذلك يمكن القول بحجية هذا الإستصحاب تمسكاً باطلاق الكبرى التي علَّل بها الامام جريان الإستصحاب وهي قوله (ع) (فإنَّ اليقين لا يُرفع بالشك) (
[1]) وقوله (ع) (وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك) (
[2]).
ومن هنا ذهب السيد الخوئي (رحمه الله) الى جريان الاستصحاب الإستقبالي على ان يكون الأثر الشرعي مترتباً عليه حين جريانه أي في حالة اليقين بالحادث وإرادة اسرائه لما يُستقبل من الزمان، لا أن يكون الأثر مترتباً على وجود الحادث في مستقبل الزمان، إذ انَّ المعتبر في جريان الإستصحاب هو كون الأثر الشرعي مترتباً حين إجراء الإستصحاب، وإجراء الإستصحاب في المقام هو زمان المتيقن.
مثلا: لو كان جواز البدار للعاجز في مثالنا السابق مترتباً على إحراز استمرار العجز لآخر الوقت فإنَّ استصحاب استمرار العجز - المتيقن فعلا - إلى آخر الوقت ينقِّح موضوع الأثر الشرعي وهو جواز البدار، أما لو لم يكن الأثر مترتباً حين إجراء الإستصحاب فإنَّ الإستصحاب لا يجري، فلو كنا على يقين فعلا من عدالة زيد ونشك في انَّ عدالته هل ستستمر إلى شهر أولاْ وكان هناك أثر مترتب على اتِّصافه بالعدالة في آخر الشهر وهي صحة الطلاق أمامه في ذلك الوقت مع افتراض عدم وجود أثر شرعي مترتب حين إجراء استصحاب استمرار العدالة المتيقنة فعلا فإنَّ هذا الإستصحاب لا يجري، إذ لا أثر مترتب حين إجرائه كما هو الفرض.
الإستصحاب التعليقي
ومجرى هذا الإستصحاب - لو تمت حجيته - هو الحكم لا الموضوع كما سيتضح ان شاء الله تعالى، ولأجل التعرُّف على موضوع البحث لابدَّ من تقديم مقدمة، وهي انَّ مناشئ الشك في بقاء الحكم ثلاثة:
الاول: ان يكون الشك من جهة بقاء الجعل والتشريع بعد إحرازه في مرحلة سابقة، وهذا النحو من الشك لا يُتصور إلاّ في حالة احتمال النسخ، ولا مبرِّر للشك في انتفاء الجعل إلاّ احتمال ان يكون المولى قد رفع الحكم بعد جعله، وهنا يجري استصحاب عدم النسخ، وتصوير معنى النسخ والبحث عن امكانه وهل يجري الإستصحاب في مورده أو لا ياتي في محلِّه ان شاء الله تعالى.
ومثاله مالو علم المكلَّف بحرمة أكل النجس ثم شك في بقاء هذه الحرمة، فهذا شك في نسخ الحرمة.
الثاني: ان يكون الشك من جهة بقاء الحكم الكلي المجعول أي الشك في بقاء الفعلية للحكم بعد ان كانت محرزة في مرحلة سابقة، وهذا النحو من الشك يُعبَّر عنه بالشبهة الحكمية وينشأ عن الشك سعة موضوع الحكم في مرحلة الجعل وضيقه.
ومثاله وجوب النفقة على الزوجة المطيعة، فقد يقع الشك في الوجوب بعد ان تصبح الزوجة غنية ومنشأ الشك هو الشك في سعة دائرة موضوع الوجوب، وهل ان موضوع الوجوب هو مطلق الزوجة المطيعة أو انَّ موضوعه هو خصوص الزوجة المطيعة الفقيرة.
وهنا يجري استصحاب وجوب النفقة على الزوجة ويُعبَّر عن هذا الإستصحاب باستصحاب الحكم التنجيزي، والمراد من الحكم التنجيزي هو الحكم المجعول أي البالغ مرتبة الفعلية بسبب تحقق تمام الموضوع المأخوذ حين الجعل.
فالزوجة حينما تكون مطيعة وفقيرة يكون وجوب النفقة ثابتاً لها على الزوج بلا ريب، أي انَّ وجوب النفقة يكون فعلياً وتنجيزياً وعندما ينتفي قيد الفقر عنها والذي نحتمل دخالته في موضوع وجوب النفقة يقع الشك في استمرار الوجوب التنجيزي الفعلي، وعندئذ يجري استصحابه أي استصحاب ذلك الحكم المنجَّز والفعلي بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.
الثالث: ان يكون منشأ الشك هو انتفاء خصوصية لو قُدِّر لها البقاء لاصبح الحكم فعلياً، وذلك لتحقق خصوصية كانت مفقودة حين وجود الخصوصية المنتفية فعلا أي في ظرف الشك، والخصوصية التي كانت منتفية وتحققت فعلا يُعلم بدخالتها في موضوع الحكم، وأما الخصوصية المنتفية فعلا والتي كانت موجودة فإنَّه لانقطع بدخالتها في موضوع الحكم إلاّ اننا نحتمل ذلك، وهذا الإحتمال هو الذي نشأ عنه الشك في تحقق الفعلية للحكم، إذ انَّ هذه الخصوصية لو كانت دخيلة في موضوع الحكم فإنَّ الحكم لا يكون فعلياً جزماً بسبب انتفائها.
وأما لو لم تكن دخيلة في موضوع الحكم فإن الحكم يكون فعلياً جزماً لافتراض تحقق الخصوصية التي نعلم بدخالتها.
وبتعبير آخر: لو كان لموضوع الحكم ثلاث خصوصيات، اثنتان منها يُحرز دخالتهما في موضوع الحكم وواحدة يُحتمل دخالتها في موضوع الحكم، فلو اتفق وجود الخصوصيات الثلاث فلا كلام، إذ الحكم يكون فعلياً بلا ريب، أما لو اتفق ان كانت احدى الخصوصيتين اللتين نعلم بدخالتهما في الحكم منتفية والمتحقق هو احدى الخصوصيتين منهما وكذلك الخصوصية الثالثة المحتمل دخالتها في الحكم، فعندئذ نستطيع ان نقول لو كانت الخصوصية المعلوم دخلها متحققة فعلا لاصبح الحكم فعلياً وهذا هو المعبَّر عنه بالحكم المعلَّق، فلو اتفق بعد ذلك ان تحققت الخصوصية المنتفية إلاّ انَّ الخصوصية الثالثة المحتمل دخالتها انتفت عن الموضوع قبل تحقق الخصوصية التي كانت منتفية، فهنا يقع الشك في بقاء الحكم المعلَّق الذي كان معلوماً قبل تحقق الخصوصية الثانية وقبل انتفاء الخصوصية الثالثة.
مثلا: لو كان وجوب النفقة مترتب على موضوع هو الزوجة المطيعة مع احتمال دخالة الفقر في موضوع الوجوب، وهنا نقول: لو اتفق ان كانت المرأة زوجة ومطيعة وفقيرة فهنا لا ريب في تحقق الفعلية للوجوب، أما لو اتفق ان كانت المرأة زوجة وفقيرة إلاّ انَّها لم تكن مطيعة، فهنا نستطيع ان نقول: انَّ هذه الزوجة لو كانت مطيعة لوجبت لها النفقة وهذا الوجوب يُعبَّر عنه بالحكم المعلَّق.
فلو اتفق ان تحققت الخصوصية الثانية المعلوم دخلها في الحكم وهي الطاعة إلاّ انه وقبل تحقق عنوان (المطيعة) انتفت الخصوصية الثالثة المحتمل دخلها وهو عنوان «الفقيرة)، فهنا يقع الشك في بقاء الحكم المعلَّق الذي كان معلوماً وهو (انَّ هذه الزوجة لو كانت مطيعة لوجبت لها النفقة)، ومنشأ الشك هو انتفاء الخصوصية الثالثة المحتمل دخالتها والتي كانت محرزة حين العلم بوجود الحكم المعلَّق، وحينئذ يقع البحث في امكان الإستصحاب، ولو أمكن إجراء الإستصحاب لكان منتجاً لإثبات بقاء الحكم المعلَّق، أي اثبات انَّ هذه الزوجة لو كانت مطيعة لوجبت لها النفقة.
وبهذا البيان اتضح الفرق بين الإستصحاب التنجيزي والاستصحاب التعليقي، وانَّ الاول عبارة عن استصحاب الفعلية التي لو كانت محرزة في مرحلة سابقة ثم طرأ الشك في بقائها بسبب انتفاء خصوصية كانت موجودة ونحتمل انها دخيلة في تحقق الفعلية سابقاً، وهذا يؤول روحاً إلى الشك في سعة دائرة موضوع الحكم.
وأما الإستصحاب التعليقي فهو عبارة عن استصحاب الحكم المعلَّق والذي لم يبلغ مرتبة الفعلية بسبب عدم تحقق أحد قيوده الذي لو قدِّر له ان تحقق سابقاً لأصبح الحكم حينها فعلياً، فالمستصحب في الاستصحاب التنجيزي هو الحكم الفعلي وأما المستصحب في الاستصحاب التعليقي فهو الحكم المعلَّق.
ومنشأ عروض الشك على بقاء الحكم المعلَّق هو انتفاء خصوصية كانت موجودة نحتمل دخالتها في موضوع الحكم وهذا الإنتفاء وقع قبل تحقق الخصوصية المعلوم دخالتها في موضوع الحكم، وهذا الشك يؤول روحاً إلى الشك في سعة دائرة موضوع الحكم إلاّ انَّ الفرق بين الاستصحابين انَّ الأول كان متوفراً على تمام الخصوصيات المعلوم دخالتها والمحتمل دخالتها في موضوع الحكم، وهذا اما أوجب الجزم بتحقق الفعلية في المرحلة السابقة.
أما الثاني فلم تكن تمام الخصوصيات المعلوم دخالتها متوفرة بل انَّ المتحقق منها هو بعض الخصوصيات المعلوم دخالتها في الموضوع والخصوصية المحتمل دخلها في الموضوع وهذا ما أوجب الجزم بالقضية التعليقيَّة وهي انَّ الخصوصية المفقودة لو تحققت لأصبح الحكم فعلياً.
وتصوير جريان الإستصحاب في الحكم المعلَّق هو انَّ الحكم المعلَّق كان معلوماً قبل انتفاء الخصوصية المحتملة الدخل في موضوع الحكم وبعد انتفائها وتحقق الخصوصية المفقودة نشك في بقاء الحكم المعلَّق فحينئذ يجري استصحاب الحكم المعلَّق، وذلك لليقين بالحدوث والشك في البقاء.
وباتِّضاح ذلك نقول: انَّ السيد الصدر (رحمه الله) ذكر انَّ المشهور قبل المحقق النائيني (رحمه الله) هو حجية الإستصحاب التعليقي إلاّ انَّ الشهرة انقلبت بعد المحقق النائيني (رحمه الله) إلى على عدم حجية الاستصحاب التعليقي، وذلك تأثراً بالمحقق النائيني (رحمه الله).
ومقصودنا من الاستصحاب التعلقي الذي كانت الشهرة مع جريانه ثم تحولت إلى البناء على عدم جريانه هو الاستصحاب التعليقي في الأحكام، وأما الإستصحاب التعليقي في الموضوعات أو متعلَّقات الأحكام فهو بحث آخر، وتصويره لا يختلف عن تصوير الإستصحاب التعليقي في الأحكام، إذ كلاهما متقوم بإحراز قضية تعليقية في مرحلة سابقة ثم وقوع الشك ففي بقائها بسبب انتفاء خصوصية محتملة الدخل في موضوع القضية التعليقية، غايته انَّ الجزاء في القضية التعليقية تارة يكون حكماً شرعياً وحينئذ يكون استصحابها استصحاباً للحكم المعلَّق، وتارة يكون موضوعاً لحكم شرعي أو متعلقاً لحكم شرعي وعندئذ يكون الاستصحاب التعليقي موضوعياً.
مثلا: لو كان المكلَّف لابساً ثوباً يُحرز انها ليست من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فعندئذ يتمكن من تشكيل قضية تعليقية حاصلها (لو وقعت الصلاة منه لكانت في غير ما لا يؤكل لحمه).
ثم لو صلَّى في ثوب مشكوك فهل له ان يستصحب تلك القضية التعليقية وهي (انَّه لو وقعت منه الصلاة لكانت في غير ما لا يؤكل لحمه).
وتلاحظون ان منشأ الشك هو انتفاء خصوصية هو انتفاء خصوصية كانت محرزة وهي انَّ الثوب التي كان متلبساً بها لم تكن من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، واما ماهو متلبس به فعلا فهي ثوب لا يُحرز انَّها مما لا يوكل لحمه.
وحينئذ لو كنا نقول بجريان الإستصحاب التعليقي في الموضوعات فإن النتيجة هي ببقاء القضية التعليقية في ظرف الشك.
[1]- مستدرك الوسائل: باب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 4.
[2]- الوسائل: باب 44 من أبواب النجاسات الحديث 1.
تقبلوا تحيتي