تداعيات الإستراتيجيات الإقليمية على الداخل الأذربيجاني (2)
تناول القسم الأول من الدراسة الوضع الأذربيجاني الداخلي وما يحمله من تعدد عرقي وطائفي في ظل حكم علماني صارم.
ويليه هذا القسم وهو الثاني والأخير منه، ويبحث "علاقة أذربيجان بمحيطها الإقليمي وتداعياته".
علاقة أذربيجان بمحيطها الإقليمي وتداعياته
يبحث التقرير في علاقة أذربيجان بدول الجوار وما تشهده من اتفاق واختلاف، وما قد تخلّفه من تداعيات محتملة على الكيان الأذربيجاني الذي يقع في خضم إستراتيجيات إقليمية متعارضة ومتنافسة في غالب الأحيان.
روسيا ومحاولة الاحتفاظ بالنفوذ
يعود الفضل لروسيا في ظهور أذربيجان جمهوريةً مستقلة ذات اسم عصري وحدود ومكانة؛ فعلى مدى مئتي السنة الماضية، كان لروسيا أكبر الأثر في طبيعة المجتمع الأذربيجاني. ولا تزال موسكو ترغب في إبقاء أذربيجان ضمن دائرة نفوذها. يرى سيرغي ماركيدونوف الباحث المتخصص في شؤون القوقاز والأمن الاقليمي أن موسكو وباكو تختلفان أساسًا في نظرتهما إلى "اللعبة الكبيرة" في جنوب القوقاز، ولكن تُبدي أذربيجان التزامَها ببناء علاقات جوار متينة مع روسيا، وهي تحتاج إلى حضور هذه الأخيرة الفعلي (وليس فقط الرسمي) في شمال القوقاز. بالمقابل، ترغب موسكو في الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع أذربيجان ومساعدتها في التنمية المستدامة. كما أن العامل الأذربيجاني يلعب دورًا في سياسة روسيا الداخلية واقتصادها. فوفقًا لتقديرات رسلان غِنْبيرغ، مدير معهد الاقتصاد في أكاديمية العلوم الروسية، تتراوح قيمة التحويلات الخاصة المحولة من روسيا إلى أذربيجان ما بين 1,8 إلى 2,4 مليار دولار سنويًا.
يقول ماركيدونوف: إن تقدير روسيا العالي لأذربيجان يرجع إلى حد كبير إلى كون الأخيرة منعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2005 موجة الثورات "الملونة" في رابطة الدول المستقلة. لكن على عكس أرمينيا، لم تصل جمهورية أذربيجان المستقلة مستوى عاليًا من التعاون مع روسيا، وخاصة في المجالين العسكري والسياسي. وعلى عكس أرمينيا أيضًا، ليست أذربيجان عضوًا في الجماعة الاقتصادية الأوروبية الآسيوية أو منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
أصبحت أذربيجان عضوًا في منظمة جوام (جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان ومولدوفا) التي توصف أحيانًا بعدائها لرابطة الدول المستقلة وبأنها الثقل الموازن للنفوذ الروسي في الجمهوريات السوفيتية السابقة. لكن موسكو وباكو، وفقًا لتقديرات ماركيدونوف، لهما مواقف متضاربة حول التحالف الإستراتيجي بين روسيا وأرمينيا، وهذا التحالف هو الذي حدا بأذربيجان للانضمام إلى جوام بدلاً من منظمة معاهدة الأمن الجماعي؛ فباكو ترى أن الوجود العسكري الروسي في أرمينيا (وخاصةً بعد سحب القوات الروسية من جورجيا ونشرها في أرمينيا) سببٌ لاحتمال تصعيد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان.
كما أن باكو ترى أن سياسة روسيا التي تحابي أرمينيا بشكل مفرِط ولا تعرف التنوع في جنوب القوقاز هي أكبر خطأ ترتكبه موسكو في المنطقة. أما أكبر خطأ ارتكبته أذربيجان بالنسبة لروسيا فهو اتصالاتها السياسية في أوائل العقد الأول من القرن الحالي مع الانفصاليين الشيشان. على هذه الخلفية، راحت أذربيجان "تنتهج سياسة غير ودية تجاه أقرب جار لها"؛ فعلى سبيل المثال، رفعت باكو في الآونة الأخيرة سعر تأجير محطة رادار قابالا الروسية في شمالي أذربيجان من 7 ملايين إلى 300 مليون دولار سنويًا. عدَّت موسكو هذا القرار الذي خيّب أمل الكرملين دلالةً على رغبة باكو في عدم تأجير محطة الرادار، وعلاوةً على ذلك تراقب موسكو باهتمام بالغ سياسة أذربيجان تجاه الأقليات العرقية، وخاصةً الشعب الداغستاني.
في نوفمبر/تشرين الثاني من هذا العام، أعدت وسائل الإعلام الأذربيجانية سلسلة من المواد التي تصب في مصلحة تدهور العلاقات بين باكو وموسكو؛ حيث زعمت هذه الوسائل أن الكرملين يعتزم استخدام الأذربيجانيين الروس والأقليات العرقية في أذربيجان ضد السلطات الرسمية في أذربيجان.
ويرى المحلل السياسي الأذربيجاني وفاء غولو زاده علاقة مباشرة بين النشاط المتزايد للأقليات العرقية في أذربيجان والاستخبارات الروسية الخاصة؛ حيث يقول حرفيًا: "من الواضح أن الكثيرين في باكو يخشون أن تجرّب روسيا في أذربيجان ذات السيناريو الذي نجح نسبيًا في جورجيا، أي أنها ستدعم تمرد الأقليات العرقية ضد الحكومة في البلاد".
لكن الوضع في حالة أذربيجان أكثر تعقيدا من جورجيا، فأذربيجان لديها احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، وعلى سلوكها يعتمد الكثير في المنطقة. ومن ناحية أخرى يقول غولو زاده: "أذربيجان دولة ضعيفة للغاية بالمقارنة مع روسيا، وتستطيع الأخيرة أن تفعل ما تشاء، وبما أن أرمينيا مستعمرة روسية، فإن أذربيجان تقف عاجزة إزاء أرمينيا". وهو يرى أن روسيا لم تستطع حتى الآن أن تتقبل استقلال أذربيجان، لذا فهي تحاول بكل الوسائل أن تستعيد مصداقيتها هنا.
الخلاف مع أرمينيا والعسكرة
تعود جذور التوترات بين أذربيجان وأرمينيا الحديثتين إلى أعماق التاريخ. وحين انهار الاتحاد السوفيتي، تمردت الأغلبية الأرمنية في إقليم ناغورنو كراباخ -الذي يتمتع بحكم ذاتي في أذربيجان- على باكو، وأعلنت الاستقلال. دعمت أرمينيا الانفصاليين الأرمن في ناغورنو كرباخ، وقدمت موسكو مساعدات هائلة لأرمينيا. هُزِمت باكو في بداية الحرب مع الانفصاليين، وانتقلت بعض مناطق أذربيجان المجاورة لإقليم ناغورنو كرباخ إلى سيطرة الأرمن. لذلك فإن المشكلة رقم واحد بالنسبة إلى جمهورية أذربيجان المستقلة هي وحدة أراضيها. ومن سمات التطورات الداخلية والخارجية في أذربيجان منذ بداية تسعينيات القرن العشرين فقدان ناغورنو كرباخ.
أصبحت الهزيمة العسكرية وفقدان السيادة على هذا الإقليم من العوامل التي لها أثر كبير في هوية الأذربيجانيين؛ حيث صارت صورة الدولة الخاضعة "للعدوان العسكري" الآتي من بلد مجاور من الثوابت الأيديولوجية في أذربيجان. إن خطاب أذربيجان العسكري والخوف من الأرمن المزروع زرعًا يقودان هذا البلد إلى طريق مسدود وإلى مواجهة عسكرية وشيكة مع أرمينيا.
في هذه الظروف تتسلط الأضواء على المشكلات الداخلية لأن النجاحات العسكرية لأرمن ناغورنو كرباخ قد تؤدي إلى انتفاضة الشعوب الأصلية في أذربيجان ضد باكو. لذلك، منذ فقدان ناغورنو كرباخ وأذربيجان تبني قوتها العسكرية. والدليل على ذلك هو ازدياد الإنفاق العسكري للبلاد على نحو غير مسبوق. يقول المحلل العسكري الروسي ?ـلاديمير موخين: إن إجمالي إنفاق أذربيجان العسكري ارتفع خلال سنة واحدة (2010 إلى 2011) من 1,59 مليار دولار (3,95% من إجمالي الناتج المحلي) إلى 3,1 مليار دولار (6,2? من إجمالي الناتج المحلي) .
تركيا وشِقاق الأشقاء
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، اختارت أذربيجان تركيا شريكًا إستراتيجيًا لها. ويمكننا تلخيص العلاقات بين هذين البلدين على مرِّ الزمن بشعار "شعب واحد في بلدين"، وهو الشعار المفضل لدى قادة كل من تركيا وأذربيجان بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وبالفعل يتكلم الناس في تركيا وأذربيجان لغة واحدة، ولهم تاريخ واحد وثقافة واحدة.
خلال النزاع بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو كرباخ (1991-1994)، قدمت أنقرة العون لباكو وأغلقت الحدود مع أرمينيا عام 1993، لكن لم يكن هناك تدخل عسكري تركي واسع النطاق في أرمينيا. وفي بدايات العقد الأول من القرن الحالي، عملت تركيا لصالح أذربيجان في منظمة حلف شمال الأطلسي، ودعمت باكو في نزاعاتها مع طهران على بحر قزوين. حاولت كل من تركيا وأذربيجان على مدى سنوات أن تقدم علاقاتهما لجميع البلدان الأخرى على أنها تحالف إستراتيجي، وبموجب هذا التحالف هناك أساس متين من التعاون الاقتصادي الواسع بين البلدين.
تقول وسائل الإعلام الإقليمية: إنه خلال 10 سنوات ارتفع العائد التجاري والاقتصادي لكلا البلدين من 1 إلى 3,5 مليارات دولار، وسيرتفع إلى 5 مليارات دولار بحلول عام 2015. وهناك مشروع طموح جدًا يتحقق الآن في مجال الطاقة، وهو خط غاز الأناضول. ولكن الأساس الاقتصادي وحده لا يكفي. ومن الواضح أن هذين البلدين الشقيقين لم يستطيعا ولمدة طويلة أن يتفقا على قضايا أساسية جدًّا، وهذا ما يُعرقل رفع علاقاتهما إلى مستوى إستراتيجي جديد.
يقول آرتيم إركنيان: إن الدولتين لم تتمكنا حتى الآن من الاتفاق على إلغاء نظام التأشيرات. ومع أن أنقرة منذ فترة طويلة مستعدة لإلغاء تأشيرات الدخول، إلا أن باكو تؤجل البت في هذه المسألة. ما تخشاه باكو هو أن إلغاء التأشيرات سيسمح لأنقرة بالتدخل أكثر في السياسة الداخلية لأذربيجان، كما تخشى أيضًا أن شفافية الحدود ستؤدي إلى مزيد من تدفق السكان من أذربيجان. وقد غضبت باكو من محاولة أنقرة لإصلاح علاقاتها مع أرمينيا في إطار الإستراتيجية التركية "صِفْر مشكلات مع الجيران"، واعتبرت التقارب بين أنقرة ويِريـفـان بمثابة خيانة.
ومن الجدير ملاحظته أن وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة في تركيا أدى إلى فتور حماسة باكو العلمانية لتطوير علاقاتها مع أنقرة، ورأى قادة أذربيجان العلمانيون في التعاون مع إدارة أردوغان الإسلامية تهديدًا بأسلمة أذربيجان. وهناك خلافات عميقة بين أنقرة وباكو بشأن العلاقات مع إسرائيل، وتتعدد الأسباب الكامنة وراء ذلك، بدءًا من دعم أنقرة لفلسطين وحادثة "أسطول الحرية" وانتهاءً باستدعاء السفير التركي من تل أبيب. من ناحية أخرى، تتطور العلاقات الأذربيجانية-الإسرائيلية بوتيرة متسارعة.
إيران القريبة البعيدة
ما يربط أذربيجان وإيران، بل ما يفصل بينهما أيضًا، هو الإرث الأذربيجاني العرقي والديني الواحد. قبل 1828، كانت كل من إيران وأذربيجان جزءًا لا يتجزأ من إمبراطورية صفوية واحدة، ومع استيلاء روسيا على الأراضي الشمالية من تلك الإمبراطورية اندمج جزء من شيعة إيران الأذربيجانيين في الدولة الروسية، وشكّلوا أساس جمهورية أذربيجان المستقبلية. في الوقت نفسه، ظل الجزء الأكبر من الأراضي الأذربيجانية في إيران.
وتضم إيران اليوم منطقتين أذربيجانيتين كبيرتين: أذربيجان الغربية وأذربيجان الشرقية، ويُقدّر عددُ السكان الأذربيجانيين في إيران بما بين 25-30 مليون نسمة، مع أن جمهورية أذربيجان نفسها لا يبلغ عدد سكانها سوى نحو 8 ملايين نسمة . وكان إسماعيل، شاه إيران، الذي جعل المذهب الشيعي دين الدولة في الإمبراطورية كلها، أذريًا مثل معظم السلالات الحاكمة في إيران قبل وصول سلالة بهلوي إلى السلطة. واليوم ينحدر عدد كبير من نخبة إيران السياسية، بمن فيهم زعيم إيران الروحي علي خامنئي، من أصل أذري. وتعاني العلاقات الأذربيجانية-الإيرانية من تدهور وبوتيرة متزايدة، والأسباب وراء ذلك عديدة.
يقول المحلل الروسي إيغور پانكراتِنكو: إن السلطات الأذربيجانية تخشى طموحات إيران الاستعمارية، بينما تنظر إيران إلى جارتها الشمالية بعين الريبة مخافة أن تكون سببًا في إثارة الأفكار والحركات الانفصالية بين سكانها الأذربيجانيين البالغ عددهم عدة ملايين؛ ولذلك حاولت كل من موسكو وباكو في العهد السوفيتي وبعده مرارًا أن تلعب بورقة فصل الأراضي الأذربيجانية عن إيران.
وتعتبر باكو نفوذ إيران الشيعي تهديدًا للنمط الغربي السياسي والاجتماعي الذي تريده لأذربيجان. لذلك، يكاد يُحظر توزيع كل المطبوعات الإسلامية القادمة من إيران في أذربيجان. أضف إلى ذلك أن رد الفعل الإيراني على الصراع في ناغورنو كرباخ جاء بمثابة صدمةٍ للنخبة الحاكمة في أذربيجان؛ حيث رفضت إيران دعم أذربيجان في نزاعها مع أرمينيا، بل دعت كلا البلدين لتسوية نزاعهما من خلال المفاوضات.
وجاءت المرحلة التالية من تباعد البلدين عندما أدركت طهران إمكانية أن تصبح أذربيجان منطلقًا لعملية عسكرية ضد إيران. وشهد العام الفائت سلسلة من الأحداث الصاخبة بين باكو وطهران؛ حيث كشفت المخابرات الأذربيجانية ما وصفته بمؤامرة "للإرهابيين الإيرانيين" ضد كبار المسؤولين الأذربيجانيين. وما أجبر طهران أخيرًا على استدعاء سفيرها، محمد باهر بهرامي، من باكو هو إهانة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي خلال تظاهرة في باكو احتجاجًا على "سياسة إيران المعادية لأذربيجان".
كل هذه العوامل أبعدت النخبة السياسية في أذربيجان عن إيران وحرضتها على البدء في تعاون وثيق مع إسرائيل من أجل ضمان أمنها، وقد بدأت سياسة باكو المناهضة لإيران بالفعل تؤتي ثمارها.
وقد باتت تصريحات باكو أكثر علانية وعدوانية، فقد اشتكى مؤخرًا فاضل مصطفى، النائب في المجلس المِلّي (برلمان أذربيجان)، للصحفيين من "انتهاك حقوق ملايين الأذربيجانيين" في إيران، واصفًا النظام في إيران بأنه "دموي". ومما جاء في البيان الأخير للجبهة الشعبية المتحدة في أذربيجان الموجه للأذربيجانيين وغيرهم من شعوب إيران "إن حكام إيران الذين يتمسحون بمُسوح الإسلام ينتهجون في الواقع سياسة تخدم قوى الظلام. ونظرًا للرقابة الداخلية الصارمة في أذربيجان، لا شك أن هؤلاء الساسة يعبّرون عن موقف باكو الرسمي.
أميركا وأوروبا: مقاربات مختلفة
على النقيض من النهج الإيراني المعادي للغرب، دأبت السلطات في أذربيجان منذ أيام الاستقلال الأولى على التقارب مع القوى الغربية. وقد تبنّت أذربيجان نظام التفضيل في المعاملة بالنسبة إلى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2001، حصلت أذربيجان على العضوية في مجلس أوروبا.
يقول سيرغي ماركيدونوف: إنه بسبب علاقات أذربيجان الطيبة مع الولايات المتحدة (التي كانت مواليةً لأرمينيا في تسعينيات القرن العشرين)، لم تُدرَج أذربيجان في القائمة السوداء للدول "غير الديمقراطية" على الرغم من استبداد قيادتها. ويضيف قائلاً: إن الصداقة بين أذربيجان والولايات المتحدة مكَّنت باكو من حلّ المهمة الحساسة لنقل السلطة في البلاد من الأب إلى الابن.
وعشية إحدى زيارات إلهام علييف إلى الولايات المتحدة، وصفت واشنطن أذربيجان بأنها "حليفها الإسلامي"، علمًا بأن هذا اللقب كان قد مُنِح من قبلُ لتركيا. يستطرد ماركيدونوف: "بينما تتعاطف الولايات المتحدة مع المعارضة المناهضة لعلييف، إلا أنها لا تبالغ في تقدير نفوذ هذه الأخيرة؛ ففي نوفـمبر/تشرين الثاني 2005 صرّح السيناتور الأميركي البارز ريتشرَد لوغار عشية انتخابات المجلس الملي في أذربيجان بأنه لا يُتوقَّع حدوث "ثورات برتقالية" في أذربيجان.
يقول غلين هوارد، وهو خبير في شؤون القوقاز وآسيا الوسطى: إن موارد أذربيجان النفطية الهائلة جعلت واشنطن تتغاضى عن بعض سياسات أذربيجان الداخلية. أما الاتحاد الأوروبي فهو شريك أذربيجان الذي لا يُعوَّل عليه كثيرًا. فقد انتقدت المنظمات الأوروبية العمليات السياسية في البلاد، مشيرةً إلى العديد من انتهاكات المسؤولين من كل المستويات للقوانين وتجاوز السلطات.
ومع ذلك فقد أُدرِجت أذربيجان أيضًا، كما جورجيا وأرمينيا الأكثر ديمقراطية، في سياسة الجوار الأوروبي. وقد شدّد قادة أذربيجان على الحاجة إلى التكامل الوثيق مع الاتحاد الأوروبي في جميع المجالات؛ ففي عام 1999 صرّح وزير الدفاع الأذربيجاني سَفَر أبييف بأن بلاده ترى نفسها "جزءًا مكونًا من أوروبا الجديدة" . لكن أذربيجان حققت تقدمًا أكبر بكثير في تعاونها الاقتصادي مع الدول الأوروبية كأفراد؛ فحلفاء أميركا الأكثر موثوقية، وعلى رأسهم بولندا، ينادون بتعاون أوثق مع باكو.
العالم العربي وغياب التفاهم المتبادل
يتحدث السياسيون والمحللون الأذربيجانيون رسميًا عن ضرورة تطوير العلاقات مع الدول العربية، وقد قال وزير خارجية أذربيجان إلمار ماميدياروف: "إن أذربيجان عضو في منظمة التعاون الإسلامي، وبالتالي فهي مهتمة بتوسيع تعاونها مع الدول العربية. وقد أيّد مجلس وزراء الخارجية العرب ترشُّح أذربيجان في انتخابات الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن الدولي للفترة 2012-2013، وأعلنت وزارة الخارجية الأذربيجانية "أن هذا القرار مؤشر على المستوى العالي الذي بلغه تطور العلاقات بين أذربيجان والعالم العربي".
لكن نظرًا للعلمانية الشديدة التي تتسم بها النخبة الحاكمة والمجتمع الأذربيجاني، يظل الانجذاب للعالم العربي في البلاد ضعيفًا للغاية، كما أن الأذربيجانيين لا تربطهم بالعرب أية رابطة لغوية كما هي الحال مع الأتراك، أو قربٌ جغرافي كما هي الحال مع إيران، ولا تحالف عسكري وسياسي كما هي الحال مع إسرائيل. علاوةً على ذلك، لا يسهم التطور السريع لعلاقات أذربيجان مع اسرائيل ولا تعامل نخبة باكو المكثف مع تل أبيب في تطوير العلاقات بين القيادة الأذربيجانية والعالم العربي. كذلك انزعج الأذربيجانيون من تعاون الدول العربية مع أرمينيا وتعزيز علاقاتها معها "في تجاهل تام لمصالح أذربيجان". أما أرمينيا فهي دائبةٌ في فتح بعثات دبلوماسية جديدة لها في الدول العربية؛ لذلك قال وزير الخارجية الأرمني إدوارد نالبانديان: إن تعزيز العلاقات مع العالم العربي وتوسيعها من أولويات السياسة الخارجية لأرمينيا.
بصراحة، يتمتع الأرمن في الدول العربية - في أغلب الأحيان- بموقع أقوى من موقع الأذربيجانيين. على سبيل المثال، في لبنان وسوريا هناك جاليات أرمنية كبيرة، وهي ذات تأثير كبير في الحياة الاقتصادية لهذين البلدين. وقد قال قبل بضع سنوات المحلل عارف يونوسوف من معهد السلام والديمقراطية الأذربيجاني: "يكاد العالم العربي أن يكون في صف أرمينيا" .
ولا يمكن أن ينسى الأذربيجانيون كيف رفض الرئيس السوري بشار الأسد، خلال زيارة قام بها مؤخرًا إلى أذربيجان، أن يزور "زقاق الشهداء"، وهو المكان الذي دُفن فيه الجنود الأذربيجانيون الذين قُتلوا في الصراع مع أرمينيا على إقليم ناغورنو كرباخ.
إسرائيل وتجنيد النظام الأذربيجاني
يشير الخبراء إلى التنامي السريع في العلاقات الأذربيجانية-الإسرائيلية على أعتاب هجوم إسرائيلي محتمل على إيران. وما تجدر الإشارة إليه أيضًا هو التصريح الوارد في وثيقة ويكيليكس 2009، على لسان نائب السفير الأميركي في باكو دونالد لو "لقد قال رئيس جمهورية أذربيجان إلهام علييف: إن علاقات بلاده مع إسرائيل تشبه جبل الجليد: تسعة أعشاره غائبة عن الأنظار".
بلغ حجم التجارة بين إسرائيل وأذربيجان عام 2010 ما يزيد على 2 مليار دولار، وهو ضعف عائدات التجارة بين أنقرة وباكو في الفترة نفسها. كتب المحلل الدولي آرييه غوت: "لدى إسرائيل وأذربيجان أسس اقتصادية وسياسية قوية للتعاون القائم على أساس الجسر الإنساني المهم جدًا: الجالية اليهودية في أذربيجان والجالية اليهودية الأذربيجانية في إسرائيل". اليوم، تأتي 45% من واردات إسرائيل من الطاقة من أذربيجان، وقد تحدث بنيامين بن إليعازر، وزير البنى التحتية الوطنية في إسرائيل، عن إطلاق برنامج طويل الأجل، يدوم 20-30 سنة، لتزويد إسرائيل بالغاز الأذربيجاني.
ولدى تل أبيب عدة أسباب لإقامة علاقات وثيقة مع باكو، أولاً: يعتقد المحللون أن علاقات إسرائيل مع أذربيجان هي جزء من الجهود التي تبذلها الدولة اليهودية لتحسين صورتها؛ يقول إلهان شين أوغلو، مدير مركز أطلس للأبحاث السياسية الذي مقره باكو: "إن إسرائيل بحاجة إلى علاقات ودية مع دولة مسلمة"، وأن اسرائيل أيضًا تدعم أذربيجان في قضية ناغورنو كرباخ.
وخلال زيارته إلى أذربيجان، دعا أفـيغدور ليبرمان، وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق، باكو لتكون بمثابة جسر بين إسرائيل والعالم العربي، ووسيطًا في الصراع العربي الإسرائيلي.
لكن الخبير الروسي إيغور پانكراتِنكو يرى أن أمام باكو عدة عقبات في طريق تحقيق الهيمنة الإقليمية، مثل: روسيا، وإيران، والوضع في ناغورنو كرباخ، وموقف الولايات المتحدة الفاتر من أية محاولة لحل عسكري للنزاع على ناغورنو كرباخ. وبحسب قوله، تتطابق مصالح باكو في الحد من هذه العوامل مع مصالح إسرائيل تمامًا. لذلك فإن إسرائيل ترى أن الحل العسكري للنزاع على ناغورنو كرباخ سيؤدي حتمًا إلى تفاقم الوضع الروسي في المنطقة، لأنه سيخلق مشكلات كبيرة في جوار حدودها.
وبالتالي، فإن ذلك سيُضعِف اهتمام موسكو بشؤون الشرق الأوسط. إضافةً إلى ذلك، يمكن أن يكون خطر نشوب نزاع في ناغورنو كرباخ بمثابة ذريعة إضافية لمطالبة موسكو بالحد من تعاونها مع إيران. ولهذا الهدف أزالت إسرائيل عمليًا كل العقبات أمام أذربيجان للحصول على التسليح الإسرائيلي، وهو ما لا تستطيع باكو أن تحصل عليه لا من الولايات المتحدة ولا من أوروبا بسبب القيود القانونية، ولا من المورِّدين السوفيت السابقين، مثل: أوكرانيا أو روسيا البيضاء. ولكي تدعم إسرائيل طموحات أذربيجان لتولي الزعامة في المنطقة، فهي لا تكل من استخدام قدرات الضغط لديها في الولايات المتحدة؛ يقول المحلل آرييه غوت: "يقدّم ممثلو الجالية اليهودية المساعدة اللائقة لإطلاع الأسرة الدولية على حقيقة الأمور في أذربيجان، كما يساعدون في تطوير العلاقات الدولية مع أذربيجان" .
ويقول إيليا بيرتمَن من مركز بيغين-السادات الإسرائيلي للدراسات الإستراتيجية: إن اللوبي اليهودي في واشنطن يعمل في الواقع على إبطال سياسة اللوبي الأرمني المناوئة لأذربيجان والتي ترمي إلى الحد من المساعدات الأميركية إلى باكو. يقول بيرتمَن: "ونتيجة لنشاط اللوبي اليهودي في أميركا، ألغت وزارة الخارجية الحظر على مبيعات الأسلحة إلى أذربيجان المعمول به منذ عام 1993، كما خصصت الحكومة الأميركية في منتصف العقد الأول من القرن الحالي منحة قدرها 4,4 مليون دولار لشراء معدات عسكرية". ولكنْ هناك هدف آخر يوحّد أذربيجان وإسرائيل غير ردع روسيا وأرمينيا، ألا وهو التهديد الإيراني؛ وقد أشار الديبلوماسي الأميركي روبرت غارـيرِك إلى ذلك بقوله: "إن كلا البلدين ينظران إلى إيران باعتبارها تهديدًا حقيقيًا لوجوده".
ويقول المحلل الروسي إيغور پانكراتِنكو: إنه لهذه الأسباب مجتمعةً تحرص إسرائيل على التقرب من النخبة الحاكمة في أذربيجان: أحدث الأسلحة، وقوة اللوبي اليهودي في أميركا، ودعم المسعى الأذربيجاني للهيمنة الإقليمية في مقابل الكفاح المشترك ضد "الخطر الإيراني". فبفضل المدفعية الصاروخية الإسرائيلية، والأسلحة الصغيرة، ومدافع الهاون، وأنظمة الاتصالات، والطائرات بلا طيار، يستطيع الجيش الأذربيجاني أن يزيد من قدراته على مواجهة أي صراع محتمل مع أرمينيا وقوة إيران المتصاعدة. وقد بدأت أذربيجان فعلاً باستخدام كل هذه الترسانة التي في متناول يدها؛ ففي أواخر عام 2012، ذكرت قناة الصحافة التليفزيونية الإيرانية أن أذربيجان تستخدم طائرات إسرائيلية خفيفة للغاية بلا طيار مثل أوروبتَر وهيرمِس 450 لحراسة الحدود مع إيران وناغورنو كرباخ.
ونقلت القناة عن خبراء إيرانيين قولهم: إن هذه الطائرات بلا طيار يمكن ربطها بأقمار الاستخبارات الإسرائيلية. إضافة إلى ذلك، ذكرت صحيفة صنداي تايمز البريطانية في ديسمبر/كانون الأول 2012 أن إسرائيل تنوي استخدام طائرات بلا طيار من طراز إيتان متمركزة في أذربيجان لاعتراض الصواريخ الإيرانية المنطلقة على إسرائيل.
التحديات
تعاني أذربيجان اليوم كثيرًا من صراعات داخلية لم تُحَلّ بين الحكومة والمعارضة، وبين العلمانيين والمتدينين في المجتمع، بين الشيعة والسنة، بين الأقليات العرقية والنخبة الحاكمة في أذربيجان. بالإضافة إلى ذلك، تتنافس على أذربيجان القوى المجاورة لها بغية تنفيذ إستراتيجيات متباينة تمامًا؛ لهذا السبب تتنامى فيها اتجاهات متناقضة تمامًا، مثل تزايد العداء تجاه طهران، وزيادة اعتماد أجهزتها الأمنية على الاستخبارات الإسرائيلية الخاصة.كما أن المشكلات آنفة الذكر تزيد من وتيرة التوتر والتطرف بين المعارضة والأقليات العرقية والدينية في المجتمع الأذربيجاني. وعلى هذه الخلفية، بدأ عدد متزايد من الخبراء والسياسيين يتحدثون عن إمكانية تصدير الثورات العربية إلى أذربيجان. ومع قدرة الأذربيجانيين المتسارعة على الوصول إلى الإنترنت ومصادر المعلومات البديلة، وشبكات التواصل الاجتماعي، صار لدى أذربيجان المستقلة تقاليد لا يُستهان بها من المعارضة السياسية والمنظمات العامة والسياسية القوية.
لكي نفهم الوضع داخل المجتمع الأذربيجاني علينا أن ننظر إلى متانة النظام السياسي الأذربيجاني، والنزعة الشرقية لدى الشعب الأذربيجاني لعبادة السلطة، والإرث السياسي السوفيتي وما له من أثر هائل باقٍ لا يزال يخيم على المجتمع الأذربيجاني. لهذا السبب لا يمكن للمرء أن يجزم بالمطلق حول إمكانية استنساخ أي سيناريوهات ثورية في أذربيجان، ولا أن يتحدث عن زلزال سياسي في المجتمع الأذربيجاني إلا في حالة انهيار الأنظمة السياسية في البلدان المجاورة.
وعلى باكو أن تجعل في قائمة أولوياتها مراقبة الوضع في إيران التي يشكّل الأذريون فيها أكثر من ثلاثة أضعاف سكان أذربيجان. ويتوقع بعض الخبراء ظهور "هلال شيعي"، أي تحالفٍ سياسي من الحركات والأحزاب السياسية الشيعية ذات التوجه الإيراني، وتتعزز فرص هذا الاحتمال في ضوء المزاج العام وزيادة شهية الاحتجاج داخل الأوساط الشيعية في البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية، وفي ضوء تنامي نفوذ الشيعة في إيران والعراق ولبنان.
ومما تجدر الإشارة إليه مرة أخرى هو أن المسؤولين في باكو سيجدون أنفسهم في مواجهة وضع خطر بسبب الصحوة الدينية المتسارعة في المجتمع الأذربيجاني. يلجأ نظام علييف في أذربيجان اليوم إلى حل مشكلة تزايد النشاط الإسلامي من خلال دعم التوسع الشيعي في المناطق السنية من البلاد وطرد أهل السنة المتشددين إلى جمهورية داغستان الروسية المجاورة. وإذا تعسكرت المجتمعات السنية في المناطق الشمالية من أذربيجان أو توغلت الجماعات القوقازية الشمالية المسلحة في أراضي أذربيجان، عندئذٍ سيجد النظام الحاكم في باكو نفسه في ورطة رهيبة أقطابها مسلحو السُّنة المتشددون في الشمال، والتحالف الشيعي في الجنوب، وواقعٌ يستعصي على التوفيق داخل البلد.
____________________________________________
د. رسلان قوربانوف - باحث في معهد الدراسات الشرقية لأكاديمية العلوم الروسية
ترجم النص عن الإنجليزية د. موسى الحالول