و لقد أثبت علماء الشيعة صيانة القرآن الكريم عن أي نوع من التحريف اللفظي بجميع أشكاله و ألوانه بالأدلة و البراهين القوية ، فهناك عشرات الكتب ألَّفها علماء الشيعة في هذا المجال ، لكنك رغم كل ذلك تجد الذين في قلوبهم مرض و من لا يبتغون إلا الفتنة يفتشون عن كل قول سقيم و رأي شاذ بُغية التمسك به لإثارة الفتن ابتغاء مرضاة الشيطان الرجيم .
و من هذا القبيل اتهام الشيعة بأن قرآنهم هو غير قرآن سائر المسلمين زاعمين بأنه يحوي سورة بأسم الولاية ، و حديثاً استخرجوا من بطن هذه السورة المزعومة سورة أخرى أسموها سورة النورين ، كل ذلك إعتماداً على قول قائلٍ مجهول الهوية أو كتاب ليس له وجود خارجي ، حقداً منهم على مذهب أهل بيت رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) و عداءً للقرآن الكريم .
و لا شك أن ترويج هذه الأباطيل من خلال فتح مواقع مفضوحة و مأجورة على شبكة الانترنيت ليس المقصود منه إلا تظليل السذج من الناس و تشويش أفكارهم ، أما أهل العلم و التحقيق و المطالعة و المثقفون فهم ارفع شأناً من أن يتأثروا بهذه الترهات و المواضيع المختلقة و المفترية .
لكننا نرى من الواجب علينا أن نجيب على هذا السؤال حتى يتضح الحق و ينجلي غبار التظليل رغم أن علماء الشيعة قد أجابوا على هذه الاتهامات كلَّما أثار الحاقدون أمثال هذه الافتراءات .
منشأ هذه التهمة :
زعم كيخسرو اسفنديار مؤلف كتاب " دبستان المذاهب " أن الشيعة تقول بتحريف القرآن ، و قال فيما قال : ... و بعضهم يقول إن عثمان أحرق المصاحف و أسقط سوراً كانت نازلة في فضل أهل البيت ، منها هذه السورة : ... ثم ذكر جملاً ركيكة مفترية زعم أنها سورة الولاية ، فصار قول هذا الكاتب و كتابه مصدراً معتمداً لدى أعداء الشيعة و خصومهم .
من هو كيخسرو اسفنديار :
كيخسرو اسفنديار هو مؤلف كتاب " دبستان المذاهب " و هو من ولد آذر كيوان مؤسس الفرقة الكيوانية على عهد أكبر شاه التيموري 963 ـ 1014 في الهند .
ولد المؤلف في بلدة " بتنه " من أعمال الهند في أواسط العقد الثالث من القرن الحادي عشر للهجرة ، و كان عائشاً حتى ما بعد العقد السابع ، حسبما يبدو من التواريخ المسجَّلة قيد كتابه .
و كان المؤلف داعية للمذهب الكيواني القائل بوحدة الوجود و رفض المذاهب ، و الاجتماع على كتاب " الدساتير " الذي زعمه أم الكتب و مجتمع الشرائع كلها ، نسبه إلى نبي يقال عنه أنه " ساسان " .
و من ثم فان المؤلف في كتابه " الدبستان " يحاول تضعيف عقائد أصحاب الملل و الترويج ـ في خفاء و التواء ـ لمذهب أبيه آذر كيوان الجديد التأسيس .
و أول من أشاد بشأن الكتاب هو " فرنسيس غلادوين " ترجمه إلى الإنجليزية عام : 1789 م ، و في عام 1809 م ـ ذو القعدة 1224 هـ طبع الكتاب لأول مرة في " كلكتا " بأمر من مندوب الإنجليز " ويليام بيلي " ، و هكذا استمرت طباعته على يد عملاء الاستعمار في الهند و إيران و كذا تراجمه في سائر البلاد [1] .
نعم هذه هي قصة كيخسرو اسفنديار و كتابه " دبستان المذاهب " الذي يعتمد عليه أعداء الشيعة .
نص السورة المزعومة :
أما نص السورة المزعومة فهو : " بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي و يحذرانكم عذاب يوم عظيم . نوران بعضهما من بعض و أنا السميع العليم . إن الذين يوفون بعهد الله و رسوله في آيات لهم جنات نعيم . و اصطفى من الملائكة و الرسل و جعل من المؤمنين أؤلئك في خلقه يفعل الله ما يشاء . قد خسر الذين كانوا عن آياتي و حكمي معرضون . و إن عليا من المتقين . وإنا لنوفيه حقه يوم الدين . ما نحن عن ظلمه بغافلين . يا أيها الرسول قد أنزلنا إليك آيات بيِّنات فيها من يتوفَّاه مؤمناً و من يتوليه من بعدك يظهرون . و لقد أرسلنا موسى و هارون بما استخلف فبغوا هارون . فصبر جميل . و لقد آتيناك بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين . و جعلنا لك منهم وصياً لعلَّهم يرجعون . إن علياً قانتاً بالليل ساجداً يحذر الآخرة و يرجو ثواب ربّه . قل هل يستوي الذين ظلموا و هم بعذابي يعلمون " [2] .
و الجدير بالذكر أن النوري الذي ينسب إليه القول بتحريف القرآن ، و الذي يتمسك أعداء الشيعة بقوله لاتهامهم بالقول بالتحريف يقول في كتابه " فصل الخطاب " معلقاً على هذه السورة المزعومة بقوله : " لم أجد أثراً لها في كتب الشيعة سوى ما يُحكى عن كتاب " المثالب " المنسوب إلى ابن شهر آشوب : أنهم أسقطوا تمام سورة الولاية ، فلعلها هذه السورة [3] .
كتاب المثالب :
نعم لدى البحث و التحقيق و التتبع يتضح أن المصدر الأساسي لهذه النسبة إنما هو كتاب " المثالب " المنسوب لأبن شهر آشوب ، و الذي ليس له أي وجود خارجي و لم يره أحد .
قال اُستاذنا العلامة المحقق آية الله الشيخ محمد هادي معرفة ( حفظه الله ) : أما كتاب " المثالب " الذي حُكيت عنه تلك العبارة فلم يره أحد إطلاقا ، و لا ذكره أصحاب التراجم ، سوى ما جاء في عرض كلام ابن شهر آشوب نفسه في كتاب " معالم العلماء " عند ترجمة نفسه ، فذكر كتاباً ضمن تآليفه بهذا الاسم ، إلا أنه هل خرج إلى التبييض ، و هل انتشرت نسخته ؟ فهذا شيء لم يذكره أحد و لا شاهده ديار [4] .
و قال أيضا في موضع آخر : " أما العبارة المحكية ، فلم نجد من ادعى مشاهدتها ، سوى نقلها بلفظ " حُكي " مجهولاً ، كما وقع ذلك في عبارة النوري و الآشتياني " [5] .
و قال المحقق الآشتياني صاحب الحاشية بعد نقل هذه السورة المزعومة : " ... و لم أقف عليها في غير هذا الكتاب ، سوى ما يقال عن كتاب " المثالب " لابن شهر آشوب ... " [6] .
و قال العلامة المحقق البلاغي ( رحمه الله ) لدى التعرض لهذا الاتهام و الافتراء و الذي عبر عنه بالمهزلة ، قال بعد ذلك : " ... و إن صاحب " فصل الخطاب " من المحدثين المكثرين المجدِّين في التتبع للشواذ ، و أنه ليعدّ أمثال هذا المنقول في " دبستان المذاهب " ضالته المنشودة ، و مع ذلك قال : إنه لم يجد لهذا المنقول أثراً في كتب الشيعة ، و في أي كتاب لهم وجدها ؟ أفهكذا يكون النقل في الكتب ؟! فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب !! [7] .
تقييم السورة المزعومة :
أما تقييم هذه السورة المزعومة و المفترية و إثبات كونها من المفتريات و الأكاذيب المجعولة فلا يتطلب جهداً ، فكل ذي لب عربي اللسان يكتشف زيفها بمجرد قراءتها ، و هي بذاتها تشهد على نفسها بالبطلان و الاختلاق .
قال اُستاذنا العلامة المحقق آية الله الشيخ محمد هادي معرفة ( حفظه الله ) : " من المختلقات العاميَّة المرتذلة ما نسبه صاحب كتاب " دبستان المذاهب " إلى فئة غير معروفة من الشيعة زعم أنها تقول بتحريف القرآن ، قال : و بعضهم يقول إن عثمان أحرق المصاحف و أسقط سوراً كانت نازلة في فضل أهل البيت ، منها هذه السورة [8] .
و قال في موضع آخر : " أما السورة المزعومة ذاتها ، فهي تنادي بأنها حديث مفترى لا تعدو سوى تلفيقات ركيكة و تعبيرات هجينة لا تمت إلى أب صالح و لا أم صالحة . إنها خالفت قواعد الإعراب فضلاً عن الأدب الرفيع ، الأمر الذي يؤكد غرابة نسبتها إلى أي فئة من فئات الشيعة ، و هم على مختلف طبقاتهم كانوا و لا يزالون أئمة النقد و التمحيص ، و أساتذة الأدب و البيان ، و المضطلعين بالعلوم العربية على طول التاريخ . و لا ريب أنها سفاسف سخيفة حاكتها عقول غير ناضجة ، يتحاشاها ذوو الأحلام الراجحة .
نعم سوى أحقاد جاهلية تبعث على هذا الافتراء الكاذب ، قال تعالى : ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ...﴾ [9] . إنه سفه و حمق إلى جنب خبث السريرة ، الأمر الذي يشكل طابع صاحب الدبستان الصعلوك المسكين [10] .
و قال المحقق الآشتياني صاحب الحاشية بعد نقل هذه السورة المزعومة : " ... و لكنك خبير بأنها ليست تضاهي شيئاً من القرآن الحكيم المنزل إعجازاً على قلب سيد المرسلين ، إذ من المقطوع به أن كل أحد يمكنه تلفيق هكذا ألفاظ و كلمات لا رابط بينها و لا انسجام فضلاً عن المعنى الصحيح ، و قد قال تعالى بشأن القرآن العزيز : ﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) [11] " [12] .
تقييم كتاب دبستان المذاهب و مؤلفه :
قال محقق كتاب " دبستان المذاهب " الأستاذ رحيم رضا زاده ملك : " ما أثبته المؤلف في كتابه عن الأديان و المذاهب أكثرها جوانب عامّية مأخوذة من أفواه أناس أو شاهدها في تصرفات بعض المعتنقين لتلك الأديان في الأسواق و المقاهي و الأندية العامة ، و ربما على حواشي الطرق و الأسفار ، فكان يجتمع مع أؤلئك العاميين و يتناقل معهم الحديث ثم يسجلها قيد كتابه الذي تأليفه بهذا النمط خلال عشرين عاماً أو أكثر ما بين سنة : 1040 ـ 1065 ، و من ثم كان لفيف من المشعوذين من أهل الاستهواء حيث أحسّوا منه الرغبة الملحَّة في جمع الغرائب و العجائب ، جعلوا يتزلفون إليه ، رغبة في أكلة دسمة أو منحة أو صلة ، فيحيكون له أكاذيب و أقاصيص مجعولة ، و كان من سذاجته يسجلها في كتابه ، و أحياناً عن لسانهم مشفوعة بعناوين و ألقاب فخيمة ترفيعاً من شأنها حسب زعمه ، الأمر الذي نشاهده في كتابه كثيراً من قضايا و مسائل منسوبة إلى مذاهب و أديان لا أساس لها ذاتاً ، و ما هي إلا مغبة أن الرجل كان قد جعل نفسه موضع مهزلة المشعوذين ممَّن يروقهم الاستحواذ على سذَّج العقول أمثال هذا المؤلف المسكين " [13] .
و قال العلامة و المحقق الكبير الشيخ آقا بزرگ الطهراني ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) حول كتاب " دبستان المذاهب " و مؤلفه :
" دبستان مذاهب " أو " دبستان " في الملل والنحل ، فارسي طبع في بمبئي : 1262 مرتب على اثنى عشر تعليما ، و في كل تعليم أنظار ، و فهرس التعليمات على الترتيب :
1. پارسيان .
2. هندوان .
3. قراتبتيان .
4. اليهود .
5. النصارى .
6. المسلمين .
7. الصادقية .
8. الواحدية .
9. روشنينان .
10. الإلهية .
11. الحكماء .
12. الصوفية .
و بما أنه لم يذكر المؤلف اسمه فيه ، اختلف في مؤلفه كما ذكره السيد محمد على داعي الإسلام في أول كتاب " فرهنك نظام " فحكى عن سرجان ملكم في تأريخ إيران إن اسم المؤلف محسن الكشميري المتخلص في شعره بفاني و حكى عن مؤلف مآثر الأمراء إن المؤلف اسمه ذو الفقار علي و حكى عن هامش نسخة كتابتها ( 1260 ) أنه مير ذو الفقار علي الحسيني المتخلص بهوشيار ، و اختار هو انه لبعض السياح في أواسط القرن الحادي عشر أدرك كثيرا من الدراويش بالهند و حكى عنهم الغث و السمين في كتابه هذا .
أقول : و يحكى عن بعض المستشرقين إن في مكتبة بيروكسل نسخة دبستان المذاهب تأليف محمد فاني وذكر فيه انه ورد خراسان ( 1056 ) و رأى هناك محمد قلي خان المعتقد لنبوة مسيلمة الكذاب ، و كما انه أخفى المؤلف اسمه كذلك تعمد في إخفاء مذهبه لئلا يحمل كلامه على التعصب [14] .
نعم هذه هي الحقيقة بالنسبة إلى هذه السورة المزعومة بصورة مختصرة .
فكيف يجوز للعاقل الحصيف أن يُصَّدِقَ هذه المزعومة و يتجاهل اهتمام الشيعة الكبير و العريق بالقرآن الكريم الذي يعتقد به المسلمون في جميع العالم ، ذلك الاهتمام الذي لا ينحصر بالقراءة و الحفظ بل ينسحب على نشاطاتهم و مناحي حياتهم ، فهم يهتمُّون به قراءةً و حفظاً و تفسيراً و طبعاً و نشراً ، و في مجال الفقه ، و العقيدة ، و علم الأخلاق ، و التربية ، و غيرها من المجالات .