فقال : طلحة بن عبيد الله - وكان يقال له " داهية قريش " : فكيف نصنع بما ادَّعى أبو بكر وعمر وأصحابه الذين صدَّقوه وشهدوا على مقالته يوم أتوا بك تُعتلُّ وفي عنقك حبل ، فقالوا لك " بايع ، فاحتججت بما احتججت به من الفضل والسابقة ، فصدقوك جميعاً ، ثم ادعى أنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : (( إن الله أبى أن يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة )) ، فصدَّقه عمر وأبو عبيدة بن الجراح وسالم ومعاذ بن جبل ؟!
ثم أقبل طلحة فقال : كل الذي ذكرت وادعيت حق وما احتججت به من السابقة والفضل نحن نقرُّ به ونعرفه ، وأما الخلافة فقد شهد اولئك الخمسة بما سمعت !
الجواب الأول : فضح تعاهدهم على الصحيفة الملعونة
فقام عند ذلك علي عليه السلام : وغضب من مقاله طلحه فأخرج شيئاً قد كان يكتمه وفسَّر شيئاً قد كان قاله يوم مات عمر لم يدروا ما عنى به 1 ، وأقبل على طلحة - والناس يسمعون - فقال : يا طلحه ، أما والله ما من صحيفه ألقى الله بها يوم القيامة أحب إليَّ من صحيفة هؤلاء الخمسة الذين تعاهدوا على الوفاء بها في الكعبة في حجة الوداع : (( إن قتل الله محمداً أو مات أن يتوازروا ويتظاهروا عليَّ فلا أصل إلى الخلافة )) !
الجواب الثاني : حديث الغدير
وقال عليه السلام والدليل - يا طلحة - على باطل ما شهدوا عليه قول نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم غدير خم : (( من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه )) ، فكيف أكون أولى بهم من أنفسهم وهم أُمراء عليَّ وحُكّام ؟!
الجواب الثالث : حديث المنزلة
وقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (( أنت مني بنزلة هارون من موسى غير النبوة )) ، أفَلستم تعلمون أن الخلافة غير النبوة ؟ ولو كان مع النبوة غيرها لاستثناه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
الجواب الرابع : حديث الثقلين
وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - (( إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي لا تتقدموهم ولا تتخلفوا عنهم ولا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم )) ، فينبغي أن لا يكون الخليفة على الامة إلا أعلمهم بكتاب الله وسنه نبيه وقد قال الله : {{ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }} سورة يونس 35
، وقال : {{ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ }} سورة البقرة 247
وقال : {{ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }} سورة الأحقاف 4
وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : (( ما ولَّت أمة قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا )) ، فما الولاية غير الإمارة على الامة !؟
الجواب الخامس : حديث التسليم على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين
والدليل على كذبهم وباطلهم وفجوورهم أنهم سلموا علي بإمرة المؤمنين بأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهي الحجة عليهم وعليك خاصة وعلى هذا الذي معك - يعني الزبير- وعلى الامة رأساً وعلى هذين - وأشار إلى سعد وابن عوف - وعلى خليفتكم هذا الظالم - يعني عثمان ...
الجواب السادس : الشورى التى أمر بها عمر
وإن معشر الشورى الستة أحياء كلنا ، فِلم جعلني عمر في الشورى إن كان قد صدق هو وأصحابه على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ أجلعنا في الشورى في الخلافة أم في غيرها ؟ فإن زعمتم أنه جلعها شورى في غير الإماره فليس لعثمان إماره علينا ولابد من أن نتشاور في غيرها لأنه أمرنا أن نتشاور في غيرها ؟ وإن كانت الشورى فيها فِلم أدخلني فيكم ؟ فهلا أخرجني وقد قال (( إن رسول الله - صلى لله عليه وآله وسلم أخرج أهل بيته من الخلافة فأخبر أنه ليس لهم فيها نصيب )) ؟!
الجواب السابع : ما قال عمر عند موته
ولِم قال عمر - حين دعانا رجلاً رجلاً - لابنه عبد الله - وها هو ذا 2 - أنشدك بالله ، ما قال لك حين خرجنا ؟ فقال عبد الله أما إذ ناشدتني فإنه قال : (( إن بايعوا أصلع بني هاشم حملهم على المحجة البيضاء ، وأقامهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم )) !
ثم قال عليه السلام : يابن عمر فما قلت أنت عند ذلك ؟
قال : قلت له ، فما يمنعك - يا أبه - أن تستخلفه ؟
قال : فما ردَّ عليك ؟
قال : ردَّ عليَّ شيئاً أكتمه !
قال عليه السلام : فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أخبرني بكل ما قال لك وقلت له .
قال : ومتى أخبرك ؟!
قال عليه السلام : أخبرني في حياته ثم أخبرني به ليلة مات أبوك في منامي ، ومن رآى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في المنام فقد رآه في اليقظة .
قال له ابن عمر : فما أخبرك ؟
قال عليه السلام : أنشدك بالله يا بن عمر ، لئن حدثتك به لتصدِّقني .
قال : أو أسكت !
قال : فإنه قد قال لك - حين قلت له (( فما يمنعك أن تستخلفه ؟ )) - قال : الصحفية التي كتبناها بيننا والعهد الذي تعاهدنا عليه في الكعبة في حجة الوداع ! فسكت ابن عمر فقال : أسألك بحق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما أمسكت عني !
قال سليم : فلقد رأيت ابن عمر في ذلك المجلس وقد خنقته العبرة وعيناه تسيلان دموعاً
شورى عمر غير الشرعية
ثم أقبل علي عليه السلام على طلحة والزبير وابن عوف وسعد قال : والله إن كان اولئك الخمسة كذبوا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فما يحل لكم ولايتهم ، وإن كانوا صدقوا ما حل لكم - أيها الخمسة - أن تدخلوني معكم في الشورى لأن إدخالكم إياي فيه خلاف على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورغبة عنه
الخلافة والإمامة فقط للأئمة الاثني عشر عليه السلام
ثم أقبل علي عليه السلام على الناس فقال : أخبروني عن منزلتي فيكم وما تعرفوني به ، أصدوق أنا عندكم أم كذاب ؟
فقالوا : بل صديق صدوق ، لا والله ما علمناك كذبت في جاهلية ولا إسلام .
قال عليه السلام : فو الله الذي أكرمنا أهل البيت بالنبوة فجعل منا محمداً وأكرمنا من بعده بأن جعلنا أئمة المؤمنين ، لا يبلغ 3 عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - غيرنا ولا تصلح الإمامة والخلافة إلا فينا ، ولم يجعل الله معنا أهل البيت لأحد من الناس فيها نصيباً ولا حقاً .
أما رسول الله ، فخاتم النبيين ليس بعده رسول ولا نبي ، ختم الأنبياء برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلي يوم القيامة ، وختم القرآن الكتب إلي يوم القيامة ، وجلعنا من بعده محمد خلفاء في أرضه وشهداء على خلقه وفرض طاعتنا في كتابه وقرننا بنفسه ونبيه في الطاعة في غير آية من القرآن ، والله جعل محمداً نبياً وجعلنا خلفاء من بعده في خلقه وشهداء على خلقه وفرض طاعتنا في كتابه المنزل ، ثم أمر الله جل وعز نبيه أن يبلغ ذلك أمته ، فلبغهم كما أمره الله عز وجل
من هو الأحق بمجلس رسول الله - صلى الله عليه وآل وسلم - ؟
فأيُّهما أحق بمجلس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبمكانه ، وقد سمعتم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- حين بعثني ببراءة فقال : (( إنه لا يصلح أن يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني )) ؟
فأنشدكم الله ، أسمعتم ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟
قالوا : اللهمَّ نعم ، نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين بعثك ببراءة .
قال : فلم يصلح لصاحبكم أن يبلغ عنه صحيفة قدر أربع أصابع ولم يصلح أن يكون المبلَّغ لها غيري ! فأيُّهما أحق بمجلسه ومكانه ؟ الذي سماه خاصة أنه من رسول الله أو من خص من بين هذه الامة أنه ليس من رسول الله ؟!4
ألم يقل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليبلغ الشاهد الغائب ؟
فقال طلحة : قد سمعنا ذلك من رسول الله ، ففسر لنا كيف لا يصلح لأحد أن يبلغ عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم - وقد قال لنا ولسائر الناس (( ليبلغ الشاهد منكم الغائب )) ، وقال بعرفة حين حج حجة الوداع : (( رحم الله أمرء سمع مقالتي فوعاها ثم أبلغها عني ، فربَّ حامل فقه ولا فقه له وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاثة لا يغلُّ 5 عليهن قلب امرء مسلم : إخلاص العمل لله ، والسمع والطاعة والمناصحة لولاة الأمر ، ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم محيطة من ورائهم )) ؛ وقام في غير موطن فقال : (( ليبلغ الشاهد الغائب )) ؟
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام : إن الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم غدير خم ويوم عرفة في حجة الوداع ويوم قبض 6 . فانظر في آخر خطبة خطبها حين قال (( إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما ، كتاب الله وأهل بيتي . فإن اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنهما لن يفترقا حتى يردا عليِّ الحوض كهاتين الإصبعين - وأشار بمسبحته والوسطى - فإن إحديهما قدام الاخرى فتمسكوا بهما لا تضلوا ولا تزلوا ، ولا تقدموهم ولا تخلِّفوا عنهم ولا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم ))
وإنما أمر العامة أن يبلغوا من لقوا من العامة بايجاب طاعة الأئمة من آل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وايجاب حقهم ، ولم يقل ذلك في شيئ من الأشياء غير ذلك ، وإنما أمر العامة أن يبلغوا العامة بحجة من لا يبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جميع ما بعثه الله به غيرهم .
ألا ترى يا طلحة ، إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال لي - وأنتم تسمعون - : (( يا أخي ، إنه لا يقضي عني ديني ولا يبرئ ذمتي غيرك . أنت تبرئ ذمتي وتؤدي أمانتي وتقاتل على سنتي ))
فلما ولّى أبو بكر هل قضى عن رسول الله دينه وعداته ؟
فأثبتُّهم جميعاً فقضيت دينه وعداته . وأخبرهم أن لا يقضي عنه دينه وعداته غيري . ولم يكن ما أعطاهم أبو بكر بقضاء لدينه وعداته ، وإنما كان قضاي دينه وعداته هو الذي أبرء ذمته وقضى أمانته
الأئمة عليهم السلام هم مبلِّغوا أوامر الله إلى الناس
و إنما يبلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جميع ما جاء عن الله عز وجل الأئمة الذين فرض الله طاعتهم في كتابه وأمر بولايتهم ، الذين من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله .
فقال طلحة : فرجت عني ، ما كنت أدري ما عنى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك حتى فسرته لي . فجزاك الله يا أبا الحسن خيراً عن جميع الامة
كلمة عن جمع القرآن
جمع أمير المؤمنين عليه السلام للقرآن
يا أبا الحسن ، شيئ أُريد أن أسألك عنه : رأيتك خرجت بثوب مختوم عليه فقلت : (( يا أيها الناس ، إني لم أزل مشغولاً برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، بغسله وتكفينه ودفنه ، ثم شغلت بكتاب الله حتى جمعته ، فهذا كتاب الله مجموعاً لم يسقط منه حرف )) ؛ فلم أرّ ذلك الكتاب الذي كتبت وألَّفت .
ولقد رأيت عمر بعث إليك - حين استخلف - أن ابعث به إليَّ ، فأبيت أن تفعل . فدعا عمر الناس ، فإذا شهد اثنان على آية قرآن كتبها وما لم يشهد عليها غير رجل واحد رماها ولم يكتبه! وقد قال عمر - وأنا أسمع - : (( إنه قد قتل يوم اليمامة رجل كانوا يقرؤون قرآناً لا يقرأه غيرهم فذهب )) ، وقد جاءت شاة إلى صحيفة - وكُتّاب عمر يكتبون - فأكلَتْها وذهب ما فيها ، والكاتب يومئذ عثمان ! فما تقولون ؟ 7
وسمعت عمر يقول وأصحابه الذين ألَّفوا ما كتبوا على عهد عثمان : (( إن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ، والنور ستون ومائة آية ، والحجرات تسعون آية )) ! فما هذا ؟
وما يمنعك - يرحمك الله - أن تخرج إليهم ما قد ألفت للناس ؟
وقد شهدت عثمان حين أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة ومزَّق مصحف أُبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار 8 فما هذا ؟
إملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على أمير المؤمنين عليه السلام
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يا طلحة ، إن كل آية أنزلها الله في كتابه على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - عندي بإملاء رسول الله وخطي بيدي ، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وكل حلال أو حرام أو حد أو حكم أو أي شيئ تحتاج إلية الامة إلى يوم القيامة عندي مكتوب بإملاء رسول الله وخط يدي حتى أرش الخدش .
قال طلحة : كل شيئ من صغير أو كبير أو خاص أو عام ، كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو مكتوب عندك ؟
قال : نعم وسوى ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أسرَّ إليَّ في مرضه مفتاح ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب ، ولو أن الامة منذ قبض الله نبيه اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم رغداً إلى يوم القيامة .
ما كتب في الكتف بإملاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
يا طلحة ، ألست قد شهدت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين دعا بالكتف ليكتب فيها ما لا تضل الامة ولا تختلف ، فقال صاحبك ما قال : (( إن نبي الله يهجر )) ! فغضب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم تركها ؟
قال : بلى ، قد شهدت ذلك .
قال : فإنكم لما خرجتم أخبرني بذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبالذي أراد أن يكتب فيها وأن يشهد عليها العامة . فأخبره جبرائيل عليه السلام (( أن الله عز وجل قد علم من الامة الاختلاف والفرقة )) ، ثم دعا بصحيفة فأملى عليَّ ما أراد أن يكتب في الكتف وأشهد على ذلك ثلاث رهط : سلمان وأبا ذر والمقداد ، ويسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر الله بطاعتهم إلى يوم القيامة . فسماني أولهم ثم ابني هذا - وأدنى بيده إلى الحسن - ثم الحسين ثم تسعه من ولد ابني هذا - يعني الحسين -
كذلك كان يا أبا ذر وأنت يا مقداد ؟
فقاموا وقالوا : نشهد بذلك على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
فقال طلحة : والله لقد سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول لأبي ذر : (( ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر ولا أبر عند الله )) ، وانا أشهد أنهما لم يشهدا إلا على حق ، ولأنت أصدق وآثر عندي منهما
ثم أقبل عليه السلام على طلحة فقال : اتق الله يا طلحة وأنت يا زبير وأنت يا سعد وأنت يابن عوف ، اتقوا الله وآثروا رضاه واختاروا ما عنده ولا تخافوا في الله لومة لائم .
سند القرآن الموجود في زماننا
قال طلحة : ما أراك - يا أبا الحسن - أجبتني عمّا سألتك عنه من أمر القرآن ! ألا تظهره للناس ؟
قال عليه السلام : يا طلحة ، عمداً كففت عن جوابك .
قال: فأخبرني عما كتب عمر وعثمان ، أقرآنٌ كله أم فيه ما ليس بقرآن ؟
قال عليه السلام : بل هو قرآن كله ، إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنة ، فإن فيه حجتنا وبيان أمرنا وحقنا وفرض طاعتنا
فقال طلحة : حسبي ، أما إذا كان قرآناً فحسبي .
ثم قال طلحة : فأخبرني عما في يدك من القرآن وتأويله وعلم الحلال والحرام ، إلى من تدفعه ومن صاحبك بعدك ؟
قال عليه السلام : إلى الذي أمرني رسول الله أن أدفعه إليه .
قال : من هو ؟
قال عليه السلام : وصيي وأولى الناس بالناس بعدي ، ابني هذا الحسن ، ثم يدفعه ابني الحسن عند موته إلى ابني هذا الحسين ، ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين ، حتى يرد آخرهم على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حوضه . وهم مع القرآن والقرآن معهم ، لا يفارقونه ولا يفارقهم .
اثنا عشر إمام ضلالة من قبائل قريش
أما إن معاوية وابنه سيليان بعد عثمان ، ثم يليهما سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص ، واحداً بعد واحد تكملة اثني عشر إمام ضلالة ،وهم الذين رآهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على منبره يردون أمته على أدبارهم القهقرى ؛ عشرة منهم من بني أمية ورجلان أسَّسا ذلك لهم ، وعليهما مثل أوزار هذه الامة .
فقالوا : يرحمك الله يا أبا الحسن وغفر لك وجزاك الله أفضل الجزاء عنا بنصحك وحسن قولك
(1). كان عبد الله بن عمر حاضر المجلس كما مر في صدر الحديث فأشار عليه السلام إليه وصيَّر الخطاب إليه
(2). قوله (( لا يبلغ ... )) جواب للقسم
(3) المراد أنا أحق بمقام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم - أو أبوبكر الذي علّم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمته في تبليغ سورة البراءة أنه خاصةً ليس من رسول الله
(4). روي البحار : ج21 ص 138 ح 33 عن الصادق عليه السلام قال : خطب رسول الله - صلى اله عليه وآله وسلم - في مسجد الخيف : نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم يبلغه .يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب . فرب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه . ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم . المؤمنون إخوة ، تتكافئ دماؤهم وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناها
والمراد من ذكر هذه الفقرة ايراد موارد قوله (( ليبلغ الشاهد الغائب ))
(5). معنى الجملة : أن قوله (( ليبلغ الشاهد الغائب )) كان في هذه المواضع الثلاثة
(6). لا يخفى أن هذا كله كلام طلحة في كيفية جمع القرآن كما يوجد مثله في كتب العامة أيضاً أنظر : منتخب كنز العمال ( ج2 ص 42 و45 ) مسند أحمد ( ج5 ص 117 ) كنز العمال ( ج2 ص 569) الإتقان (ج 2 ص 25 ) الدر المنثور ( ج6 ص 378)
ورى الفضل بن شاذان في كتاب الإيضاح ص 112 عن العامة : أن أبا بكر وعمر جمعا القرآن من أوله إلى آخره من أواه الرجال بشهادة شاهدين وكان الرجل الواحد منهم إذا اتى بآية سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقبلا منه إذا جاء اثنان بآية قبلاها وكتباها وأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف كانا وضعا صحيفة فيها القرآن ليكتباها فجاءت شاة فأكلت الصحيفة التي فيها القرآن ، فذهب من القرآن جميع ما كان في الصحيفة وأن عمر قال : لقد قتل باليمامة قوم يقرؤون قرآناً لا يقرؤه غيرهم ، فذهب من القرآن ما كان عند هؤلاء النفر
وأما كلام أمير المؤمنين عليه السلام في تأييد القرآن الموجود فسيجىء بعد أسطر
(7). روي في البحار ج8 طبع القديم ص 308 : أن عثمان جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة وأحرق المصاحف وكتب المصاحف السبعة المشهور بين القراء ؛ فبعث بواحد منها إلى الكوفة بواحد إلى البصرة وإلى كل من الشام ومكة واليمن والبحرين بواحد وأمسك في المدينة مصحفاً كانوا يقولون له (( الإمام ))
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله الطيبين المنتخبين
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في السنة
الأخيرة من عمره المبارك
أبان عن سليم قال : كنا جلوساً حول أمير المؤمنين عليه السلام وعنده جماعة وعنده جماعة من أصحابه ، فقال له قائل : يا أمير المؤمنين ، لو استنفرت الناس
فقام وخطب فقال : ألا إني قد استنفرتكم فلم تنفروا ونصحتكم فلم تقبلوا ، ودعوتكم فلم تسمعوا . فأنتم شهود كغياب وأحياء كأموات وصم ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة وأعظكم بالموعظة الشافية الكافية وأحثكم على الجهاد لأهل الجور ، فما آتي على آخر كلامي حتى أراكم متفرقين حلقاً شتى ، تتناشدون الأشعار وتضربون الأمثال وتسألون عن سعر التمر واللبن !
تبَّت أيديكم ، لقد سئمتم الحرب والاستعداد لها ، وأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها ، شغلتموها بالأباطيل والأعاليل ، ويحكم ، أُغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو الله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا . وأيم الله ما أظن أن تفعلوا حتى يفعلوا ثم وددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على بصيرتي ويقيني واسترحت من مقاساتكم ومن ممارستكم . فما أنتم إلا كإبل جمة ضل راعيها ، فكلما ضمت من جانب انتشرت من جانب . كأني بكم والله فيما رأى ، لو قد حمس الوغى واستحرَّ الموت قد انفرجتم عن علي بن أبي طالب انفراج الرأس وانفراج المرأة عن ولدها لا تمنع يد لامس .
لماذا لم يفعل أمير المؤمنين عليه السلام ما فعل عثمان من السكوت ؟
قال : الأشعث بن قيس الكندي : فهلا فعلت كما فعل ابن عفان ؟
فقال علي عليه السلام : يا عرف النار 1 ، أوَ كما فعل ابن عفان رأيتموني فعلت ؟ أنا عائذ بالله من شر ما تقول ، يابن قيس ، والله إن الذي فعل ابن عفان لمخزاة لمن لا دين له ولا الحق في يده ، فكيف أفعل ذلك وأنا على بينة من ربي وحجته في يدي والحق معي ؟!
والله إن امرء مكن عدوه من نفسه حتى يجزَّ لحمه ويفري جلده ويهشم عظمه ويسفك دمه وهو يقدر على أن يمنعه لعظيم وزره وضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره . فكن أنت ذلك يا بن قيس ! فأما أنا فدون - والله - أن اعطي بيدي ضرب بالمشرفي تطير له فراش الهام وتطيح منه الكف والمعصم ويفعل الله بعد ما يشاء
ويلك يا بن قيس ، المؤمن يموت بكل موتة غير أنه لا يقتل نفسه ، فمن قدر على حقن دمه ثم خلا بينه وبين قاتله فهو قاتل نفسه .
ويلك ياين قيس ، إن هذه الامة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة واحدة منها في الجنة واثنتان وسبعون في النار . شرها وأبغضها إلى الله وأبعدها منه السامرة الذين يقولون : " لا قتال " ، وكذبوا . قد أمر الله عز وجل بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسنةّ نبيه وكذلك المارقة
لماذا لم يقم أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف في قضايا السقيفة
فقال الأشعث بن قيس - وغضب من قوله - : فما يمنعك يابن أبي طالب حين بويع أخو تيم بن مرة وأخو بني عدي بن كعب وأخو بني أمية بعدهما ، أن تقاتل وتضرب بسيفك ؟ وأنت لم تخطبنا خطبة - منذ كنت قدمت العراق - إلا وقد قلت فيها قبل أن تنزل عن منبرك " والله إني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوماً منذ قبض الله محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - " فما منعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك ؟
فقال له علي عليه السلام : يابن قيس ، قلت فاسمع الجواب : لم يمنعني من ذلك الجبن ولا كراهيّة للقاء ربي ، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها ، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله سلم - وعهده إليَّ .
أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بما الامة صانعة بي بعده ، فلم أكُ بما صنعوا - حين عاينته - بأعلم مني ولا أشد يقيناً مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أشد يقيناً مني بما عاينت وشهدت . فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إليَّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعواناً فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعواناً فاكفف يدك واحقن دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعواناً
وأخبرني - صلى الله عليه وآله وسلم - أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري وتتبع غيري .
وأخبربني - صلى الله عليه وآله وسلم - أني منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الامة سيصيرون من بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل ومن تبعه ، إذ قال له موسى { يا هارونُ ، ما مَنَعَكَ إذْ رأيتهم ضلُوا ألا تتَّبعن أفعصيت أمري قال يابن أمَّ إن القوم اسْتضعفوني وكادوا يقتلونني } وقال : { يا بن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ، إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي } وإنما يعني : إن موسى أمر هارون - حين استخلفه عليهم - إن ضلوا فوجد أعواناً أن يجاهدهم ، وإن لم يجد أعواناً أن يكف يده ويحقن دمه ولا يفرق بينهم ، وإني خشيت أن يقول لي ذلك أخي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -(("لِم فرَّقت بين الامة ولم ترقب قولي وعهدت إليك إن لم تجد أعواناً أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهل بيتك وشيعتك "))
إقدام أمير المؤمنين عليه السلام لمحاربة أبي بكر وعمر
فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم مال الناس إلي أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بغسله ودفنه . ثم شغلت بالقرآن ، فآليت على نفسي أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمعه في كتاب ففعلت
ثم حملت فاطمة وأخذت بيد ابني الحسن والحسين ، فلم أدع أحداً من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله في حقي ودعوتهم إلى نصرتي ، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة رهط : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير ، ولم يكن معي أحد من اهل بيتي أصول به ولا أقوى به ،أما حمزة فقتل يوم أحد ، وأما جعفر قتل يوم مؤته ، وبقيت بين جفلين جافيين ذليلين حقيرين عاجزين : العباس و عقيل ، وكانا قريبي العهد بكفر .
فأكرهوني وقهروني ، فقلت كما قال هارون لأخيه ، (( يابن ام ، إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني )) فلي بهارون أسوة حسنة ولي بعهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة قوية .
قال عليه السلام : فقال الأشعث : كذلك صنع عثمان ، استغاث بالناس ودعاهم إلى نصرته فلم يجد أعوناً فكف يده حتى قتل مظلوماً
قال عليه السلام : ويلك يا بن قيس ، إن القوم - حين قهروني واستضعفوني وكادوا يقتلونني - لو قالوا لي : (( نقتلك البتة )) لامتنعت من قتلهم إياي ولو لم أجد غير نفسي وحدي ، ولكن قالوا : (( إن بايعت كففنا عنك وأكرمناك وقربناك وفضلناك وإن لم تفعل قتلناك )) فلما لم أجد أحداً بايعتهم ، وبيعتي إياهم ا يحق لهم باطلاً ولا يوجب لهم حقاً
فلو كان عثمان - حين قال له الناس (( أخلعها ونكف عنك )) - خلعها لم يقتلوه ، ولكنه قال لا أخلعها . قالوا (( فإنا قاتلوك )) ، فكف يده عنهم حتى قتلوه ، ولعمري لخلعه إياها كان خيراً له ، لأنه أخذها بغير حق ولم يكن له فيها نصيب وادعى ما ليس له وتناول حق غيره
عثمان أعان على قتل نفسه
ويلك يابن قيس إن عثمان لا يعدو أن يكون أحد رجلين : إما أن يكون دعا الناس إلى نصرته فلم ينصروه ، وإما أن يكون القوم دعوه إلي أن ينصروه فنهاهم عن نصرته ، فلم يكن يحل له أن ينهي المسلمين عن أن ينصروا إماماً هادياً مهتدياً لم يحدث حدثاً ولم يؤوِ محدثاً . وبئس ما صنع حين نهاهم ! وبئس ما صنعوا حين أطاعوه ! وإما أن يكون جوره وسوء سريرته قضى أنهم لم يروه أهلاً لنصرته لجوره وحكمه بخلاف الكتاب والسنه .
وقد كان مع عثمان - من أهل بيته ومواليه وأصحابه - أكثر من أربعة آلاف رجل ، ولو شاء أن يمتنع بهم لفعل ، فلِم نهاهم عن نصرته ؟ ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم تتمة أربعين رجلاً مطيعين لي لجاهدتهم ، وأما يوم بويع عمر وعثمان فلا ، لأني قد كنت بايعت ومثلي لا ينكث بيعته .
مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في الحروب
ويلك يابن قيس ، كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان إذ وجدت أعواناً ؟ هل رأيت مني فشلاً أو تأُخُّراً أو جبناً أو تقصيراً في وقعتي يوم البصرة وهم حول جملهم .
الملعون من معه ، الملعون من قتل حوله ، المعلون من رجع بعده لا تائباً ولا مستغفراً ، فإنهم قتلوا أنصاري ونكثوا بيعتي ومثَّلوا بعاملي وبغوا عليَّ ، وسرتُ إليهم في اثني عشر ألفاً وهم نيف على عشرين ومائة ألف ، فنصرني الله عليهم وقتلهم بأيدينا وشفى صدور قوم مؤمنين
وكيف رأيت يابن قيس وقعتنا بصفين وما قتل الله منهم بأيدينا خمسين ألفاً في صعيد واحدٍ إلى النار .
وكيف رأيتنا يوم النهروان ، إذ لقيت المارقين وهم مستمسكون يومئذ بدين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ؟ فقتلهم الله بأيدينا في صعيد واحد إلى النار لم يبق منهم عشرة ولم يقتلوا من المؤمنين عشرة .
ويلك يا بن قيس ، هل رأيت لي لواء ردَّ أو راية ردَّت ؟ إياي تُعيِّر يابن قيس ؟ هل رأيت لي لواء ردَّ أو راية ردَّت ؟ إياي تُعيِّر يابن قيس ؟ وأنا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في جميع مواطنه ومشاهده والمتقدم إلى الشدائد بين يديه ، لا أفر ولا أزول ولا أعيى ولا أنجاز ولا أمنح العدو دبري ، لأنه لا ينبغي للنبي ولا للوصي إذا لبس لامَته وقصد لعدوه أن يرجع أو ينثني حتى يقتل أو يفتح الله له .
لو وجدت أربعين رجلاً مثل الأربعة !!
يابن قيس ، هل سمعت لي بفرار قط أو نَبوةٍ ؟ يابن قيس ، أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إني لو وجدت يوم بويع أخو تيم - الذي عيَّرتني بدخولي في بيعته - أربعين رجلاً كلهم على مثل بصيرة الأربعة الذين قد وجدت لما كففت يدي ولناهضت القوم ، ولكن لم أجد خامساً فأمسكت .
قال الأشعث : فمن الأربعة ، يا أمير المؤمنين ؟
قال عليه السلام : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير بن صفية قبل نكثه بيعتي ، فإن بايعني مرتين : أما بيعته الأولى التي وفى بها فإنه لما بويع أبو بكر أتاني أربعون رجلاً من المهاجرين والأنصار فبايعوني وفيهم الزبير ، فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي محلقين رؤوسهم عليهم السلاح ، فما وفى لي ولا صدَّفني منهم أحد غير الأربعة : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير .
وأما بيعته الأخرى إياي ، فإنه أتاني هو وصاحبه طلحة بعد ما قتل عثمان فبايعني طائعين غير مكرهين ، ثم رجعا عن دينهما مرتدَّين ناكثين مكابرين معاندين خاسرين ، فقتلهما الله إلى النار ، وأما الثلاثة سلمان وأبوذر والمقداد - فثبتوا على دين محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -وعلى ملة إبراهيم حتى لحقوا بالله يرحمهم الله .
يا بن قيس ، والذي فلق الحبة وبرء النسمة ، لو أن أولئك الأربعين الذين بايعوا وفَوا لي وأصبحوا على بابي محلقين رؤوسهم قبل أن تجب لعتيق في عنقي بيعته لناهضته وحاكمته إلى الله عز وجل ، ولو وجدت قبل بيعة عثمان أعواناً لناهضتهم وحاكمتهم إلى الله ، فإن ابن عوف جعلها لعثمان واشترط عليه فيما بينه وبينه أن يردها عليه عند موته ، وأما بعد بيعتي إياهم فليس إلى مجاهدتهم سبيل
الشيعة ، النواصب ، المستضعفون
فقال الأشعث : والله لئن كان الأمر كما تقول هلكت أمة محمد غيرك وغير شيعتك
فقال علي عليه السلام : فإن الحق والله معي يابن قيس كما أقول . وما هلك من الامة إلا الناصبون والناكثون والمكابرون والجاحدون والمعاندون : فأما من تمسك بالتوحيد والإقرار بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - والإسلام ولم يخرج من الملة ولم يظاهر علينا الظلمة ولم ينصب لنا العداوة وشك في الخلافة ولم يعرف أهلها ووُلاتها ولم يعرف لنا ولاية ولم ينصب لنا عداوة ، فإن ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة الله ويتخوف عليه ذنوبه .
قال أبان : قال سليم بن قيس : فلم يبق يومئذ من شيعة علي عليه السلام أحد إلا تهلل وجهه وفرح بمقالته ، إذ شرح أمير المؤمنين عليه السلام الأمر وباح به وكشف الغطاء وترك التقية . ولم يبق أحد من القرأء ممن كان يشك في الماضين ويكف عنهم ويدع البراءة منهم ورعاً وتأُثماً إلا استيقن واستبصر وحسن رأيه وترك الشك يومئذ والوقوف . ولم يبق حوله ممن أبى بيعته إلا على وجه ما بويع عليه عثمان والماضون قبله إلا رُئي ذلك في وجهه وضاق به أمره وكره مقالته ، ثم إنه استبصر عامتهم وذهب شكهم 2
قال أبان عن سليم : فما شهدت يوماً قط على رؤوس العامة كان أقر لأعيُننا من ذلك اليوم ، لما كشف أمير المؤمنين عليه السلام للناس من الغطاء وأظهر فيه من الحق وشرح فيه من الأمر والعاقبة وألقى فيه من التقية ؛ وكثرت الشيعة بعد ذلك المجلس من ذلك اليوم وتكلموا ؛ وقد كانوا أفل أهل عسكره وسائر الناس يقاتلون معه على غير علم بمكانه من الله ورسوله ؛ وصارت الشيعة بعد ذلك المجلس أجل الناس وأعظمهم
شهادة أمير المؤمنين عليه السلام
وذلك بعد وقعهة أهل النهروان وهو يأمر بالتهيئة والمسيرة إلى معاوية ، ثم لم يلبث أن قتل صلوات الله عليه ، قتله ابن ملجم لعنه الله غيلةً وفتكاً ، وقد كان سيفه مسموماً قد سمَّه قبل ذلك ، وصلى الله على سيدنا أمير المؤمنين وسلَّم تسلمياً
(1) خطاب إلى الأشعث بن قيس . روي في البحار ج 41 ص 206 أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يسمي أشعثاً (( عتق النار )) فسئل عن ذلك فقال : إن الأشعث إذا حضرته الوفاة دخل عليه عنق من النار ممدود من السماء فتحرقه وقت وفاته ، فلا يدفن إلا وهو فحمة سوداء . فلما توفي نظر سائر من حضر إلى النار وقد دخلت عليه كالعتق الممدود حتى أحرقته وهو يصبح ويدعو بالويل والثبور
(2) المراد أن عدداً من الناس أبوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام إلا على وجه ما بويع أبو بكر وعمر وعثمان وهؤلاء لما سمعوا هذه الخطبة والاحتجاج منه عليه السلام كرهوا مقالته ورُئي أثر الكراهة في وجوههم (( و ج )) : ولم يبق أحد ممن أبى بيعته على وجه الأرض ممن بايع عثمان بلغه ذلك إلا ضاق صدره وكره مقالته
قال أبان عن سليم ، قال : انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - ، ليس فيها إلا هاشمي غير سلمان وأبي ذر والمقداد ومحمد بن أبي بكر وعمر بن أبي سلمة وقيس بن سعد بن عبادة
فقال العباس لعلي عليه السلام : ما ترى عمر منعه من أن يغرم قتفذاً كما أغرم جميع عماله ؟ فنظر علي عليه السلام إلى من حوله ثم اغرورقت عيناه بالدموع ، ثم قال : شكر له ضربة ضربها فاطمة عليها السلام بالسوط ، فماتت وفي عضدها أثره كأنه الدملج .
ثم قال عليه السلام : العجب مما أشربت قلوب هذه الامة من حب هذا الرجل وصاحبه من قبله ، والتسليم له في كل شيئ أحدثه ! لئن كان عماله خوَنه وكان هذا المال في أيديهم خيانةً ما كان حل له تركه ، وكان له أن يأخذه كله فيئ المسلمين ، فماله يأخذ نصفه ويترك نصفه ؟ ولئن كانوا غير خوَنة فما حل له أن يأخذ أموالهم ولا شيئاً منهم قليلاً ولا كثيراً ، وإنما أخذ أضعافها . ولو كانت في أيديهم خيانة ثم لم يقروا بها ولم تقم عليهم البينة ما حل له أن يأخذ منهم قليلاً ولا كثيراً وأعجب من ذلك إعادته إياهم إلى أعمالهم ! لئن كانوا خوَنة ما حل له أن يستعملهم ، ولئن كانوا غير خوَنة ما حلت له أموالهم .
أمير المؤمنين عليه السلام يتعجب من ميل الناس إلى البدع
ثم أقبل علي عليه السلام على القوم فقال : العجب لقوم يرون سنة نبيهم تتبدل وتتغير شيئاً شيئاً وباباً باباً ثم يرضون ولا ينكرون ، بل يغضبون له ويعتبون على من عاب عليه وأنكره ! ثم يجيئ قوم بعدنا ، فيتَّبعون بدعته وجوره وأحداثه ويتَّخذون أحداثه سنة وديناً يتقربون بها إلى الله في مثل :
تحويله مقام إبراهيم عليه السلام من الموضع الذي وضعه فيه رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم إلى الموضع الذي كان فيه في الجاهلية الذي حوَّله منه رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم 1
وفي تغييره صاع رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم ومده ، وفيهما فريضة وسنة . فما كان زيادته إلا سوء لأن المساكين – في كفارة اليمين والظهار – بهما يعطون ما يجب من الزرع . وقد قال رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم(( اللهمَّ بارك لنا في مدّنا وصاعنا )) . لا يحولون بينه وبين ذلك 2 ، لكنهم رضوا وقبلوا ما صنع
وقبضه وصاحبه فدك وهي في يد فاطمة عليها السلام مقبوضة قد أكلت غلتها على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . فسألها البينة على ما في يدها ولم يصدِّقها ولا صدَّق أم أيمن . وهو يعلم يقيناً – كما نعلم – أنها في يدها . ولم يكن يحل له أن يسألها البينة على ما في يدها ولا أن يتهمها . ثم استحسن الناس ذلك وحمدوه وقالوا : (( إنما حمله على ذلك الورع والفضل )) !!
ثم حسن قبح فعلهما أن عدلا عنها فقالا : (( نظن إن فاطمة لن تقول إلا حقاً وإن علياً لم يشهد إلا بحق . ولو كانت مع أم أيمن امرأة أخرى أمضيناها لها )) . فحَظَيا بذلك عند الجهال ! وماهما ومن أمرهما أن يكونا حاكمَيْن فيعطيان أو يمنعان ؟! ولكن الامة ابتلوا بهما فأدخلا أنفسهما فيما لا حق لهما في ولا علم لهما به . وقد قالت فاطمة عليها السلام لهما – حين أراد انتزاعها وهي في يدها – (( أليست في يدي فيها وكيلي وقد أكلت غلتها ورسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم حي )) ؟
قالا : بلى . قالت : (( فِلمَ تسألني البينة على ما في يدي )) ؟ قالا : لأنها فيئ المسلمين ، فإن قامت بينة وإلا لم نمضها !
قالت لهما – والناس حولها يسمعون - : (( أفتريدان أن تردّا ما صنع رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم وتحكما فينا خاصة بما لم تحكما في سائر المسلمين ؟! أيها الناس ، اسمعوا ما ركباها أرأيتما إن ادَّعيت ما في أيدي المسلمين من أموالهم ، أتسألونني البينة أم تسألونهم )) ؟
قالا : بل نسألك .
قالت : (( فإن ادعى جميع المسلمين ما في يدي تسألونهم البينة أم تسألونني )) ؟
فغضب عمر وقال : إن هذا فيئ للمسلمين وأرضهم ، وهي في يدي فاطمة تأكل غلتها ، فإن أقامت بينة على ما ادعت أن رسول الله وهبها لها من بين المسلمين – وهي فيئهم وحقهم – نظرنا في ذلك !
فقالت : حسبي ! أنشدكم بالله أيها الناس ، أما سمعتم رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلم – يقول : (( إن ابنتي سيدة نساء أهل الجنة )) ؟ قالوا : اللهمَّ نعم ، قد سمعناه من رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم .
قالت : أفسيدة نساء أهل الجنة تدعي الباطل وتأخذ ما ليس لها ؟ أرأيتم لو أن أربعة شهدوا عليَّ بفاحشة أو رجلان بسرقة أكنتم مصدقين عليَّ ؟ فأما أبو بكر فسكت ، وأما عمر فقال : نعم ، ونوقع عليك الحد !
فقالت : كذبت ولؤمت ، إلا تقرَّ أنك لست على دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم . إن الذي يجيز على سيدة نساء أهل الجنة شهادة أو يقيم عليها حداً لملعون كافر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن من (( أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً )) لا يجوز عليهم شهادة لأنهم معصومون من كل سوء مطهرون من كل فاحشة . حدَّثني يا عمر من أهل هذه الآية ، لو أن قوماً شهدوا عليهم أو على أحد منهم بشرك أو كفر أو فاحشة كان المسلمون يتبرؤون منهم ويحدونهم ؟ قال نعم ، وما هم وسائر الناس في ذلك إلا سواء !!
قالت : كذبت وكفرت ، وماهم وسائر الناس في ذلك سواء لأن الله عصمهم ونزل عصمتهم وتطهيرهم وأذهب عنهم الرجس . فمن صدق عليهم فإنما يكذب الله ورسوله فقال أبو بكر : أقسمت عليك يا عمر لما سكتّ !!
مؤامرة لقتل أمير المؤمنين عليه السلام
فللما أن كان الليل أرسلا إلى خالد بن الوليد فقالا : إنا نريد أن نسر إليك أمراً ونُحملكه لثقتنا بك . فقال : احملاني على ما شئتما ، فإني طوع أيديكما . فقالا له
(( إنه لا ينفعنا ما نحن فيه من الملك والسلطان ما دام علي حياً ! أما سمعت ما قال لنا وما استقبلنا به ؟ ونحن لا نأمنه أن يدعو في السر فيستجيب له قوم فيناهضنا فإنه أشجع العرب ، وقد ارتكبنا منه ما رأيت وغلبناه على ملك ابن عمه ولا حق لنا فيه ، وانتزعنا فدك من امرأته ، فإذا صليت بالناس صلاة الغداة فقم إلى حنبه وليكن سيفك معك فإذا صليت وسلمت فاضرب عنقه )) !
قال علي عليه السلام : فصلى خالد بن الوليد بجنبي متقلداً السيف . فقام أبو بكر في الصلاة وجعل يؤامر نفسه وندم وأسقط في يده ( أي تحير ) حتى كادت الشمس أن تطلع ! ثم قال – قبل أن يسلم - : (( لا تفعل ما أمرتك )) ثم سلم !! فقلت لخالد : وما ذاك ؟ قال : كان قد أمرني إذا سلم أن أضرب عنقك !! قلت أوَ كنت فاعلاً ؟ قال : إي وربي إذاً لفعلت !
قال سليم : ثم أقبل عليه السلام على العباس وعلى من حوله ، ثم قال :ألا تعجبون من حسبه وحبس صاحبه عنّا سهم ذي القربى الذي فرضه الله لنا في القرآن ؟ وقد علم الله أنهم سيظلموناه وينتزعونه منا . فقال (( إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ )) الأنفال 41
والعجب لهدمه منزل أخي جعفر وإلحاقه في المسجد ، ولم يُعط بنيه من ثمنه قليلاً ولا كثيراً . ثم لم يعب ذلك عليه الناس لم يغيَّروه ، فكأنما أخذ منزل رجل من الديلم
والعجب لجهله وجهل الامة أنه كتب إلى جميع عمّاله : (( أن الجنب إذا لم يجد الماء فليس له أن يصلي وليس له أن يتيمم بالصعيد حتى يجد الماء وإن لم يجده يلقى الله))
ثم قبل الناس على ذلك ورضوا به ، وقد علم الناس أن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم قد أمر عماراً وأمر أبا ذر أن يتيمما من الجنابة ويصليا وشهدا به عنده وغيرهما فلم يقبل ذلك ولم يرفع به رأساً .
والعجب لما خلطا قضايا مختلفة في الجد بغير علم وتعسفاً وجهلاً وادعائهما ما لم يعلما جرأة على الله وقلة ورع إدعيا أن رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم مات ولم يقض في الجد شيئاً منه ( أي الميراث ) ولم يدع أحد يعلم ما للجد من الميراث ! ثم تابعوهما على ذلك وصدقوهما
وعتقه أمهات الأولاد فأخذ الناس بقوله وتركوا أمر رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم
وما صنع بنصر بن الحجاج وبجعدة من سليم وبابن وبرة
وأعجب من ذلك أن أبا كنف العبدي أتاه فقال : (( إني طلقت إمرأتي وأنا غائب فوصل إليها الطلاق . ثم راجعتها وهي في عدتها وكتبت إليها فلم يصل الكتاب إليها حتى تزوجت )) فكتب له (( إن كان هذا الذي تزوَّجها قد دخل بها فهي امرأته ، وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك )) !!
وكتب وانا شاهد ؛ فلم يشاورني ولم يسألني ، ويرى استغناءه بعلمه عني ، فأردت أن أنهاه ، ثم قلت (( ما أبالي أن يفضحه الله)) ثم لم يعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبلوه منه ورأوه صواباً ! وذلك قضاء لو قضى به مجنون نحيف سخيف لما زاد
ثم تركه من الأذان (( حيَّ على خير الأعمل ))فاتخذوه سنة وتابعوه على ذلك
وقضيته في المفقود وأن ((أجل امرأته أربع سنين ، ثم تتزوج ، فإن جاء زوجها خير بين امرأته وبين الصداق ))فاستحسنه الناس واتخذوه سنة وقبلوه منه جهلاً وقلة علم بكتاب الله عز وجل وسنه نبيه
وإخراجه من المدينة كل أعجمي
وإرساله إلى عماله بالبصرة بحبل طوله خمسة أشبار قوله (( من أخذتموه من الأعاجم فبلغ طوله هذا الحبل فاضربوا عنقة )) !
ورده سبايا تستر وهن حبالى !!
وإرساله بحبل في صبيان سرقوا بالبصرة : وقوله (( من بلغ طوله هذا الحبل فاقطعوه ))
وأعجب من ذلك أن كذّاباً رجم بكذبة فقبلها الجهال فزعموا أن الملك ينطق على لسانه ويلقنه !
وإعتاقه سبايا أهل اليمن