شيعي حسيني
|
رقم العضوية : 21832
|
الإنتساب : Aug 2008
|
المشاركات : 7,059
|
بمعدل : 1.19 يوميا
|
|
|
|
كاتب الموضوع :
نسايم
المنتدى :
المنتدى الثقافي
بتاريخ : 21-03-2009 الساعة : 12:07 AM
تجارب نسائية في القصة القصيرة
ما أكثر ما نُعِيتْ القصة القصيرة إزاء الفورة الروائية في العقدين الأخيرين! إن التبصّر في هذا (النعي) هو الدافع إلى تقديم هذه القراءة في تسع من المجموعات القصصية لتسع كاتبات من شتّى الأقطار العربية, وبينهن من كتبن الرواية, ذلك أنّي من المتشككين في جدية هذا (النعي) على الرغم من قلّة متابعتي للقصة القصيرة, وعلى الرغم من انصرافي شبه الكامل إلى الرواية ونقدها, إن لم أقل: على الرغم من انحيازي لها.
1 ـ "عكر امرأة" لعفاف البطانية (الأردن)
قبل ظهور (القصة القصيرة جداً) كان قَدُّ (القصة) قد أخذ يقصر من (القصة الطويلة) في سبع صفحات أو عشر مثلاً, إلى (القصة القصيرة) في صفحة أو اثنتين أو أربع, مثلاً. ومن جهة أخرى أخذت القصة الطويلة كما كتبها عبد السلام العجيلي أو غادة السمان, تندر. ومن جهة ثالثة أخذت القصة الطويلة تناوش الرواية حين يطول قدها (تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم, مثلاً) والتبس الاصطلاح بين الرواية القصيرة والقصة الطويلة التي ظهرت بغتة في مجموعة (عكر امرأة) لعفاف البطاينة, فبلغت في القصة الأولى (الخروج من الزنزانة) عشرين صفحة, وستاً وعشرين صفحة في القصة التي حملت المجموعة عنوانها, ولم تقلّ أي من القصص الباقية عن خمس عشرة صفحة سوى قصة (رب هذا العصر) التي جاءت في عشر صفحات. وبالطبع, فالمهم في هذا كله, هو ما يعنيه من إضاءة الحدث
أو تعدد الأحداث, ومن رسم الشخصية أو الشخصيات,
ومن الزمن أيضاً, كما سنتبين في قصص عفاف البطاينة التي آثرت ألاّ تعيّن الفضاء كاستراتيجية, وإن تكن قد جهدت في تأثيثه غالباً, وبتشغيل الاستراتيجية نفسها ـ غالباً أيضاً ـ في الزمن.
ففي قصة (الخروج من الزنزانة) يُطلق سراح السجين من زنزانته بعد ثلاثين سنة, فيبحث عن بقايا الحياة فيه, لكنه لا يقع إلا على تماثيل الموت. وإذا كانت بوابة السجن تبدو لـه حفرة بلا قرار, فقد هجم عليه خارج العالم القبيح, وعندها انتظرته حقيبته ثلاثين سنة, فوجد فيها الصور والكتب والأحلام والعقيدة و... حتى الوطن.
عند البوابة انقرض البشر وبقي السجين, لذلك يعود إلى السّجان: "نسيت نفسي وحريتي" فيقذفه السجان ليخبط في الفضاء إلى أن يلفي نفسه أمام الكهف / الهرم/ المعبد/ القلعة/ البيت, تقذفه ذاكرته: أنت حر, ويقذفه الألم: أنت حر, ويرفضه الموت فيمتلىء بدمار العالم, ويلجأ إلى الغابة حيث يرى فتى وفتاة تشتبك كلماتهما بالدمار العميم (أسود/ بيضاء ـ مذكر/ مؤنث ـ شرقية/ غربي ـ كافر/ مؤمنة) فيفترقان إلى أن يجمعهما الأمل. أما السجين فيمضي إلى بداية الحضارة ليلقى كوناً آخر لعله الجنة أو لعله الجحيم, ورائحة العظام التي لم تتحلل تدفعه إلى زنزانته وتحرضه على استعادة حريته. ولكن لا يقبله إلا الكهف, حيث يجد كل شيء كما كان قبل ثلاثين سنة, فيبدأ بالكتابة: "ليمت التاريخ, لتمت العقائد, لتمت الفروقات, لتمت الدول, ليمت الحكام, لتمت الأوهام...". وإثر الكتابة تقوى رائحة الموت وتطير إلى السجين حريته, وتدخله والموت يصرخ به: أنت حرّ.
في هذه القصة تندغم الفكرية في النسيج الذي ابتدعته المخيلة, وهو ما يتحقق بدرجة أدنى في قصة "طقوس عصر المدنيّة" التي يبحث فيها الراوي عن منابت طقوس قتل الأنثى في المدينة, مما يعاقب عليه العالم, بينما تقلد المدينة الأوسمة لمن يقوم بها. وإذ يتصدى الراوي والشباب لتلك الطقوس, يباغتهم كل يوم من يتحكم بمصير فتيات المدينة بأسلوب جديد ومن مكان جديد. وتبلغ غاية ذلك في دعوى الرئيس: بلدنا ديمقراطي ونحن نفضل شرب الدماء, فلكل حرية الاختيار في عصر الحريات والمدنيات, لذلك يباح شرب دم الأنثى ودم من يتصدى للطقوس. أما ضغط الفكرية فيختم القصة بقول الراوي: "أسأل إن كنت حقاً أعيش في عصر المدنية". وضغط الفكرية سيودي بقصة
(رجل قرادة بامتياز) وهو يمطّها بعدما ابتدأت بما يصلح لأن يكون قصة قصيرة جداً بامتياز, ترجّع صدى التامرية ـ من زكريا تامر ـ حيث أجمع صانعو القرار في إمبراطورية (هذا) والمقيمون في إمبراطوريات (أولئك) على الرجل المناسب لتحقيق الحلم.
وبينما يريد (هذا) تنقية إمبراطوريته من (هؤلاء) يريد (هؤلاء) الاستقلال عن إمبراطورية (هذا) و(أولئك), و(أولئك) يخشون أن تصبح إمبراطوريتهم مزبلة لفضلات إمبراطورية (هذا).
هاهنا يبدو أن القصة القصيرة جداً قد انتهت, لكن الراوي يتحول إلى قرادة ليحقق الحلم بعون الأقوياء والأغنياء ورجال الدين. ويستغرق ذلك الصفحات التالية من القصة, مثقلة بالتناص مع التوراة لتوكيد الدلالة على المشروع الصهيوني. وسوف يثقل التناص مع الشعر على القصة الأخيرة (شريعة العشب المطلقة), سواء أكان الشعر للكاتبة أم لسواها, فجاءت القصة نجوى عاشقين وحسب.
إن النزوع إلى الحرية هو الوشم الذي تحمله قصص (عكر امرأة) جميعاً. وإلى هذا النزوع ومنه تنبثق وتعود النقدية التي لا توفّر المجتمع والذكورة والحضارة والعصر. فقصة (جنون وربما شفاء) تسوق في مونولوج طويل تمرد الراوية على قوانين الجزيرة التي نبذتها. وقصة (رب هذا العصر) التي ترويها من هجرها زوجها. تلجأ إلى كتاب حروب القرن العشرين فتصليها الكوابيس حتى تفيق وتمزق الكتاب وتشاهد الأخبار, وتختم القصة قائلة: "وكدت أضحك وأنا أشاهد رب هذا العصر يخطب بجنوده وينصبهم جنوداً على أمن العالم".
يشغل عور الظلم والاستغلال قصة (عينان كحبتي زيتونة), كما يشغل قصة (بكاء قصيدة) عائق الدين أمام زواج نضال من الشاعر الذي تعشقه, لكنها سترفضه لأنه تخلى عن مبدئيته ورضخ لاشتراط والدها أن يبدل دينه. ولئن
كانت هذه القصص الثلاث تبدو متواضعة, فقد تألقت قصة (عكر امرأة) على النحو الذي كان لقصة (الخروج من الزنزانة). وكما بدا الرهان على نشاط المخيلة في اندغام الفكرية في نسيج هذه القصة, بدا الرهان على البناء وعلى بناء الشخصية في قصة
(عكر امرأة), حيث نرى في لحظتها الأولى (قمصان متشابكة) شخصيات القصة (الزوجان علي وغادة والزوجان هدى وعمر) يتنازعون قميصاً واحداً هو قميص الحب والمؤسسة الزوجية في مدينة الأوجاع التي لا تعيّنها القصة, لكنها تؤثثها كمدينة خليجية.
من حيرة عمر إلى حيرة غادة, ومن الساردة إلى ما تسرده كلٍّ من شخصيات القصة بضمير المتكلم, يتكشف انهيار المؤسسة الزوجية, وتتقابل لحظتا القصة (منطق حضارة) و(منطق مدن الأوجاع). فالمنطق الأول يجعل عليّ يسلم لزوجته بعشقها لعمر, والثاني يجبه بمشهد جَلْد المارقة.
وفي النهاية يغادر العاشقان مؤسستيهما مخلّفين الـ (عكر في الرمال) كما هو عنوان اللحظة الأخيرة من القصة
أما صوت عفاف البطاينة فلا يفتأ ينده تبديداً لمكابدات الأنثى بخاصة, ولمكابدات الإنسان بعامة, مفتوناً بالتخييل ونابضاً بالنقدية, لعله يعيد الاعتبار للقصة, سواء أكانت طويلة أم قصيرة جداً, بعدما بدت الرواية تسحب البساط من تحتها, وليس فقط من تحت الشعر.
إرادة الجبوري: فقدانات (العراق)
لم تزل الكاتبة العراقية إرادة الجبوري وفية للقصة القصيرة, وإن تكن قد كتبت رواية واحدة هي (عطر التفاح ـ 1996) وكتاباً للأطفال هو (إنانا ابنة بابل ـ 1996) فبعد مجموعاتها القصصية الأربع التي صدرت خلال العقد الأخير من القرن الماضي (شجرة الأمنيات ـ غبار المدن ـ في الغابة ـ على مسافة غربة) هاهي مجموعتها الخامسة (فقدانات) تصدر في صنعاء العام الماضي. ولعل القارىء ليس بحاجة إلى معلومة سابقة أو لاحقة لقراءته هذه المجموعة كي يعرف أن الكاتبة عراقية مسكونة بالحرب أيضاً هي محور آخر ينأى كسابقه عن أن تكون المجموعة جمعاً لقصص شتى. وإلى ذلك تنضاف سمة بارزة في (فقدانات) هي كشف الكاتبة للمماهاة بينها وبين الساردة في بعض القصص, مما يلفع هاته القصص بالسيرية, كما تلفع القصة الأولى (صور) السيرةُ النصية, أو ما لعله الميتا قصة تيمناً بالميتا رواية.
فالكاتبة تؤكد منذ البداية أنها بطلة "بطريقة ما عاشت حكاية قصّ هذه الحكاية" وشية أن تتحول الحكاية إلى قصة من قصصها, آثرت سردها, والتخلص منها. وفي هذه البداية الطويلة ما يدفع بالقراءة إلى مسائلة الكاتبة عن مفهومها للحكاية والقصة, فهي تجزم أن (صور) ليست قصة, بل حكاية حدثت فعلاً, وما زال بعض شهودها أحياء, لكأن مفهوم القصة يعني بالضرورة ألا تكون قد حدثت.
والكاتبة تعلل تصنيف (صور) بالحكاية, بافتقادها الأبطال, مما أعطى الحكاية معناها واسمها, ثم تضيف أن ما يجعلها تكتب (صور) هو حكاية أخرى لا يمكن أن تأخذ شكل الحكاية إلا بعد أن ينتهي دورها منها, أي لكأن الحكاية لا تصير كذلك إلا بعد انتهاء دور السارد. وبعد كل ذلك تتساءل الكاتبة عن نجاحها في صنيعها, وهي تستعير "رموزاً للتعبير عن حقائق ووقائع وحيوات", فماذا تفعل القصة سوى ذلك؟ وماذا يعني إذن ـ إلا أن يكون الالتباس والإثقال على القصة بهذه البداية الطويلة ـ أن تعلن الكاتبة محاولتها كتابة الحكاية كما شهدتها "من دون أي رتوش أو اعتبارات لتيارات كتابة القصة وليغضب النقاد؟" بل ماذا يعني أن تعرف الكاتبة بطل القصة بأنه من عاش الحكاية" وما نقوم به نحن هو سرد ما ظهر لنا كشهود لها؟".
بعد هذا كله تبدأ القصة: إنها قصة صور الجد والأب والعم كما تسردها الجدة والأم على الساردة.
بالأحرى إنها قصة الفقد الذي أودى بالجد بلا علة ظاهرة, لكأن الفقر قدر مقدَّر سيودي بالأب والعم في حرب الشمال (كردستان العراق) كما سيودي بجواد الذي يأتي بالتوابيت الثلاثة, وهو الوحيد الذي بلا صورة.
تعود الميتا قصة في قصة (ربما الدموع... ربما المطر) حيث ضمير المتكلم يتسيْد كما في القصة السابقة, فتسرد الصحفية التي تكتب القصة من عيشها زمن الحصار والدمار, وتسند إلى النهر (دجلة) أن ينهض بفضاء القصة وبرمزيتها وهو يمضي إلى الجنوب ليخلفها وحيدة. لكأن الفقد هنا عميم لا يتعلق بشخص بعينه, والنهر لا يعبأ بقرار الساردة أن تغير حياتها, وهو الذي "يسير غير عابىء بالأخبار المؤلمة, شائعات الأمل, صوت المذيع, مشاكل النص المسرحي, مقص الرقيب, الجرائم, صور المفقودين, التوابيت الملفوفة بالأعلام, أسعار المواد الغذائية... شموع النساء عند مرقد خضر الياس, صراخ الأطفال المحتضرين في مدينة الطب المطلة عليه (...) يمضي بهدوء مبتلعاً كل شيء بصمت مثلما ابتلع أحبار الكتب من قبل ودماء من أحبوه. يسير من دون أن يلتفت إليّ.
يرشح الفقد بالأسى وتتصادى فيه الحرب من قصة إلى قصة. ففي قصة (كراسي) لكل كرسي حكاية صاحبه, فالأم مثل كرسي العابرين, وسمية تحاول الانتحار بعدما انتزعت الحرب خطيبها عليّ من كرسيه, حتى إذا تزوجا, وبات عليّ واحداً من مفقودي الحرب, ماتت سمية. ومثلما شغرت كرسيها وكرسي زوجها, تشغر كرسي شقيقها التي "لم يشغلها سوى غياب لم تردمه الذاكرة وشبح فقدانات جديدة فاحت بها الأخبار المحدثة عن حرب في أفق أطبق على ما تبقى من حياة الكراسي".
منذ القصة الثانية (Friendship) يطلع في قصص المجموعة عنصر آخر هو الصداقة. فالصديق هو الذي يعين من فقدت, وهو الذي ترجم عنوان القصة إلى (سفينة الأصدقاء): السفينة التي تنقذ الغرقى. وفي قصة (مشهد من تلة) تبدأ مريم العراقية التي رمتها الحرب في اليمن خطوة جديدة بفضل إبراهيم العراقي الذي كان أسيراً واعتبر مفقوداً وتزوج شقيقه زوجته, فهاجر هو إلى اليمن. وقد كانت لمريم قبل ظهور إبراهيم طمأنينة (اعتياد الفقدان) وهي التي فقدت في الحرب طفلها, فهاجر زوجها الذي لم يحتمل ذلك الفقد. وقد قدمت قصة (ضفيرة بشريط أحمر) عزفاً آخر على وتر القصة السابقة, عبر كابوس المجنون الذي يسكن الأستاذة المغتربة, وهو من فقد طفلته أثناء سقوط صاروخ, أما المقبرة فستعود بعد قصة (مشهد من تلة) إلى الحضور في القصة الأخيرة (قبر بلا تفاصيل) لتجمع بين العراقية والعراقي في صنعاء, مسكونين بالمقبرة. أما الرجل فيوصي صديقته "إذا متّ لا تحملي جثماني إلى العراق... أريد أن أدفن هنا احتجاجاً على غربتي التي لم أخترها". وأما المرأة فتختم برؤية ـ رؤيا شاهدة قبرها وقبره بلا تفاصيل ميلاد أو موت. بل فقط الاسم الأول للكاتبة واسم الرجل (إرادة زيدان).
تلك هي مجموعة (فقدانات): نشيج عراقي مدمى تفجره الحرب والغربة, يصخب في قصة ويخفت في قصة, لكأنه يؤشر إلى استواء الفن في قصة وإلى ارتباكه في قصة, بل لكأنه يؤشر إلى ما يوالى من مكابدة الفن والحرب والغربة.
3 ـ ليلى العثمان: ليلى القهر (الكويت)
على الرغم من أن ليلى العثمان كتبت الرواية بعد القصة القصيرة, إلا أنها ظلت وفية لهذا الفن الذي بات الوفاء لـه نادراً. فبعد تسع مجموعات قصصية ـ تخللتها
ثلاث روايات ـ هاهي مجموعة العثمان الجديدة (ليلة القهر), لا تؤكد الوفاء وحسب, بل التألق الذي يأتي به الوفاء, متمثلاً بالعلامات الفنية التي تجعلها المهارة والدربة تسري في نسغ أغلب قصص المجموعة رواءً بديعاً ومستسراً: إنه الفن, ببساطة وغواية وحرارة!
ولئن كان الكثير مما تكتب كثير من الكاتبات في القصة ـ والرواية ـ ينوء تحت وطأة الهتاف بكتابة المرأة أو أنوثة بلا مزية تخصصه إزاء كتابة الذكر الكاتب, فإن أغلب قصص (ليلة القهر) تنجو من هذه الوطأة بقدر أكبر فأكبر. ففي قصة
(تلك الساق), وقبل أن تكتشف القراءة أنها ساق بلاستيكية, وبعد طول التشويق واللفحة البوليسية إلى الحد الذي لا يدع شكاً في أن الساق لأنثى, تتساءل الساردة: "من تكون صاحبة هذه الساق؟ من الذي فصلها عن جسدها وألقاها بلا رحمة قرب الحاوية؟ هل اعتدى أحد المجرمين على الجسد وخشي افتضاح أمره, فقطعه أوصالاً وقذف بكل جزء منه في مكان؟ أم هي لجسد عذراء جلدها سوط ريبة المجتمع, فثأر الأب أو الأخ منها غسلاً عنها للعار؟ هل تراها زوجة لعجوز عقيم شك مجرد شك أنها خانته, فانتقم منها؟ إنها ساق أنثى على أية حال. ومن غير الرجال يقسون؟ ينتقمون ولا يقدمون للنساء المخلوقات من ضلوعهم غير الأذى؟ هل تفوضني أن أتحدث باسمها؟ أدافع عنها وأكتشف جريمة ـ الذكر ـ الذي اغتال شبابها؟"
لا يتعلق الأمر هنا بجهارة الخطاب الأنثوي, بل بمكر اللعبة الفنية وسلاستها وتدرجها, منذ عثرت الساردة على الساق حتى باتت عبء ليلتها, فهيأ لها الوهم أنها خرجت من الخزانة وجلست قبالتها, بينما تخشبت ساقاها هي.. إلى أن يجلو الصباح أن الساق بلاستيكية, فتخلصت منها, لكن (اللئيمة) ظلت تقض مضجع المرأة, مؤكدة ما هجست به وهي تبحث عن مخبأ الساق: "لقد تورطت وانتهى الأمر".
يروي قصة (كوريتاج) طبيب أعان المرأة بالتخلص من ذيول الإجهاض, ولكن بدون تخدير الفقيرة, فكشفت مخالفته الممرضة الهندية, وكان أن فصل عن عمله, وإذ أفشى لزوجته بسر الفصل هجرته وسؤالها يلاحقه: أين
ضميرك؟ وهاهو إذ يستعيد نظرة الممرضة التي رضخت لأمره بالمساعدة في العملية, يقول: "أجدها تتحد مع وجه المرأة الذي يطاردني, ووجه زوجتي التي صبّت ثورتها عليّ حين عرفت بالأمر".
للأنوثة في قصص (ليلة القهر) تجليات شتى, منها ما يتعلق بالذكر القامع, كما في قصة السابق, ومنها ما يتعلق بالذكر المسكين, كما في قصة الطبيب, ومنها ما يتعلق بجسد الأنثى, كما في قصة (لعبة خدوجة) التي يحملها ضمير المخاطب, ابتداءً بخوف خدوجة من أن يكتشف زوجها نايف حقيقة حملها. وبالعودة إلى بداية القصة تبدو خدوجة عاشقة لنايف الذي يلوي عنها, فتتزوج شقيقه العجوز لتكون قريبة من المعشوق وتبادره, فيردعها ويحتقرها وهي: "تنامين وجسدك مثل عصفور مبلل بالأسى". وحين تهب رائحة العبد أسعيد الحامضة" تندلق على جسدك مثل نمل أسود يهرشك بلا رحمة" فتبادر خدوجة خادم البيت الأسود وتحمل منه. وبوفاة الزوج العجوز يتحقق حلمها ويتزوجها نايف. لكن الولاّدة ستهتف مشيرة إلى الوليد: عبد عبد, فتنتهي لعبة خدوجة بسكين نايف: الذبح. وفي قصته (وعدها الأخير) التي يحملها ضمير الغائب, تبدو العاشقة في واحدة من رحلاتها الأوربية تتزين بين يدي الباديكيرة والمنانيكيرة, وتنثال الذكريات عن العاشق الذي كسر قوانين العاشقة المتمسكة بقوانينها: قانون اللون الأحمر لأظافرها وقانون الشعر القصير وقانون ارتداء البنطلون... وعبر ذلك "شعرت بحدائق جسدها تستفيق, تتندى, سمعت عصافيرها الخاملة تزقزق, وأعشابها الناعسة تنتصب. رمانها يستوي, ينفلش وينثر حبيباته كنجوم تقدم في سماء صافية".
بلغة الطبيعية المتشعرنة هذا يتخلى الجسد عن قوانينه لمن يحمل "خاصية الرجل الذي يرغم دون تسلط وينتصر دون غرور أو تصلب", حتى إذا بلغ قانون العذرية, وهو الذي كان يائساً من النساء, واجه تمسكها بالقانون: "سأظل أحترم قوانينك حتى لو حرمتني منك إلى لحظة موتي", فحُقَّ للحب أن يتوج القصة بانتصاره على القوانين.
على أن هذا الأمر (لنقلْ: التأنيث في القصة) يسعى بتواضع إلى أن يترمّز في قصة (ملك البط), وينجو من ذلك في قصة (الغيمة السوداء). ففي القصة الأولى المهداة إلى الطفلة المغتربة (زينب) تستذكر الساردة مشهد البط إذ تفّر من ملكها, وهي مع زينب ترقبان. وحين تسأل الطفلة: "لماذا الملك ظالم؟" تهجس الساردة: "بريئة أنت يا زينب. لا تعرفين سطوة الملوك بعد. الرجال كلهم بنظر أنفسهم ملوك! بعضهم أهش من قشة, لكنه في البيت يصير أعتى الملوك, يتربع على العرش, يأمر الزوجة المقهورة أن تغسل حشف قدميه" فهذا الهاجس يخرّش رؤية انتحار ملك البط, والإشارات إلى حلم الطفلة بأن تكون ملكة, وإلى أن "الملوك غير أحرار مثلنا. إنهم يخافون..." بينما يتخلص الرمز في القصة الثانية (الغيمة السوداء) من هذه الاستطالات. وهذه القصة كابوس طفل تحضره فيه الأم محذرة: "نايمين!! الغيمة السوداء جاتكم", وتركض إلى الساحة فيتبعها وأخوه ليريا الساحة تشرق ببدائع الفنون والكتب الملونة المنوعة, بينما نساء ورجال تناثروا يمارسون طقوساً شتى: رسم وعزف وتطريز ونحت. لكن الأم تهتف بالناس مذكرة بالأمانة ـ الكنز, فتنبثق الساحة عن مخلوقات عتاوية ـ هررة سود شرسة ـ تحرس بيت الكنز, وينتهي الأمير بالعثور على جذع في باطنه كتاب: إنها الأمانة التي خلفها الوالد العظيم, بينما العتاوية "يئدونها ليطلقوا في فضائكم أوراقها الصفراء" كما تهتف الأم.
من الجذر الشعبي (لعبة الغيمة السوداء), وبالعجائبي, تذهب الدلالة في هذه القصة إلى ما بين صبوة الفن وعنت التخلف. ولعل على القراءة هنا ألا تنسى ما تعرضت لـه الكاتبة في الكويت منذ سنوات جراء كتابتها, وهو ما كتبته في كتابها السيري (المحاكمة). أما في القصة, فقد مزقت المعركة الكتب والرسوم, ولحق العتاوية بالسارد وشقيقه الهاربين بالأمانة: عندئذٍ صحا السارد من كابوسه.
بالعودة إلى الأنوثة تأتي قصة (الصفعات) المهداة إلى ميرال الطحاوي. وفيها تستذكر الساردة مواجهتها لصورة الأب الميت تتصدر الصالون, وتحديها لـه بحركات عشوائية وهو الذي كان يلعنها لأن لها وجه أمها الميتة. كما تستذكر الجحيشة (الفلقة) التي نصبها لها الأب. وهاهي ـ انتقاماً لأمها ولها ـ تصفع الصورة ويصير كيل الصفعات لها هواية كل يوم. وتبقى القصة الأخيرة التي حملت المجموعة عنوانها (ليلة القهر), حيث تبلغ الكاتبة بقصّها غاية أبعد, وهي تشبك ضمير الغائب والمخاطب, وتقدم ـ كما في بعض القصص السابقة ـ شخصية المرأة الثرية التي تفاجئها في المطار ناطورة الحمام النسائي بطلب عطرها بدلاً من الدينار الذي نقدتها إياه. وسيكون ذلك مفجراً لذكرى الساردة عن تبدل زوجها, واكتشافها العطر الذي سيهديه لصديقتها, وتعطرها به لعلها تستعيد الزوج النفور, لكن الضرب سيكون جزاءها في ليلة القهر الأصعب من ألف قهر, وبعودة القصة إلى ناطورة الحمّام, تتفجرّ وهي تشبك معاناة المرأتين على الرغم من المسافة بين قطبي الثراء والفقر. فالناطورة تسكنها روائح الحمام في المطار, والسيارات والبشر في الشوارع, والدهن ـ على زوجها العامل في مطعم هندي ـ في البيت. لذلك طلبت عطر المسافرة الثرية, وتعطرت مؤملة بالزوج الذي عاد يرميه ـ كالعادة ـ الرهق بالنوم, لكنه هذه المرة ينتفض "رائحتك الليلة كريهة لا أطيقها. قومي اغتسلي".
قد يتلامح في هذه القصة واقع ما, بأقل منه في قصص أخرى, وقد تبدو إزاء ذلك قصة (بالأمس كانوا أجمل) أشبه بخاطرة المفجوع بتحولات الآخر في الحاضر مقابل زهو الأمس, كما قد تبدو قصة (النعيق) مثقلة بالعلمنفسي, إلا أن لعبة التخييل والواقع ترمح في القصص الأخرى, التي كسرت استقطاب السرد بين الضمائر الثلاثة: المتكلم والغائب والمخاطب. وبين تلك القصص ما يلّوح للسؤال عما بين الأنا الكاتبة والأنا النصية. ولعل ذلك كله مما ينسج وحدة التجربة الإبداعية بتجربة القراءة في أغلب قصص مجموعة (ليلة القهر): إنه الفن, ببساطة وغواية وحرارة.
4 ـ ربيعة ريحان: شرخ الكلام (المغرب)
من خزين الذاكرة تمتح ربيعة ريحان قصص مجموعتها (شرخ الكلام). والجذر الحميم من ذلك الخزين هو الطفولة, حيث تتلامح أطياف الأب والأم والجدة والأخوة و... بخاصة: اليهود. ففي أولى قصص المجموعة (وهم مدارج الحكاية) تستعيد الراوية الطريق التي تسلكها يومياً مع رفيقتها إلى المدرسة, حيث تعرجان على قبور الأولياء اليهود السبعة على شفا المنحنى, وثمة, تخزن الذاكرة صور: "الطلائع المتحررة من بنات اليهود والنصارى" وتقوم الحكاية المركزية: موجة تجرف سباحة يهودية فيندفع أحدهم إلى إنقاذها, ويعده أبوها بالزواج منها إن أفلح. لكن الأب ينكث الوعد, فيصيب الخبلُ الرجلَ الذي ستقيم صورته في الذاكرة, مثله مثل المبنى المهجور على طريق المدرسة. وذات ظهيرة ممطرة سترى الطفلة رجلاً عارياً يقف في فتحة باب المبنى ويلوح لها: إنه المخبول الذي بات يلاقي النساء عارياً, ويؤجج ذكره همسهنّ الداعر الذي تستبطنه الطفلة خوفاً وإثارة. وهذا أيضاً ما ستستبطنه في قصة (متراس لبلور القلب).
فهاهنا يصطحب الأب ابنته, إذْ يهلّ فجأة من أسفاره إلى بوابة القيسارية حيث مقام الأسر اليهودية وصديقه اليهودي العطار. ويودع الأب الطفلة صديقه لشاغل ما, فإذا بالرجل ينحني عليها: "وهبطت يده تمسني مساً ثابتاُ في مثول غريب, تضغطني إليه ببطء, أوقع بي نفرةً منها بدني الصغير... ومن روع الحذر الغامض, غير المدرك,
جاءني ذلك الخوف المهدد الغريب, فانقلب بكائي لا يقاوم". وتتوالى مثل هذه الصور الملتبسة والسالبة لليهود في قصة (كتمة المساء) إذ يصطحب الأب ابنته وابنه إلى السينما, لكنه يدخلها
وحده, وبانتظاره, ترقب الطفلة قبعة اليهودي الصغيرة وهندامه المرتق العتيق في مكانه المعتاد: "مطرق كالنائم تطلع منه سعلات متقطعة, وأمامه على فرش صغير, ثمار الخوخ المجففة وبذور القرع البيضاء".
تنادي هذه الصورة من ذاكرة الطفلة حوارها مع الجدة حول (الزريعة خرجوها اليهود) كي "يدفلوا علينا إحنا المسلمين" والعلة بشرح الجدة: "اليهود خوافين, وهادي حيلة ماللي ما قدروش علينا". وتوازي القصة بين حوار الطفلة والجدة وبين حوار الطفلة والأب حول (البياعة) التي تعترض سبيله, والتي صارت (بياعة) لأنها كانت "تبحث عن السلاح تحت لباس الفدائيين" كما يشرح الأب فيزيد الطفلة غموضاً, لتبقى من هذه القصة, كما من القصص السابقة, الصور الملتبسة السالبة لليهود من ماضي فسيفساء المجتمع المغربي, كما هو الأمر غالباً في ماضي فسيفساء المجتمعات العربية, مما ندر رسم القصة القصيرة لـه, وظل نادراً وعابراً فيالرواية أيضاً.
إلى جذر الطفولة, ثمة جذور أخرى في خزين الذاكرة, تنهض عليها قصص ربيعة ريحان, فقصة (خيط الغواية الأولى) تتقدم على سبيل جسد الأنثى المزهر, ومن زاوية تنادي الطفلة في قصة (كتمة المساء) إلى فضاء العري في حمّام النسوان, حيث المرأة الخمسينية المخددة الوجه والمشعرة الذقن التي لم تتزوج, والتي يلتبس السرد بين غوايتها الأولى في الرابعة عشرة, وبين غواية من تقوم بغسلها فتفتل لها خيط الغواية الأولى. وإذا كان لهذه القصة أن تباهي بالشخصية التي رسمت, فلسواها أن تباهي بما رسمت من شخصيات النساء, كنساء العائلة في قصة (وهم مدارج الحكاية) اللواتي "يتحايلن على لؤم الأزواج ويخلقن متعاقبات منافذ فاتنة للحديث". ومثلهن نساء الحي في قصة (ضوع الغياب) اللواتي يعبرن وحدهن "فجوات أقدارهن, متلاصقات في قوافل التعب صوب ليل المعامل, حيث السردين المكوم". أما نساء حي السقالة من مدينة أسفي في قصة (بقعة ضوء) فحكايتهنّ هي "حكاية تلك النساء الصغيرات الجسد, الهشّات, المرهفات, الوجلات للأبد, من الأخوة والآباء والزواج والأبناء". والحكاية: "بقدر ما تضحك, لها ذلك الوجه المكتمل النفاذ من السطوة والروع وفجاجة التحكم القاتل للحسّ". واللافت هنا أن رسم المرأة مفردة وجمعاً يتقد في القصص المذكورة التي توغل في الذاكرة أبعد فأبعد, بخلاف ما تبدو عليه القصص الأخيرة التي تستعيد فيها الراوية وقد كبرت خيبات عشقها. ولا تخرج عن ذلك سوى قصة (أبهة الاغتراب) التي ترصد بعين الأم اضطراب ابنتها التي تكتم السر: اعتقال زملائها وانتظارها الخائف لدورها وقراءاتها في أدب السجن.
أما قصص (شرخ الكلام) و(مدارات من وحشة وغيامة) و(كأس الختم الحزين) و(شدة العنفوان) فتكاد تكون مونولوجات تلونها السيرية في القصة الأولى, وتخاطب أغنية شادية (مخاصمني بقاله مدّة) في القصة الثانية, وترجّع
خيبة العشق في القصة الثالثة كما في سابقتيها, لتبقى للقصة الأخيرة لحظة التعري أمام المرآة, حيث يشتبك توق الجسد بطيف من نصح بالتعري علاجاً... لكأن امتياز قصص ربيعة ريحان في هذه المجموعة يقوم في وشم الذاكرة العميقة من الفضاء والنساء واليهود وغرارة الروح والجسد, وليس في وشم العشق لروح ولجسد العاشقة المبدعة (قصة: شرخ الكلام) والمناجية لقلبها المحزون (قصة: كأس الختم الحزين) وسواهما.
منقول
|