صور من حجاب الزهراء عليها السّلام
أمّا عفاف الزهراء عليها السّلام، فقد كانت فيه الأصل الأصيل والنبع الأصفى، وهي قدوة للمؤمنات الصالحات، اقتفينَ فيه خُطاها، ونهجنَ على نهجها، فتخرّجت من مدرستها التربويّة نماذج جليلة من أمثال: عقيلة الهاشميين السيّدة زينب عليها السّلام بطلة كربلاء، وأمّ كلثوم بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، وسواهما ممّن نشأت في حِجر الفضيلة، ورضعن ثدي الإيمان، وتلقّين دروس العفاف والعصمة والجلالة والعزّة.
الحجاب من أفضل صور العبادة
• روى أبونعيم الاصفهانيّ عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ما خيرٌ للنساء ؟ فلم نَدرِ ما نقول. فسار عليّ إلى فاطمة فأخبرها بذلك، فقالت: فهلاّ قلتَ له « خيرٌ لهنّ أن لا يَرَينَ الرجال ولا يَرونَهنّ »، فرجع ( عليّ إلى رسول الله ) فأخبره بذلك، فقال النبيّ:... إنّها بضعةٌ منّي (39).
• وروى ابن شهرآشوب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال لها: أيّ شيء خيرٌ للمرأة ؟ قالت: أن لا ترى رجلاً، ولا يراها رجل. فضمّها إليه وقال: « ذُرّيّةً بعضُها مِن بعض »(40).
• وروى الراوندي في نوادره عن أمير المؤمنين عليه السّلام:
استأذن أعمى على فاطمة عليها السّلام فحجَبَتْه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لها: لِمَ حَجَبتيه وهو لا يراكِ ؟ فقالت عليها السّلام: إن لم يكن يراني فإنّي أراه، وهو يشمّ الريح، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أشهد أنّكِ بضعةٌ منّي(41).
• وروى الراوندي أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله أصحابه عن المرأة ما هي ؟ قالوا: عَورة. قال: فمتى تكون أدنى من ربّها ؟ فلم يَدروا، فلمّا سَمِعتْ فاطمة عليها السّلام ذلك قالت: أدنى ما تكون من ربّها أن تلزم قعرَ بيتها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: إنّ فاطمة بضعةٌ منّي(42).
ونلاحظ في الروايات السابقة جملة أمور:
أ. أنّ الحجاب تعدّى عند الزهراء عليها السّلام مجرّد كَونه حجاباً ظاهرياً، إلى كونه من أفضل صور العبادة، وذلك يعني أنّ التزام المرأة المسلمة بحجابها المتين يعني أداءها لعبادةٍ عظيمة تقرّبها من ربّها تعالى.
يدلّ على ذلك قول الصدّيقة الطاهرة « أدنى ما تكون ( المرأة ) من ربّها أن تلزم قَعْرَ بيتها »، أي أن تلتزم بأفضل صور الحجاب وأكملها، فهي لا ترى الرجال الأجانب عنها ولا يرونها، وإنّما يكون المرء قريباً من ربّه إذا فعل ما يُرضيه عزّوجل، وفي إقرار النبيّ صلّى الله عليه وآله بمقولة الزهراء عليها السّلام العظيمة تصريحه بأنّها عليها السّلام بضعة منه تصديقٌ منه، وهذا صلّى الله عليه وآله بذلك.
ب. أنّ الحجاب في صورته الكاملة لا يعني أن لا يرى الرجال المرأة فحسب، بل أن لا تراهم هي أيضاً، وقد صرّحت الزهراء عليها السّلام بذلك في قولها « أن لا ترى رجلاً، ولا يراها رجل »، وطبّقت ذلك بالفعل حين حَجَبت عنها الأعمى لمّا استأذن للدخول.
ج. أنّ الزهراء عليها السّلام ـ التزاماً منها بالحجاب الكامل في أجلى صوره ـ حَجَبتْ عنها الأعمى ولم تأذن له، وصرّحت ـ إضافةً إلى قولها السابق ـ بأنّ الأعمى يشمّ الريح، أي أنّه يشمّ رائحة المرأة أو عطرها، خاصّةً الأعمى الذي يُعَوّض الطبيعة عن عينيه بحِدّةٍ في حواسّه الأخرى، ومنها حاسّة الشمّ، وبذلك ترسم الزهراء الطاهرة عليها السّلام الصورة المُثلى للحجاب، وتبيّن أبعاده الدقيقة بما لا مزيد عليه.
39 ـ حلية الأولياء 41:2 ـ 40 ، بحار الأنوار للمجلسي 54:43.
40 ـ المناقب لابن شهرآشوب 341:3.
41 ـ عنه: بحار الأنوار 91:43 / ح 16.
42 ـ عنه: بحار الأنوار 92:43 / تتمّة ح 16.
يحدّثنا التاريخ أنّ الزهراء البتول عليها السّلام حزنت على أبيها رسول الله صلّى الله عليه وآله بعد وفاته حُزناً لم يَعَهد الناس مِثله قطّ، وأنّها بكت عليه حتّى تأذّى من بكائها أهلُ المدينة، فسألوها إمّا أن تبكي في الليل وإمّا أن تبكي في النهار، وأنّها لم تُشاهَد مبتسمة قطّ بعد وفاته إلاّ مرّة واحدة، في قصة لها مع أسماء بنت عميس:
• روى المجلسي عن ابن عبّاس، قال:
مَرِضتْ فاطمة ( بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله ) مرضاً شديداً، فقالت لأسماء بنت عُميس: ألا ترينَ إلى ما بَلَغتُ، فلا تحمليني على سرير ظاهر. فقالت: لا لَعَمرْي، ولكن أصنع نعشاً كما رأيتُ يُصنع بالحبشة. قالت: فأرينِيه! فأرسلت ( أسماء ) إلى جرائد ( من سعف النخيل ) فقُطعت من الأسواق، ثمّ جُعِلتْ على السرير نعشاً ـ وهو أوّل ما كان النعش ـ فتبسّمت ( فاطمة عليها السّلام ) وما رُئيتْ متبسّمةً قطّ إلاّ يومئذٍ(43).
• وروى عن أسماء بنت عُميس، أنّ فاطمة عليها السّلام بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله قالت لأسماء: إنّي قد استقبحتُ ما يُصنع بالنساء، أنّه يُطرح على المرأة الثوبَ فيصفها لمن رأى.
فقالت أسماء: يا بنت رسول الله، أنا أُريكِ شيئاً رأيتُه بأرض الحبشة.
قال ( الراوي ): فدعت ( أسماء ) بجريدة رطبة ( أي جريدة سعف النخيل ) فحسّنَتْها ثمّ طَرَحتْ عليها ثوباً، فقالت فاطمة عليها السّلام: ما أحسنَ هذا وأجملَه، لا تُعرف به المرأةُ مِن الرجل(44).
نرى في الحديثَين السابقين أنّ الزهراء عليها السّلام تأمر أسماء أن لا تحملها على سرير ظاهر، ثمّ تُعلّل ذلك بأنّها استَقْبحتْ ما يُصنع بالنساء، لأنّهم كانوا يطرحون على المرأة المتوفّاة الثوب، فيحكي حجمَ بدنها ويصفه لمن ينظر إليها، ثمّ يُعمل لها نعش فتبتسم ابتسامةً لم تُشاهد متبسّمة قبلها منذ أن توفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله، وفي هذا إشارة إلى الأهميّة البالغة التي أولتها الصدّيقة الزهراء عليها السّلام إلى مسألة الحجاب، ولو بعد الموت ومفارقة الدنيا، وفي ذلك عِبرة للمؤمنات في أنّ واجب المرأة في الحجاب لا ينتهي بمفارقتها الدنيا، بل الأحرى بها أن تُراعي الحجاب ما دامت في الدنيا، ولو بدناً هامداً على نعش محمول!!
---
43 ـ بحار الأنوار للمجلسي 43 / 189.
44 ـ بحار الأنوار للمجلسي 43 / 189 ، وروى المحبّ الطبري مثله عن أم أبي جعفر ( ذخائر العقبى 25 ).