لا كرامة لكذّاب :
.. كانت الهجرة من مكّة إلى المدينة ، حيث استقرت الرسالة الجديدة وصاحبها الأقدس (ص).. رسالة لم تنزل بعد في إطارها القشيب ، فهي لا تزال معبعض ممن صحب الرسول الأكرم (ص) إلى مقرّه الجديد مجرّد أحاديث مبعثرة ، لمتتمرّس بها النفوس على كفايةٍ و قد اختطفوها كحقّ من حقوقهم ، و مع قلتهمكلٌ استوعب حسب قدرته الذهنيّة ، و غاياته و حاجاته . و لكن صاحبها الأمين (ص) و بعد هجرته المبارك أراد أن يجعل من ذاك الشعور بالانتماء الجديد والذي ينساب ابتداءًا حثيثًا إلى الخواطر، أن يصبح حاجة تنساق إليهاالخواطر و الأفئدة و العقول . فتنقلب بذلك كنفًا يلجؤُ إليه المستظلون وليبرز بين جنباتِ حامليها مفهوم الانتماء إلى مجتمع يكون قادرًا على تحمّلالمسؤولية وحماية الرسالة و الدفاع عنها .. و يكون على مستوى المسؤوليةالمنتظرة
و من هنا إرتأ صلّى الله عليه و آله بناء المسجد ليكون الوسيلةالفضلى للتثقيف الفكري وأجزم بأنه لا زال كذلك لو وعت الأمّة ذلك] ، فهومصدر إلهام فكري مع شعور بالقدسيّة و الارتباط بالله و مع وضع الأحجارالأولى لأسس المسجد أرادوا أن يضعوا معها الأسس الواهميّة للخلافةالراشدة1- و جاءوا بقول إفتراء عن عائشة أنّها قالت : أوّل حجرٍ حمله النبيّ صلّىالله عليه
و آله لبناء المسجد ثمّ أبوبكر ثمّ عمر ثمّ عثمان ؟ . فقال : ياعائشة ، هؤلاء الخلفاء بعدي .[1] و هذا لا يصحّ بعد أن ضعّفه الذهبيمعلّقًا : لو صحّ هذا لكان نصًا في خلاقة الثلاثة ، لكن من أين لهم ذلك ،لأنّ عائشة لم تكن يومئذٍ دخل بها النبي - صلى الله عليه و آله - فهيمازالت محجوبة صغيرة في جوار أمّها .. كما استغربه ابن الكثير .. و هو منالأصل يخالف عقيدة (( أهل السنة )) في كون رسول الله - صلى الله عليه وآله – نص أو استخلف ..
2 - كما زعموا بأن من وضع التاريخ الهجري هو عمر و ذلك في أيام خلافته عندفتح دمشق أمّا سنة 16 أو 17 هجري ... و لكن ثمّة جواب أوضح و أظهر ، و هوأنه صلى الله عليه و آله قد أمر بالتاريخ من أوّل قدومه للمدينة و جعلمبدآه أول ربيع الأول ...
و استعمله - صلى الله عليه و آله- نفسه حين كتبلنصارى نجران وإلاّ فليُدِلُّونا على الطريقة التي أرّخَ بها النبيّالأكرم (ص) ومن بعده أبا بكر في معاملاتهم ومراسلاتهم و قد قالالسيخاوي فان ثبت فيكون عمر متبعًا لا مبتكرًا [2]
كما ذكروا بأن أمسلمة قالت :
قال رسول الله - صلى الله عليه و سلّم - : يقتل الحسين ابن علي على رأس ستين من المهاجري .[3
- 3 و يذكرون أن تشريع الأذان كان تبعا لإلهام ربّاني إختصّ به الله تعالىعمرا وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة و قيل في الثانية ... و من رجعإلى الروايات لشهد في ذلك تناقضًا شديد منها:
• كان عمر قد رأه قبل ذلك . فكتمه عشرين يومًا ، ثم أخبره النبيّ - صلىالله عليه و آله - فقال : ما منعك أن تخبرني ؟ قال : سبقني عبد الله بنزيد فاستحيت ، فقال الرسول - صلّى الله عليه و آله - : يا بلال قم فانظرما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله ...؟ [4
• و في رواية أخرى تقول أن جبرئيل أذّن في سماء الدنيا فسمعه عمر و بلال ،فسبق عمر بلالا فاخبر النبي صلى الله عليه و آله ثمّ جاء بلال . فقال له : سبقك بها عمر .
• و في أخرى : إن زيد رآه ، و أخرى تقول : إن سبعة من الأنصار رأوه ، وقيل أربعة عشر.. و رواية تقول إن بلالا كان يقول : (( أشهد أن لا إلاهإلاّ الله حي على الصلاة )) . فقال له عمر : أشهد أن محمّد رسول الله . فقال النبيّ - صلى الله عليه و آله - لبلال :قل كما قال عمر ...؟ إلى غيرذلك من وجوه الاختلاف التي لا مجال لذكرها [4 .و بعد كل ما تقدّم لابدّ أن نقول إنّ حكم النبيّ - صلّى الله عليه و آله - العمل برؤيا ابن زيد يكون كمن نطق عن الهوى...؟ و عدم الاستناد إلى الوحي - و مشورة النبيّ - صلى الله عليه و آله - لأصحابه في أمر ديني مستحيلةلأنّه مستغن عنهم بالوحي - .. فانظر الإمام الصادق – عليه السلام - لمّاسئل : بأنهم يقولون : إن أُبَيُّ ابن كعب الأنصاري رآهُ في المنام ..
فقالعليه السلام : (( كذبوا و الله ، إن دين الله تعالى أعزّ من أن يّرى فيالنوم
و لكنهم لا يأنسوا إلاّ بوضع الأكاذيب و نحت الافتراءات ، عسى أن يرتقوابأوليائهم إلى مراتب من اصطفاهم الله و اجتباهم .. و لكن حين تمسّ سفاسفهمبالشريعة السمحاء . فلا سبيل للتقاضي . فالوضع في أحوج ما يكون عندهاتشديدًا في كشف الحقيقة .. [ و كيف لرسول الله – صلى الله عليه وآله - لوشاء الله له أن يستشير .. أن يلجأ لأمثال عمر في الأمور الشرعيّة مع علمه (ص)بجهله فيها وقلّة علمه .
و قد نبين ذلك لاحقًا - بعد أن استشاره (ص) في ماهو أيسرلعقله وتدبيره ، و لكن صَحِبَت جوابه خيبة الأمل ..على مارواه مسلم في صحيحه : (( أنه حين بلغ النبيّ صلّى الله عليه و آله إقبالأبي سفيان نحو بدر شاور أصحابه ، فتكلّم أبوبكر فاعرض عنه، ثمّ تكلّم عمرفاعرض عنه ..)) [5] فكيف لمن ليس له رأي سديد و فكر رشيد مّما اضطر رسولالله - صلى الله عليه و آله - إلى الإعراض عنه في مسألة تخصّ معركة بدر.. فكيف يكون له رأي في تشريع إلهيّ يخصّ الدّين الخاتم و الشريعة السمحاء..؟ .
ولو اكتفوا بهذا الحدّ في الوضع والكذب على الله ورسوله (ص) .. لأغضضنالطرف ، وتجاهلنا الموضوع .. من أجل الأهمّ والأقدس .. ألا وهي وحدةالأمّة والكلمة ، في ظروف هي في أمسّ الحاجة فيها لرصّ الصفوف ، ولمّالشعث لتّصدّي لما يحاك ضدّها من مؤامرات تمسّ ديننا ومقدّساتنا وأعراضناومصيرنا ..
ولكنّ العقبة المهلكة حينما تصل سجيّة التّعصب الذميم بهم إلىالنيل المباشر من شخص الرسول الأعظم (ص) ، والإساءة الى حضرته المقدّسة . وذلك لا لشيء سوى نحت الفضائل ووضع المناقب لأوليائهم وسادتهم ، مقابلالإساءة الأدبية والمعنوية والدينية .. للحبيب المصطفى (ص) .. ثمّ جاء منبعدهم قوم أغلقوا عقولهم وكلّ المنافذ المؤدية إلى معرفة نور الإيمانوالعقيدة : واللذان لا يتأتّيان من كتم الحقيقة . بل إنهما ينتجان من بحثوتحقيق ونقد علمي خالص .على أن لا ينبعث ذلك من هوى النفس بدافع الحبّوالبغض .. وذلك لهو الصراط المستقيم لمن ابتغى لنفسه الوصول لسعادةالدارين .. ولمن أراد معرفة حقيقة ما أدعيت ، فلينظر بعين البصيرة وروحالإيمان الحقيقية الناصعة بأنوار البرهان ، بعيدا عن أسهم ونبال البهتانوالافتراء.. لهذه الأمثلة:
ظلُّ الأعـــرجِ أعـــوج
1 - الشيطان يهاب عمر و لا يهاب رسول الله – صلّى الله عليه و آله - : علىما أخرج البخاري في صحيحه : قال عن سعد بن أبي و قاص قال : استأذن عمر علىرسول الله – صلّى الله عليه و آله – و عنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهنّ فلمّا استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب ، فأذن لهرسول الله - صلّى الله عليه و آله - و رسول الله - صلّى الله عليه و آله - يضحك ،فقال عمر : أضحك الله سنّك يا رسول الله .
قال : عجبت من هؤلاء اللاتي كنّ عندي فلمّا سمعن صوتك ابتدرن الحجابقال عمر : فأنت يا رسول الله ، كنت أحقّ أن يهبن ،ثمّ قال عمر: أي عدوّات أنفسهنّ أتهبنني و لاتهبن رسول الله – ص- قلن : نعم ، أنت أفظّ و أغلظ من رسول الله - صلّى الله عليه و آله - .
قال رسول الله - صلّى الله عليه و آله - : و الذي نفسي بيده ما لقيكالشيطان قطّ سالكًا فجًّا إلاّ سلك فجًّا غير فجّك .[6] .. لها الله .
و ما عُزي إليه - صلّى الله عليه و آله - من قوله : (( و الذي نفسي بيدهما لقيك الشيطان قطُّ ، إلاّ سالكً فجًّا غير فجّك ..))فما بال الشيطانيهاب الخليفة فيسلك فجًّا غير فجِّه و لا تروعه عظمة النبيّ - صلّى اللهعليه و آله - و لا قوّة إيمانه ؟ فيسلك في فجِّه فلا يدعه أن ينهي عنالمنكر ، و يحدو بصواحب المنكر إلى أن يتظاهرون به أمامه . بل الشيطانلعنه الله يعرض له - صلّى الله عليه و آله - ليقطع عليه صلاته و إن رجععنه خائبًا كما أخرجه البخاري و مسلم في صحيحيهما أخرجا بالإسناد عن أبيهريرة قال صلّى رسول الله صلاة فقال : إنّ الشيطان عرض لي فشدّ عليّبقطع الصلاة عليّ فأمكنني الله منه فذعته الحديث . [ 7
2 - عمر رجل لا يحبّ الباطل ورسول الله – صلى الله عليه وآله - ... ؟ فيماأخرج صاحب حلية الأولياء من طريق الأسود بن سريع قال : أتيت النبي (ص) فقلت : قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإيّاك . فقال : إنّ ربّك عزّ وجلّ يحبُّالمدح ،فجعلتُ أنشدُه ، فاستأذن رجل طويل أصلع فقال لي رسول الله (ص) أسكت . فدخل فتكلّم ساعة ثمّ خرج فأنشدته ، ثمّ جاء فسكّتني النبي (ص) فتكلّمثمّ خرج ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا فقلت : يا رسول الله من هذا الذي أسكتنيله .؟ فقال هذا عمر ، رجل لا يُحبّ الباطل ..؟ [8.
3 - الشيطان يفرُّ من عمر ويخافه ، ولا يخاف رسول الله – صلى الله عليه وآله - ..؟
- عن بريدة : خرج رسول الله – صلّى الله عليه و آله – في بعض مغازيه ،فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء فقالت : يا رسول الله . إنّي كنت نذرت إنردّك الله صالحًا أن أضرب بين يديك بالدفّ و أتغنّى ؛ فقال رسول الله – صلّى الله عليه و آله - : إن كنت نذرت فاضربي و إلاّ فلا . فجعلت تضربفدخل أبوبكر و هي تضرب ، ثمّ دخل عليّ و هي تضرب ، ثمّ دخل عثمان و هيتضرب ، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت إستها ثم قعدت عليها ، فقال رسول الله – صلّى الله عليه و آله - : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر . إنّي كنتجلسًا و هي تضرب ، ثمّ دخل عليٌّ و هي تضرب ، ثمّ دخل عثمان و هي تضرب،فلمّا دخلت أنت يا عمر . ألقت الدفّ .
- و في لفظ أحمد : إنّ الشيطان ليفرق منك يا عمر.
- و عن جابر قال : دخل أبوبكر رضي الله عنه على رسول الله – صلّى اللهعليه و آله – و كان يضرب بالدفّ عنده ، فقعد و لم يزجر لما رأى من رسولالله – صلّى الله عليه و آله - ، فجاء عمر رضي الله عنه فلمّا سمع رسولالله صوته كفّ عن ذلك ، فلمّا خرج قالت عائشة رضي الله عنها : يا رسواالله . كان حلالاً فلمّا دخل عمر صار حراما ؟ فقال عليه السلام : يا عائشة . ليس كلّ النّاس مرخًا عليهم .[9] ..
فهل من مُتفَيْهــق يشرح لنا قولهُ (ص) : إن كنت نذرت فاضرب ، وإلاّ فلا .؟ .. أوليس القائل (ص ": ( لا نذرا في معصيّة ، ولا يمينًا في قطيعة ..)) ,وما معنى قوله (ص) : (( ليس كلّ النّاس مرخا عليهم ..؟) وهل دون الحقّ إلاّ الضلال ..؟ ( ولكن زيّن لهم الشيطان سوء عملهم ، فرأوه حسنـــا).
4 - في فرار شياطين الإنس و الجنّ من عمر :كما روى الترمذي في فضائل عمر عن عائشة : .. كان رسول الله - صلّى اللهعليه و آله و سلم - جالسًا فسمعنا لغطًا و صوت صبيان ، فقال (ص) : فإذاحبشيّة تزفن و الصبيان حولها فقال : يا عائشة تعالى فانظري ، فجئت فوضعتلحيتي على منكبه - صلّى الله عليه و آله و سلم - ، فجعلت أنظر إليها مابين المنكب إلى رأسه فقال لي : أما شبعت أما شبعت ..؟ قالت : فجعلت أقوللا . لأنظر منزلتي عنده إذ طلع عمر ، قالت : فانفض الناس عنها ..
قالت : فقال رسول الله (ص) : إنّي لأنظر إلى شياطين الإنس و الجنّ قد فرّوا منعمر ، قالت فرجعت : ... حديث صحيح غريب من هذا الوجه [10]
- لعنهم الله و أخزاهم ما أجرأهم على الكذب و الافتراء على حضرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم ..
الفهـــــرس :
[*] -- أحداث نتناولها بالتفصيل في الأجزاء القادمة - ان شاء الله - .
1 – ما فعلوه أوّلا مع مالك بن نويرة وعشيرته ، من قتل وتنكيل وهتك الحرمات ..وما فعله عثمان مع أصحاب رسول الله : كأبي ذر وابن مسعود .. ثمّ جرائم معاوية في حقّ أولياء الله كعمر بن حمق الخزاعي الصحابي وحجر بن عدي الكندي الصحابي ومحمّد بن أبي بكر وكيف وضعه في جيفة حمار ثمّ أحرقه ...
2 – كفريات معاوية عندما بلغه إستشهاد الإمام الحسن "ع" قال ": سبحان الله ..؟ إن لله جنودا من العسل3 -- وتلك البغيّة التي إشترطت على اللعين إبن ملجم قتل الإمام عليّ "ع" كمهر لزواجها ..
4 -- ما فعله أنس أبن مالك بكتمانه لشهادة يوم الرحبة بدعوة النسيان تارة وكبر السنّ أخرى ..؟ حتى أصابته دعوة الإمام عليّ "ع" كما ذكر ذلك ابن قتيبة في معارفه ص 194، وابن أبي الحديد في نهجه ج1ص362 ..
5 -- وزيد بن الأرقم كتم الحقيقة فأصيب بالعمى ، راجع مناقب علي بن أبي طالب لإبن المغازلي الشافعي ص23 وشرح النهج لإبن أبي الحديد المعتزلي ج1ص362 .. ومن رجع عن الإسلام كجرير بن عبد الله البجلي راجع أنساب الأشراف للبلاذري ج2ص156 .
6 ما فعلوه من مقتل سعد بن عباد الصحابي . وقالوا قتله الجن ..؟ بل من شعراءها ..
7 شرح النهج ج4 ص63 و شيخ المضيرة أبو هريرة 236 وقبول الأخبار لأبي القاسم البلخي ..
8 كنز العمال ج 10 ص 292 و وجامع بيان العلم لإبن عبد البرّ 1 ص 77 ..
أحداث نتناولها بالتفصيل في الأجزاء القادمة - إن شاء الله - .
9 لنا معا حديث مطوّل في الجزء الثالث – إن شاء الله تعالى - ..
10و11و12و13 – البدء والتاريخ ج5ص88 . جامع الترمذي ج3ص315 . البداية والنهاية لإبن كثير ج3ص79 . تاريخ الإسلام لذهبي ج2ص102 . وتاريخ الخميس والسيرة الحلبية وسيرة ابن هشام ومسند أحمد .. وغيرها كثير. الدرر المنتثرة للسيوطي : 19 .