بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
وجادلهم بالتي هي أحســــــــــن ..
*** يقـــــــول المولى المظفّر – قدّس سرّه – في مقدّمة دلائل الصدق نصائح وأدبيات من نبع حياض النّجاة "ع" لمن يبتغي صهوة المنظارة والمحاورة والجدال .. ماسكا بزمام الأدب المحمّدي والخُلق العلوي .. بعيدا عن اللجاج والعناد والمكابرة .. وخُلق الرعاع .
وأخترت لمن يحبّ الكمال والجمال هذه القبسات لتكون أنوارا لمسالك الباحثين عن حياض سفن النجاة "ع" والحقيقة الموصلة لسعادة الدنيا والآخرة .. وتكون دستورا لمنتدى الحوار الإسلامي ، وعلى من يودّ إقتحام سوحه أن يتّخذ من جذوته شموعا ومشاعل .. ***
السلام على أهل البصائر ورحمته تعالى وبركاتــــــة :
... إنّ صاحب أيّة فكرة أو عقيدة أو رأي يرى من حقّه الطبيعي أن ينشرها بين الناس ويدعو الآخرين إليها..
إلاّ أنّ لتقدّمه ونجاحه في مشروع الدعوة هذه شروطاً، كما أنّ دعوته إلى فكره بحاجة إلى أدوات.. لا سيّما إذا كان في مقابل رأيه رأي آخر وله أتباع يدعون إليه.. فيقع الصراع العقيدي والفكري بين الجانبين، لأنّ كلاًّ منهما يدّعي الحقّ والصواب، ويحاول التغلّب على الآخر والسيطرة عليه فكرياً.
إنّ للتغلّب في ميدان الصراع العقيدي أُصولاً وأدوات تختلف عنها في ميدان الحرب والمواجهة العسكرية.. نوضّحها في ما يأتي:
عِلم الجَدَل:
لقد وضع العقلاء ـ وهم أصحاب الأفكار والآراء ـ حدوداً وقيوداً للصراع في هذا المجال، وأسّسوا للغلبة فيه أُسساً جعلوها المعيار والميزان للرضوخ لفكر أو لرفض فكر آخر... فكانت أساليب "الجدل" التي بُحث عنها ونقّحت مسائلها في كتب المنطق.
ولقد أحسنوا في اختيار هذا المصطلح لهذا العلم أو لهذه الصناعة،
لشدّة ارتباط المعنى اللغوي للكلمة بالغرض المنطقي منها..
قال الراغب الأصفهاني: "الجدال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل، أي: أحكمت فتله، ومنه الجديل، وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة، والأجدل: الصقر المحكم البنية، والمجدل: القصر المحكم البناء.
ومنه: الجدال، فكأنّ المتجادلين يفتل كلّ واحد الآخر عن رأيه.
وقيل: الأصل في الجدال الصراع، وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة"(1).
الجدال في القرآن:
ولقد أقرّت الأديان السماوية أُسلوب "الجدل" واتّخذه الأنبياء السابقون طريقاً من طرق الدعوة.. وقد ورد في القرآن الكريم نماذج من ذلك كما سيأتي..
وأما نبيّنا صلّى للّه عليه وآله وسلّم، ففي الوقت الذي أُرسل كما خاطبه اللّه عزّ وجلّ في الآية المباركة ( يَا أيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّـراً وَنَذِيـراً * وَدَاعِياً إلَى اللّهِ بِإذْنِهِ وَسِـرَاجاً مُنِيراً) (2) فقد حـدّد له كيفية الدعوة وأداتها بقوله له: ( ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ)(3)، ثمّ أمره بالجدال حين يكون هناك جدال منهم، فقال بعد
ذلك: ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ )(4).
وفي الجملة، فإنّ الوظيفة الأوّلية هي البلاغ والدعوة إلى سبيل اللّه، فإنْ كان هناك مَن تنفعة "الحكمة" فبها، وإنْ كان من عموم الناس فبالنصيحة والموعظة الحسنة، فإنْ وجد في القوم من يريد الوقوف أمامه أو التغلّب عليه وجب عليه جداله...ولعلّ المقصود ـ هنا ـ أهل الكتاب، كما في الآية الأُخرى: ( وَلا تُجَادِلُوا أهْلَ الكِتَابِ إلا بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ ) (5).
وعلى ضوء ما تقدّم فإن الجدال قد يكون حقّاً وقد يكون باطلا، قال تعالى: ( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ )(6).
وهناك في القرآن الكريم موارد من تعليم اللّه سبحانه النبيّ الكريم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم طريقة الاستدلال، ففي سورة يس مثلا: ( وَضَرَبَ لَـنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أنشَأهَا أوَّلَ مَرَّة وَهُوَ بِكُلِّ خَلْق عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَـلاّقُ العَلِيمُ * إنَّمَا أمْرُهُ إذَا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَـقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ )(7).
وفي سورة البقرة: ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ
نَصَارَى تِلْكَ أمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنتُ صَادِقِينَ )(8).
وفي سورة البقرة أيضاً: ( قُلْ إنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا المَوْتَ )(9).
وفي سورة المائدة: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللّهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إنْ أرَادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَاُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعاً وَللّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ )(10).
وفي سورة المائدة أيضاً: ( وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أبْنَاءُ اللّهِ وَأحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ... )(11).
وفي سورة الأنعام: ( قُلْ أنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا... )(12).
وفي سورة الأنبياء: ( أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأرْضِ هُمْ يُـنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا... أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي... )(13).
كما جاء في القرآن الكريم موارد كثيرة من مجادلات واحتجاجات الأنبياء السابقين...
ففي قضايا إبراهيم عليه السلام... قال تعالى: (ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أنْ آتَاهُ اللّهُ المُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أنَا اُحْيِي وَاُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإنَّ اللّهَ يَأتِي بِالشَّمْسِ مِنْ المَشْرِقِ فَأتِ بِهَا مِنْ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ)(14).
وقال تعالى: ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلاّ أنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْء عِلْماً أفَلا تَتَذَكَّرُونَ)(15).
وقال سبحانه وتعالى: (قَالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْألُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إلَى أنفُسِهِمْ فَقَالُوا إنَّكُمْ أنْتُمْ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * اُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أفَلا تَعْقِلُونَ)(16).
وفي قضايا نوح عليه السلام... قال تعالى: (قَالَ يَا قَوْمِ أرَأيْتُمْ إنْ كُنتُ عَلَى بَيِّـنَة مِنْ رَبِّي وَآتَـانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أنُلْزِمُكُمُوهَا وَأنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ... قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأكْثَرْتَ جِدَالَنَا... )(17).
وهكذا... في قضايا سائر الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين.
14- سورة البقرة 2: 258.
15- سورة الأنعام 6: 80.
16- سورة الأنبياء 21: 62 ـ 67.
17- سورة هود 11: 28 ـ 32.
الجدل بالحق: إقامة الحجّة المعتبرة:
ثمّ إنّه قد جاء التعبير عن "الجدال بالباطل" بـ "الجدال بغير سلطان" في قوله تعالى: ( إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللّهِ بِغَيْرِ سُلْطَان أتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلاّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ )(18) و"السلطان" هو "الحجّة" سمّيت به لسيطرتها وتسلّطها على القلوب(19).
ومنه يُفهم أنّ المراد من "الجدال بالحقّ"، هو "الجدال بالحجّة".
لكن "الحجّة" إنما يحصل لها "السلطان" على القلوب إذا كانت ( بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ )(20) فلذا أمر اللّه تعالى بذلك..
وفي هذا إشارة إلى آداب البحث والمناظرة والجدل..
لقد فُسّرت الكلمة بـ: الطريقة التي هي أصلح وأقرب للنتيجة والنفع(21).. وهو تفسير صحيح يتناسب مع المواضع المختلفة التي استعملت فيها الكلمة في القرآن الكريم..
قال تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ )(22).
أي: بالطريقة التي هي أعود وأنفع له(23).
وقال تعالى: ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَـقُولُوا الَّتِي هِيَ أحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ )(24).
أي: بأنْ يتكلّموا مع المشركين بالطريقة التي لا تعود بالفائدة على الشيطان في تحصيل مقاصده من الوقيعة بين المؤمنين وبين المشركين(25)..
فاللّه سبحانه يريد من المؤمنين أن يكون جدالهم مقروناً بما يعينهم في إقامة الحجّة وإفحام الخصوم وظهور الحقّ على الباطل.
وتلّخص: إنّ الجدال المقبول شرعاً وعقلا هو: الجدال بـ: الحجّة المعتبرة، مع رعاية الآداب..
الحجّة المعتبرة: الكتاب والسُنّة:
و"الحجّة المعتبرة" عند المسلمين كافة هو "القرآن الكريم" و"السُنّة النبوية".. وهم في كلّ مسالة يقع الجدال بينهم فيها يرجعون إلى الكتاب والسُنّة، وهذا ما أمر به اللّه تعالى إذا قال:
(... فَإنْ تَـنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ )(26).
وقال: ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً )(27).
وقال: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمْرِهِمْ )(28).
فكل "شيء" وقع التنازع فيه بين الأُمّة، وكل أمر "شجر" بينهم، يجب ردّه إلى "اللّه والرسول"، وما كان لأحد منهم "إذا قضى اللّه ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"، بل "وربّك" إنّهم "لا يؤمنون" حتّى يحكّموا النبيّ، "ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً" مما قضى "ويسلّموا تسليماً".
إنّ الرجوع إلى القرآن الكريم واضح لا لبس فيه، فالقرآن نزل بـ ( لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ )(29)، فإن أمكن استظهار معنى اللفظ فيه ولو بمراجعة المعاجم اللغوية والكتب المعدّة لمعاني ألفاظه فهو.. وإلاّ وجب الرجوع إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم المبعوث به إلى الأُمّة.
فالمسلمون يحتاجون إلى السُنّة النبوية المعتبرة، لكونها المصدر الثاني، ولكونها ـ أيضاً ـ المرجع لفهم ما أُغلق من ألفاظ القرآن، ومعرفة قيد ما أُطلق، أو المخصّص لِما ورد ظاهراً في العموم فيه، وهكذا..
فـ "الحجّة المعتبرة" في مقام "الجدل" هي "الكتاب والسُنّة".أما "الكتاب" فلا ريب في حجّـيّته، والمسلمون متّـفقون على تصديقه، والاحتجاج به في الخصومات.
واتّفقوا أيضاً على حجّيّة "السُنّة" ووجوب تصديقها والاحتجاج بها، في كلّ باب، لكنّهم مختلفون في طريق ثبوتها.. كما هو المعلوم...
ومن هنا وجب على "المجادل" أن يحتجّ منها بما هو حجّة على الطرف الآخر..
وبعبارة أخرى، فإنّ احتجاج المسلمين بعضهم على بعض في المسائل المختلفة يدور في الأغلب مدار القرآن والسُنّة، أمّا القرآن فقد اتّفقوا على حجّيّته، وأمّا السُنّة فمنها ما اتّفقوا على تصديقه، فيكون مرجعاً في الخصومة، ومها ما اختلفوا فيه، وفي هذا القسم لابُدّ من أن يحتج كلُّ بما يصدّقه الآخر، وإلاّ لم تكن "حجّة معتبرة"، وهذا أمر مسلَّم به عند الكلّ، ونكتفي هنا بإيراد تصريح به من أحد مشاهير العلماء:
قال ابن حزم الأندلسي ـ في معرض الحديث عن احتجاج أهل السُنّة على الإمامية ـ:[/color]"لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدّقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم، فنحن لا نصدّقها، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به، سواء صدّقه المحتجّ أو لم يصدّقه ; لأنّ من صدّق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير حينئذ مكابراً منقطعاً إن ثبت على ما كان عليه"(30).
فهذه هي "الحجّة المعتبرة" عند "الجدال بالحقّ".
آداب المناظرة والجدل:
وأمّا الآداب التي يجب على الطرفين الالتزام بها ـ في الجدل المقصود
منه تحرّي الحق والوصول إلى الحقيقة ـ مضافاً إلى الحجّة المعتبرة، تلك الآداب التي جاءت الإشراة إليها في القرآن الكريم ( بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ )(31)فأهمّها:
1 ـ أن يُدلي برأيه والحجّة المعتبرة عنده بكلّ رفق وسكينة ووقار.
2 ـ أن يختار لمطلبه الألفاظ الواضحة والعبارات الجميلة.
3 ـ أن يجتنب السبب والشتم.
4 ـ أن يجتنب الأساليب الملتوية، والخروج عن البحث، بما يشوّش على الخصم فكره.
5 ـ أن لا يتصرّف في كلام الخصم بزيادة فيه أو نقصان، ولا ينسب إليه شيئاً لا يقول به أو حجّةً لا يعتبرها.
هذا إذا كان البحث والجدل بالكتابة.
وأما إذا كان بالقول، فيضاف إليها آداب أُخرى، كأن لا يقاطعه كلامه، وأن لا يرفع صوته إلاّ بالمعروف..
هذا، وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ الجدل قد يكون بالحقّ، وقد يكون بالباطل، والجدل بالحقّ هو إقامة الحجّة المعتبرة عند الطرفين أو عند الطرف الآخر، مع رعاية الآداب والأخلاق السامية.
ولم نكن ـ في البحث الذي عرضناه على ضوء آيات القرآن الكريم ـ بصدد التحقيق عن أنّ "علم الجدل" هو "علم المناظرة" أو أنّ الأوّل هو العلم الباحث عن طريق التي يُقتدر بها على إبرام ونقض حجّة الخصم،
والثاني هو العلم الباحث عن آداب المناظرة والبحث، فإن العلماء اختلفوا في هذا المطلب، لكنه لا يعنينا الآن.. كما إنّا لم نفرّق هنا بين "الجدل" وبين "الاحتجاج" وبين "المناظرة"، فليتنبّه إلى ذلك.
علم الكلام:
قد أشرنا إلى أنّ "علم الجدل" لا يختصُّ بمطلب دون غيره، أو مسألة دون أُخرى، فإنّه علم يستعمل في شتّى المسائل الخلافية، من فقه وحديث وفسلفة واقتصاد وسياسة... وغيرها من العلوم، إذ يقيم كلّ ذي رأي حجّته المعتبرة على دعواه وا يتبنّاه، ثمّ يتناظران طبق القواعد المقرّرة والاُصول المؤسَّسة، حتّى يتميّز الحقّ عن الباطل، والصواب من الخطأ.ومن المعلوم التي كثر الجدل في مسائلها وما يزال هو: "علم الكلام".
تعريف علم الكلام وفائدته:
والظاهر أن لا اختلاف كبير بين العلماء في تعريف علم الكلام، وفائدته، والغرض من وضعه وتأسيسه.
• قال القاضي عضد الدين الإيجي(1):
1- هو عضد الدين، أبو الفضل، عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي الشيرازي الشافعي، القاضي، وُلد بإيج من نواحي شيراز بعد السبعمئة، عالم بالأُصول والمعاني والبيان والنحو والفقه وعلم الكلام، له مصنّفات منها:
الرسالة العضدية في الوضع، جواهر الكلام، الفوائد الغياثية، شرح مختصر ابن الحاجب، المواقف في علم الكلام.
توفّي مسجوناً بقلعة دريميان سنة 756هـ.
انظر: طبقات الشافعية الكبرى ـ للسبكي ـ 10/46 رقم 1369، الدرر الكامنة 2/196 رقم 2279، معجم المؤلّفين 2/76 رقم 6756، الأعلام 3/295.
"الكلام: علم يقتدر معه إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشُبة".
قال: "وفائدته أُمور:
الأوّل: الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان.
الثاني: إرشاد المسترشدين بإيضاح المحجّة، وإلزام المعاندين بإقامة الحجّة.
الثالث: حفظ قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين.
الرابع: أن يبنى عليها العلوم الشرعية فإنّه أساسها.
الخامس: صحّة النيّة والاعتقاد، إذ بها يرجى قبول العمل".
قال:
"وغاية ذلك كلّه: الفوز بسعادة الدارين"(1).
• وقال سعد الدين التفتازاني(2):
1- المواقف في علم الكلام: 7 ـ 8.
2- هو: سعد الدين مسعود بن عمر بن عبد اللّه التفتازاني، وُلد بتفتازان ـ قرية كبيرة من نواحي نَسَا، وراء الجبل، من مدن خراسان ـ سنة 712، وقيل: 722 هـ ; من أئمة العربية والبيان والمنطق، عالم بالفقه والأُصول والتفسير والكلام، له مؤلّفات كثيرة، منها: تهذيب المنطق، المطوّل في البلاغة، حقائق التنقيح في الأُصول، حاشية على تفسر الكشّاف للزمخشري، شرح العقائد النسفية، شرح المقاصد.
توفّي بسمرقند سنة 792، وقيل: 791 و 793.
انظر: الدرر الكامنة 4/214 رقم 4933، معجم البلدان 2/41 رقم 2545 و ج 5/325 رقم 11997، البدر الطالع 2/164 رقم 548، معجم المؤلّفين 3/849 رقم 16856، الأعلام 7/219.
"الكلام هو: العلم بالعقائد الدينية عن الأدلّة اليقينية".
قال: "وغايته: تحلية الإيمان بالإيقان".
"ومنفعته: الفوز بنظام المعاش، ونجاة المعاد"(1).
• والفيّاض اللاهيجي(2)، شارح التجريد من أصحابنا، ذكر كِلا التعريفين في كتابه شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام(3).
فالغرض الذي من أجله وُضع علم الكلام من قبل علماء الإسلام هو إقامة الحجّة المعتبرة من العقل والنقل "بالتي هي أحسن" على اُصول الدين، إرشاداً للمسترشدين، وإلزاماً للمعاندين، ولتحفظ به قواعد الدين عن أن تزلزلها شبه المبطلين، ولأنّ العقائد الدينية هي الأساس للعلوم [/
شرح المقاصد في علم الكلام 1/163 و175.
2- هو: الشيخ عبد الرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الجيلاني، الملقّب بالفيّاض; كان عالماً محقّقاً مدقّقاً حكيماً، من علماء الكلام، درّس بقم، وهو من تلامذة المولى صدر الدين محمّد الشيرازي، وصهره على ابنته، له مؤلّفات، منها: شوارق الأنوار وبوارق الأسرار في الحكمة، الكلمات الطيّبة في المحاكمة بين ملاّ صدرا وبين الميرداماد، ديوان شعر فارسي، حواش على حاشية الخضري، شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام.
قيل توفّي سنة 1051، وقال آقا بزرك الطهراني: هو اشتباه، والصحيح أنه توفّي سنة 1072.
انظر: رياض العلماء 2/114، أعيان الشيعة 7/470، طبقات أعلام الشيعة / القرن الحادي عشر 5/319، الذريعة 14/238 رقم 2366، معجم المؤلّفين 2/141 رقم 7185، الأعلام 3/352.
3- شوارق الإلهام 1/5.
الشرعية والأحكام العملية، فمَن صحّت عقائده قُبلت أعماله الشرعية، وكيف تُقبل الأعمال عن العقائد الباطلة أو ممّن هو في شكٍّ من أمر دينه؟!
فعِلم الكلام ـ بالنظر إلى موضوعه ـ من أهمّ العلوم الضرورية للأُمّة; لأنّه المتكفّل لبيان ما على المكلَّفين الالتزام به من الناحية الاعتقادية، كما أنّ علم الفقه يتكفّل بيان ما يجوز وما لا يجوز عليهم من الناحية العملية، مع جواز التقليد فيه.
وكما أنّ بقاء الشريعة المقدّسة في أحكامها الفرعية بعلم الفقه وجهود الفقهاء فيه، كذلك علم الكلام وآثار المتكلّمين في الحفاظ على الأُصول الاعتقادية.
على إنّ من الواضح أنّه إذا استوعب الإنسان الأدلّة والبراهين على المعتقدات الحقّة الصحيحة، تمكّنَ من الدفاع عنها والإجابة عن الشبهات المطروحة حولها، بل ودعوة الآخرين إليها بالقلم واللسان...
ومن هنا كثر اهتمام العلماء بهذا العلم، وكثر الكتب المؤلّفة فيه من مختلف المذاهب الإسلامية...
*** أكتفي بهذا الإقتباس من نصائح وإرشادات .. ومن خُلق مدرسة سفن النّجاة "ع" وما أنعم به المولى المظفّر – قدّس رمسه – من توجيهات لمن يبتغي فنون وأدبيات المناظرة والجدال .. ***
والسلام في البدء والختام
أبو مرتضى عليّ
الفهـــــــــــرس :
1- المفردات في غريب القرآن: 87 مادّة "جَدَل".
2- سورة الأحزاب 33: 45 و 46.
3- سورة النحل: 16: 125.
4- سورة النحل: 16: 125.
5- سورة العنكبوت 29: 46.
6- سورة الكهف 18: 56.
7- سورة يس 36: 78 ـ 83.
8- سورة البقرة 2: 111.
9- سورة البقرة 2: 94.
10- سورة المائدة 5: 17.
11- سورة المائدة 5: 18.
12- سورة الأنعام 6: 71.
13- سورة الأنبياء 21: 21 ـ 24.
14- سورة البقرة 2: 258.
15- سورة الأنعام 6: 80.
16- سورة الأنبياء 21: 62 ـ 67.
17- سورة هود 11: 28 ـ 32.
18 - سورة غافر 40: 56.
19- انظر: المفردات في غريب القرآن: 244 مادّة "سلط".
20- سورة النحل 16: 125.
21- انظر ما يقرب من ذلك في: تفسير الكشّاف 2/435، تفسير البحر المحيط 5/549، تفسير الطبري 10/141.
22- سورة الأنعام 6: 152، سورة الإسراء 17: 34.
23- انظر: تفسير الطبري 5/393، مجمع البيان 4/183.
24- سورة الإسراء 17: 53.
25- انظر: تفسير البحر المحيط 6/49، تفسير الكشّاف 2/453.
26- سورة النساء 4: 59.
27- سورة النساء 4: 65.
28- سورة الأحزاب 33: 36.
29- سورة النحل 16: 103.
30- الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/12.
31- سورة النحل 16: 125
بسم الله وصلّ اللهم على محمد وآل بيت الله الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله بكِ أختي العفيفة نسايم لهذا النقل المبارك والذي ما إن يطبقه الشخص حتى يرقى به لمبتغاه لإقناع من يجادله بالحسنى وهو في الحقيقة موجه للفريقين ولكل محاور دون إستثناء بل علينا نحن الشيعة الإلتزام به أكثر من غيرنا لأننا أصحاب الدليل وأتباع أهل البيت عليهم السلام فيجب علينا أن نتخلّق بأخلاقهم لكي نقيم الحجّة ودفاعا عن مذهبنا وهذا هو الهدف الأساس فجادلهم بالتي هي أحسن والسلام
التعديل الأخير تم بواسطة عاشق ال14 ; 28-07-2009 الساعة 08:59 AM.
لاشك ان من يتبع الكلام اعلاه يوصله الى مبتغاه في الحقيقه ونشر الحقيقه
ولكن
عندما تحاور من يبغي الوصول الى الحقيقه والحقيقه فقط وهذا لا ينطبق على اكثر المتحاورين هنا
الذين جلهم الاعظم يبحث عن الجدل والطعن فقط ولهذا نجدهم يقعون في فخ النسخ واللصق وعدم امتلاكهم
خلفيه لما يكتبون او عن اي شيء يريدون الحوار .