تمهيد:
لقد جاءت الأحاديث الصحيحة مبشِّرة باثني عشر خليفة من قريش، لا يزيدون ولا ينقصون، عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل، يكون الإسلام بهم قائماً عزيزاً منيعاً ظاهراً على مَن ناواه، ويكون الأمر بهم صالحاً، وأمر الناس بهم ماضياً...
ومع استفاضة تلك الأحاديث ووضوحها إلا أن علماء أهل السنة تحيَّروا في معرفة هؤلاء الخلفاء، ولم يهتدوا في هذه المسألة إلى شيء صحيح، فجاءت أقوالهم ـ على كثرتها ـ واهية ركيكة ضعيفة كما سيتضح قريباً إن شاء الله تعالى.
طرق حديث الخلفاء الاثني عشر:
1ـ أخرج البخاري وأحمد والبيهقي وغيرهم عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش(1).
قال البغوي: هذا حديث متّفق على صحّته(2).
2ـ وأخرج مسلم عن جابر بن سمرة قال: دخلت مع أبي على النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم تكلم بكلام خفي عليَّ. قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش(3).
3 ـ وأخرج مسلم أيضاً ـ واللفظ له ـ وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً. ثم تكلم النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)؟ فقال: كلهم من قريش(4).
4 ـ وأخرج مسلم أيضاً وأحمد والطيالسي وابن حبان والخطيب التبريزي وغيرهم عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة. ثم قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: كلهم من قريش(5).
5 ـ وأخرج مسلم ـ واللفظ له ـ وأحمد وابن حبان عن جابر بن سمرة، قال: انطلقت إلى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ومعي أبي، فسمعته يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة. فقال كلمة صَمَّنيها الناس، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش(6).
6 ـ وأخرج مسلم ـ واللفظ له ـ وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يوم جمعة عشية رجم الأسلمي يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش...(7).
7 ـ وأخرج الترمذي وأحمد عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): يكون من بعدي اثنا عشر أميراً. ثم تكلم بشيء لم أفهمه، فسألت الذي يليني، فقال: قال: كلهم من قريش(8).
8 ـ وأخرج أبو داود حديث الخلفاء الاثني عشر بثلاثة طرق صحيحة(9).
قال في أحدها: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلهم تجتمع عليه الأمة. فسمعت كلاماً من النبي لم أفهمه، قلت لأبي: ما يقول؟ قال: كلهم من قريش(10).
وقال في آخر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة. قال: فكبَّر الناس وضجّوا، ثم قال كلمة خفية. قلت لأبي: يا أبه، ما قال؟ قال: كلهم من قريش(11).
5 ـ وأخرج أحمد ـ واللفظ لغيره ـ، والحاكم في المستدرك، والهيثمي في مجمع الزوائد عن الطبراني في الأوسط والكبير والبزَّار، أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: لا يزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة. وخفض بها صوته، فقلت لعمي وكان أمامي: ما قال يا عم؟ قال: كلهم من قريش(12).
6 ـ وأخرج أحمد في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد، وابن حجر في المطالب العالية، والبوصيري في مختصر الإتحاف، عن مسروق، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، فقال: هل حدَّثكم نبيَّكم كم يكون بعده من الخلفاء؟ قال: نعم، وما سألني عنها أحد قبلك وإنك لمن أحدث القوم سنًّا.
قال: يكونون عدّة نقباء موسى، اثني عشر نقيباً(13).
7 ـ وأخرج أحمد وأبو نعيم والبغوي عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول: يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش...(14).
8 ـ وأخرج أحمد بن حنبل في المسند ـ واللفظ له ـ، والحاكم النيسابوري في المستدرك عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) يقول في حجّة الوداع: لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناواه، لا يضرّه مخالف ولا مفارق، حتى يمضي من أمتي اثنا عشر أميراً، كلهم. ثم خفي من قول رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: يقول: كلهم من قريش(15).
إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة(16).
مَن هم الخلفاء الاثنا عشر؟
لقد حاول علماء أهل السنة كشف المراد بالخلفاء الاثني عشر في الأحاديث السابقة، بما يتَّفق مع مذهبهم، ويلتئم مع معتقدهم، فذهبوا ذات اليمين وذات الشمال لا يهتدون إلى شيء.
وحاولوا جاهدين أن يصرفوا هذه الأحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ويجعلونها في غيرهم ممن لا تنطبق عليهم الأوصاف الواردة فيها، فتاهوا وتحيَّروا، حتى ذهبوا إلى مذاهب عجيبة، وصدرت منهم أقوال غريبة، وأقرَّ بعضهم بالعجز، واعترف بعضهم بعدم وضوح معنى لهذه الأحاديث تركن إليه النفس.
قال ابن الجوزي في كشف المشكل: هذا الحديث قد أطلتُ البحث عنه، وتطلَّبتُ مظانّه، وسألتُ عنه، فما رأيت أحداً وقع على المقصود به...(17).
وقال ابن بطال عن المهلب: لم ألقَ أحداً يقطع في هذا الحديث ـ يعني بشيء معين(18).
اختلاف أهل السنة في الخلفاء الاثني عشر:
لقد كثرت أقوالهم في هذه المسألة، واختلفت آراؤهم اختلافاً عظيماً، وتضاربت تضارباً شديداً، ومع كثرة تلك الأقوال لا تجد فيها قولاً خالياً من الخدش والخلل، وأهم ما عثرت عليه من أقوالهم في هذه المسألة ثمانية أقوال، وإليك بيانها، وبيان ما فيها:
1 ـ رأي القاضي عياض والحافظ البيهقي:
قال القاضي عياض(19): لعل المراد بالاثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزَّة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره، والاجتماع على مَن يقوم بالخلافة، وقد وُجد فيمن اجتمع عليه الناس، إلى أن اضطرب أمر بني أمية، ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية، فاستأصلوا أمرهم(20).
قال ابن حجر العسقلاني: كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة: ( كلّهم يجتمع عليه الناس)، وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع انقيادهم لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، إلى أن وقع أمر الحَكَمين في صفِّين، فتسمَّى معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد، ولم ينتظم للحسين أمر، بل قُتل قبل ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة: الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام، وتخلل بين سليمان ويزيد: عمرُ بن عبد العزيز، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين، والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك، اجتمع الناس عليه لما مات عمّه هشام، فولي نحو أربع سنين، ثم قاموا عليه فقتلوه، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك...(21).
وهذا هو قول البيهقي(22) أيضاً في دلائل النبوة، حيث قال بعد أن ساق بعضاً من الأحاديث السابقة: وقد وُجد هذا العدد بالصفة المذكورة إلى وقت الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ثم وقع الهرج والفتنة العظيمة كما أخبر في هذه الرواية، ثم ظهر ملك العباسية...(23).
ثم قال: والمراد بإقامة الدين ـ والله أعلم ـ إقامة معالمه وإن كان بعضهم يتعاطى بعد ذلك ما لا يحل(24).
أقـول:
1 ـ يرُدّ هذا القول وسائر أقوالهم ما رواه القوم عن سفينة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الخلافة ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً(25).
ولأجل هذا صرَّحوا بأن الخلافة عندهم منحصرة في أربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي استناداً إلى هذا الحديث، أو خمسة بضميمة عمر بن عبد العزيز(26)، فكيف صار غير هؤلاء خلفاء مع أن الحديث نصَّ على أن ما بعد ثلاثين سنة لا تكون خلافة، بل يكون ملك.
وفي سنن الترمذي: قال سعيد: فقلت له (أي لسفينة راوي الحديث): إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
وفي سنن أبي داود: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفة. قال: كذبت أستاه بني الزرقاء ـ يعني بني مروان(27).
وقال القاضي عياض وغيره في الجمع بين حديث سفينة وحديث الخلفاء الاثني عشر: إنه أراد في حديث سفينة خلافة النبوة، ولم يقيّده في حديث جابر ابن سمرة بذلك(28).
وقال الألباني: وهذا جمع قوي، ويؤيّده لفظ أبي داود: ( خلافة النبوة ثلاثون سنة )، فلا ينافي مجيء خلفاء آخرين من بعدهم، لأنهم ليسوا خلفاء النبوة، فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لا غيرهم، كما هو واضح(29).
ويردّه: أن خلافة النبوة هذه لم يذكر لها علماء أهل السنة معنى واضحاً، واختلفوا في بيان المراد منها، فمنهم من قال بأن خلافة النبوة هي التي لا طلب فيها للملك ولا منازعة فيها لأحد(30). فعليه تخرج خلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) عن كونها خلافة نبوة، لمنازعة أهل الجمل وأهل النهروان ومعاوية وأهل الشام له(31)، مع أنهم ذكروا أن خلافته (عليه السلام) خلافة نبوة. وهذا تهافت واضح.
ومنهم مَن ذكر أن خلافة النبوة إنما تكون لمن عملوا بالسُّنَّة، فإذا خالفوا السنّة وبدّلوا السيرة فهم ملوك وإن تسمّوا بالخلفاء(32).
وعليه تكون خلافة النبوة أكثر من ثلاثين سنة، لاتفاقهم على أن عمر بن عبد العزيز كان يعمل بالسنّة، ولعدّهم إياه من الخلفاء الراشدين، مع أنهم لم يذكروه من ضمن مَن كانت خلافتهم خلافة نبوة.
ومنهم من قال: إن المراد بالخلافة في حديث سفينة هي الخلافة الحقَّة أو المرضية لله ورسوله، أو الكاملة، أو المتصلة(33).
وعليه فتكون خلافة النبوة هي خلافة أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وابنه الحسن (عليه السلام) فقط دون غيرهما.
ولو سلَّمنا أن خلافة الأربعة كانت مرضيّة لله ورسوله أو كاملة أو غير ذلك فلا بد أن يُضاف إليها عندهم خلافة عمر بن عبد العزيز، فتكون خلافة النبوة حينئذ أكثر من ثلاثين سنة.
والصحيح أن يقال في هذا الحديث على تقدير صحَّته: إن خلافة النبوة لا يمكن أن يراد بها إلا الخلافة التي كانت بنصّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمَن استخلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأمة فهو خليفة النبي، وخلافته هي خلافة النبوة، ومَن لم يستخلفه واستخلفه الناس فهو خليفتهم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف عليّاً (عليه السلام).
وعليه يكون معنى حديث سفينة: إن خلافة النبوة ـ وهي خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ـ تستمر إلى ثلاثين سنة، ثم يتولى أمور المسلمين الملوك. وعدم تمكّن أمير المؤمنين (عليه السلام) من تولي أمور المسلمين، أو عدم اتّباع الناس له إلا النفر القليل لا يسلب عنه الخلافة بعد حكم الشارع المقدس بها ونصّه عليها، وهذا له نظائر كثيرة في الأصول والفروع لا تخفى(34).
وأما حديث الخلفاء الاثني عشر فهو بيان لعدد أئمة الهدى وخلفاء الحق وسادة الخلق المنصوبين من الله سبحانه، الذين لا يضرهم من ناواهم، ويكون الإسلام بهم عزيزاً، وبذلك يتّضح ألا منافاة بين الحديثين بهذين المعنيين.
2 ـ إن أكثر مَن ذكرهم لم يجتمع عليه الناس، فإن عثمان وإن تمَّت له البيعة واجتماع الناس في أول خلافته، إلا أن الأمور انتقضت عليه بعد ذلك حتى قتله الناس، وأما علي بن أبي طالب (عليه السلام) فلم يجتمع عليه الناس من أول يوم في خلافته، وذلك لأن أهل الشام لم يبايعوه، وهم كثيرون، وخرج عليه طلحة والزبير وعائشة، فحاربهم في البصرة، ثم خرج عليه الخوارج فحاربهم في النهروان... وكل ذلك كان في أقل من خمس سنين.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية: علي رضي الله عنه... لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك(35).
فعلى ذلك لا يكون علي (عليه السلام) من هؤلاء الخلفاء عندهم.
وأما يزيد بن معاوية فلم يبايعه الحسين بن علي (عليه السلام) وأهل بيته حتى قُتلوا في كربلاء، وخرج عليه أهل المدينة، وأخرجوا منها عامله وسائر بني أمية، فوقعت بينهم وبينه وقعة الحرة، وخرج عليه ابن الزبير في مكة واستولى عليها... فأي اجتماع حصل له !!؟.
3 ـ أن معاوية ومن جاء بعده من ملوك بني أمية وغيرهم لم يجتمع عليهم الناس، بل كانوا متغلِّبين على الأمَّة بالقوة والقهر، ومن الواضح أن هناك فرقاً بيِّناً بين اجتماع الناس على شيء وجمعهم عليه، فإن الاجتماع مأخوذ في معناه اختيار المجتمعين، وأما الجمع فمأخوذ فيه عدم الاختيار، والذي حصل لبني أمية هو الثاني، والمذكور في الحديث هو الأول، وهذا واضح معلوم لمن نظر في تاريخ بني أمية وسيرتهم في الناس.
وقد روي فيما يدلِّل ذلك الكثير، ومنه ما روي عن سعيد بن سويد، قال: صلى بنا معاوية بالنخيلة ـ يعني خارج الكوفة ـ الجمعة في الضحى، ثم خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، قد عرفت أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأ تأمَّر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون(36).
4 ـ أن الخلفاء حسبما ذكر في كلامه يكونون ثلاثة عشر لا اثني عشر، وهم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ معاوية. 6 ـ يزيد بن معاوية . 7 ـ عبد الملك. 8 ـ الوليد. 9 ـ سليمان . 10 ـ عمر بن عبد العزيز. 11 ـ يزيد بن عبد الملك. 12 ـ هشام بن عبد الملك . 13 ـ الوليد بن يزيد.
قال ابن كثير: إن الخلفاء إلى زمن الوليد بن اليزيد أكثر من اثني عشر على كل تقدير(37).
2 ـ رأي ابن حجر العسقلاني:
قال ابن حجر العسقلاني: الأَولى أن يحمل قوله: (يكون بعدي اثنا عشر خليفة) على حقيقة البَعْدية، فإن جميع من ولي الخلافة مِن الصدِّيق إلى عمر ابن عبد العزيز أربعة عشر نفساً، منهم اثنان لم تصح ولايتهما ولم تطل مدَّتهما، وهما معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء كما أخبر (صلى الله عليه [وآله] وسلم).
إلى أن قال: ولا يقدح في ذلك قوله: ( يجتمع عليه الناس )، لأنه يُحمَل على الأكثر الأغلب، لأن هذه الصفة لم تفقد إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير مع صحة ولايتهما، والحُكم بأن مَن خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن، وبعد قتل ابن الزبير، والله أعلم(38).
أقـول: على هذا القول يكون الخلفاء الاثنا عشر هم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ الإمام الحسن (عليه السلام). 6 ـ معاوية. 7 ـ يزيد بن معاوية. 8 ـ عبد الله بن الزبير. 9 ـ عبد الملك. 10 ـ الوليد. 11 ـ سليمان. 12 ـ عمر بن عبد العزيز.
وقوله: (يجتمع عليه الناس) محمول على الأكثر الأغلب، يردّه أن مجيء التأكيد بـ (كل) في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كلّهم يجتمع عليه الناس) الدال بالنصّ على العموم يقدح في هذا القول.
هذا مع أن الصفة المذكورة ـ وهي اجتماع الناس ـ فُقدت في غير الحسن (عليه السلام) وابن الزبير كما مر آنفاً.
وقوله: (إن معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم لم تصح ولايتهما) يردّه أن يزيد بن معاوية إن كانت ولايته صحيحة كما قال، فنص يزيد على ابنه من بعده يصحِّح ولايته بلا ريب ولا شبهة وإن لم تطل مدّته. وإن كان التغلّب على أمور المسلمين يصحّح خلافة معاوية، فتغلّب مروان بعد ذلك مصحِّح لخلافته.
ثم إن جعله طول الولاية دليلاً على صحَّتها واعتبارها لا يمكن التسليم به، فإنه لم يقل به أحد، هذا مع أنه اعتبر ولاية الإمام الحسن (عليه السلام) التي دامت ستة أشهر، ولم يعتبر ولاية مروان بن الحكم التي دامت نفس المدة.
ومن الغريب أنه زعم أن عبد الملك بن مروان لم يثبت استحقاقه للخلافة إلا بعد قيامه على الخليفة الحق عنده آنذاك وهو عبد الله بن الزبير وقتله.
والذي يظهر من كلام ابن حجر أنه يرى أن كل أولئك الحكَّام كانوا متأهِّلين للخلافة مستحقّين لها، مع أن يزيد بن معاوية مثلاً لا يختلف المنصفون في عدم أهليته للخلافة وعدم استحقاقه لها، لأنه تولَّى ثلاث سنين: السنة الأولى قتل فيها الحسين (عليه السلام)، والسنة الثانية أباح فيها المدينة، والسنة الثالثة هدم فيها الكعبة... فكيف يكون من الخلفاء الذين يكون الإسلام بهم عزيزاً منيعاً قائماً؟!.
3 ـ قول ابن أبي العز شارح العقيدة الطحاوية:
قال ابن أبي العز الحنفي(39): والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبد العزيز ثم أخذ الأمر في الانحلال، وعند الرافضة أن أمر الأمَّة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولّى عليه الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود. وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر(40).
أقول: الخلفاء الاثنا عشر على هذا القول هم:
1 ـ أبو بكر. 2 ـ عمر. 3 ـ عثمان. 4 ـ الإمام علي (عليه السلام). 5 ـ معاوية. 6 ـ يزيد بن معاوية. 7 ـ عبد الملك. 8 ـ الوليد. 9 ـ سليمان. 10 ـ عمر بن عبد العزيز. 11 ـ يزيد بن عبد الملك. 12 ـ هشام بن عبد الملك.
ويَرِد عليه ما قلناه في خلافة معاوية بن يزيد، وخلافة مروان بن الحكم، فراجعه.
ثم إن كل مَن نظر في تاريخ المسلمين يعلم أن الأمة لا تزال في ذلّ وهوان في زمن أكثر هؤلاء الخلفاء، وأقوال علماء أهل السنة تشهد بذلك وتصرح به، ولو لم يكن في زمانهم إلا قتل الحسين (عليه السلام) لكفى، كيف وقد أعلن بنو أمية سب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) على المنابر قرابة ستين سنة، وضُرِبت الكعبة حتى تهدّمت حيطانها، وأبيحت المدينة ثلاثة أيام، فوقع فيها من المخازي ما يندى له جبين التاريخ.
فإنهم كانوا يقتلون كل من وجدوه من الناس، وكانوا يسلبون كل ما وقع تحت أيديهم من الأموال، ووقعوا على النساء حتى قيل: إنه حبلت ألف امرأة من أهل المدينة من غير زوج. وقُتل من وجوه المهاجرين والأنصار سبعمائة، ومن سائر الناس عشرة آلاف، ولما دخل مسلم بن عقبة المدينة دعا الناس للبيعة على أنهم عبيد وخَدَم ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء(41).
إلى غير ذلك مما يطول ذِكره.
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: لو لم يكن من مساوئ عبد الملك إلا الحجَّاج وتوليته إياه على المسلمين وعلى الصحابة رضي الله عنهم، يهينهم ويذلّهم قتلاً وضرباً وشتماً وحبساً، وقد قتل من الصحابة وأكابر التابعين ما لا يُحصى، فضلاً عن غيرهم، وختم على عنق أنَس وغيره من الصحابة ختماً، يريد بذلك ذلَّهم، فلا رحمه الله ولا عفا عنه(42) .
وقال الذهبي في كتابه العِبَر: قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الوليد بالشام، والحجَّاج بالعراق، وقُرَّة (بن شريك) بمصر، وعثمان بن حبان بالحجاز، امتلأت والله الأرض جوراً(43).
فهل كان الإسلام عزيزاً وفي ازدياد!!؟ وهل كان الناس عامة والمؤمنون خاصة في عز وكرامة، أم في ذلَّ ومهانة؟ الأمر معلوم وواضح، ولا ينكر ذلك إلا مكابر أو جاهل أو متعصب.
ويكفي قول سفينة المتقدم فيهم لما سأله سعيد فقال: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم. قال: كذبوا بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
4 ـ قول ابن كثير وابن تيمية:
وهو أن المراد وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة، يعملون بالحق وإن لم تتوالَ أيامهم، ويؤيده ما أخرجه مُسدَّد في مسنده الكبير من طريق أبي بحر، أن أبا الجلد حدَّثه أنه لا تهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة، كلهم يعمل بالهدى ودين الحق، منهم رجلان من أهل بيت محمد (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، يعيش أحدهما أربعين سنة، والآخر ثلاثين سنة.
وعلى هذا فالمراد بقوله: (ثم يكون الهرج) أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج إلى أن تنقضي الدنيا(44).
قال ابن كثير: قد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا، وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه: إن الله تعالى بشَّر إبراهيم بإسماعيل، وأنه ينميه ويكثِّره، ويجعل في ذرّيّته اثنا عشر عظيماً. قال شيخنا العلامة أبو العباس بن تيمية: وهؤلاء المبشَّر بهم في حديث جابر بن سمرة، وقرّر أنهم يكونون مفرّقين في الأمّة، ولا تقوم الساعة حتى يوجدوا(45).
قال السيوطي: وعلى هذا فقد وُجد من الاثني عشر خليفة: الخلفاء الأربعة، والحسن ومعاوية وابن الزبير وعمر بن عبد العزيز، ويحتمل أن يُضم إليهم المهتدي من العباسيين، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز، وكذلك الطاهر لما أوتيه من العدل، وبقي الاثنان المنتظران، أحدهما المهدي، لأنه من أهل بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)(46).
أقول: يفسد هذا القول أن الإمام عليًّا وابنه الإمام الحسن (عليهم السلام) ـ وهما من أهل البيت (عليهم السلام) ـ لم يعش واحد منهما ثلاثين سنة والآخر أربعين، وعليه فينبغي إخراجهما من جملة هؤلاء الاثني عشر.
قال ابن كثير: إن إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الاثني عشر خلاف ما نصَّ عليه أئمة السنة، بل والشيعة(47).
هذا مضافاً إلى أن عد السيوطي من هؤلاء الخلفاء ثلاثة من أهل البيت خلاف حديث أبي الجلد الذي أيَّدوا به قولهم.
ثم إن عد معاوية ممن يعمل بالهدى ودين الحق خلاف ما هو معلوم من حاله ومشهور من أفعاله، وحسبك أنهم اتَّفقوا على إخراجه من زمرة الخلفاء الراشدين، فجعلوهم أربعة أو خمسة، ولم يجعلوه منهم.
وأخرج مسلم في الصحيح عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ـ في حديث طويل قال: فقلت له ـ أي لعبد الله بن عمرو بن العاص ـ: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل أنفسنا، والله يقول (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً). قال: فسكت ساعة، ثم قال: أطعه في طاعة الله، واعصِه في معصية الله(48).
وأخرج الحاكم وصحَّحه على شرط الشيخين، عن عبادة بن الصامت، أنه قام قائماً في وسط دار عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محمداً أبا القاسم يقول: ( سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله، فلا تعتبوا أنفسكم)، فوالذي نفسي بيده إن معاوية من أولئك. فما راجعه عثمان حرفاً واحداً(49).
ثم إن إخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهؤلاء الخلفاء إنما كان لفائدة عظيمة وغاية مهمة يريد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيضاحها للأمة، وهي مبايعة هؤلاء الخلفاء، ومتابعتهم، والأخذ بهديهم دون غيرهم ممن لم يكن بهذه الصفة.
وعليه، فلو صحَّ هذا القول لما كان ثمة أي فائدة في بيان وجود اثني عشر خليفة يعملون بالحق في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة، وإن لم تتوالَ أيامهم، فكل خليفة يتولى أمور الناس لا يُعلم أنه منهم أم لا، فلا يُدرى هل يُبايَع ويُتابَع أم لا. ولا فائدة في ذكر العدد المجرد، القابل للانطباق على كل واحد يتولّى أمر الأمَّة إذا لم يتميّز هؤلاء الخلفاء بأعيانهم وأشخاصهم بحيث لا يدخل فيهم غيرهم.
والغريب من ابن كثير كيف رجَّح قول أبي الجلد بكونه ينظر في كتب أهل الكتاب، واستدل في هذه المسألة بحديث مذكور في التوراة، مع أنَّا لا نحتاج لإثبات مسألة مهمَّة كهذه بتوراة أو إنجيل محرَّفين، وعندنا أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تكفّلت ببيان هذه المسألة وغيرها.
وهذا دليل واضح على مبلغ التخبّط والحيرة التي وقع فيها أعلام أهل السنّة في هذه المسألة حتى التجأوا إلى ما لا يجوز الالتجاء إليه، واعتمدوا على ما لا يصح الاعتماد عليه.
ثم إن البيان الذي ذكره السيوطي لو سلَّمنا به فهو لا يزال ناقصاً، فإن الخلفاء الذين ذكرهم أحد عشر خليفة، فيبقي عليه ذكر الثاني عشر، فأين هو؟
5 ـ قول ابن الجوزي والخطابي(50):
وهو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية، وكأن قوله: (لا يزال الدين) أي الولاية إلى أن يلي اثنا عشر خليفة، ثم ينتقل إلى صفة أخرى أشد من الأولى، وأول بني أمية يزيد بن معاوية، وآخرهم مروان الحمار، وعدّتهم ثلاثة عشر، ولا يُعَد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لكونهم صحابة، فإذا أسقطنا مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته، أو لأنه كان متغلِّباً بعد أن اجتمع الناس على ابن الزبير صحَّت العدة، وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة حتى استقرت دولة بني العباس، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيراً بيناً...(51)
أقول: لا يخفى ضعف هذا القول وركاكته، فإن أحاديث الخلفاء الاثني عشر وردت بلسان المدح لهم والبشارة بهم، ووصفتهم بأن الإسلام بهم يكون عزيزاً منيعاً قائماً، وقد تقدم مفصلاً أن حال هؤلاء ليس كذلك، ومنه يتضح أن هذه الأحاديث أجنبية عن أولئك الخلفاء وبعيدة كل البعد عنهم.
وقوله: (إن حكم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتبط بحكمه في هذا الأمر) لا تدل عليه هذه الأحاديث ولا غيرها.
والعجيب في المقام أن الخطابي جعل أحاديث الخلفاء الاثني عشر مقصورة على بني أمية خاصة، مع أنها جاءت مادحة للاثني عشر مبشرة بهم، وغفل عن الأحاديث الصحيحة الأخرى التي دلَّت على ذم بني أمية وبني أبي العاص بأشد ما يكون الذم، وهي كثيرة جداً.
منها: ما دلَّ على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ساءه ملك بني أمية.
فقد أخرج الترمذي في السنن والسيوطي في الدر المنثور وغيرهما أن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت (إنا أعطيناك الكوثر)... ونزلت (إنا أنزلناه في ليلة القدر .... ليلة القدر خير من ألف شهر) يملكها بنو أمية يا محمد. قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص(52).
وأخرج الهيثمي في مجمع الزوائد، والحاكم في المستدرك وصحَّحه، وابن حجر في المطالب العالية والبوصيري في مختصر الإتحاف وابن كثير في البداية والنهاية، وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) رأى في منامه كأن بني الحكَم(53) ينزون على منبره وينزلون، فأصبح كالمتغيظ، فقال: ما لي رأيت بني الحكَم ينزون على منبري نزو القردة؟ قال: فما رؤي رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) مستجمعاً ضاحكاً بعد ذلك حتى مات (صلى الله عليه [وآله] وسلم(54).
وأخرج السيوطي عن ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب، قال: رأى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: (إنما هي دنيا أُعطوها). فقرَّت عينه، وهي قوله (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) يعني بلاء(55).
ومنها: ما دلَّ على أن بني أميّة أبغض الناس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقد أخرج الهيثمي والحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي، والبوصيري وحسَّنه، عن أبي برزة الأسلمي، قال: كان أبغض الأحياء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنو أمية وبنو حنيفة وثقيف(56).
ومنها: ما دلَّ على سوء فعلهم وعظم ضررهم إذا كثر عددهم.
فقد أخرج الحاكم والبوصيري وحسَّنه والهيثمي والبيهقي وابن حجر عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا بلغ بنو أبي العاص(57) ثلاثين رجلاً اتّخذوا مال الله دُوَلاً (58)، ودين الله دَغَلاً (59)، وعباد الله خَوَلاً (60)(61).
وفي رواية أخرجها الحاكم قال: إذا بلغت بنو أمية أربعين... (62)
ومنها: ما دلَّ على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن بعض هؤلاء الخلفاء وهم في الأصلاب.
ومن ذلك ما أخرج الحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي عن عبد الله بن الزبير، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن الحكَم وولده (63).
واخرج الحاكم وصحَّحه عن عمرو بن مرة الجهني وكانت له صحبة أن الحكم بن أبي العاص استأذن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صوته وكلامه، فقال: ايذنوا له، عليه لعنة الله وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم، يشرفون في الدنيا، ويضعون في الآخرة، ذو مكر وخديعة، يعطون في الدنيا، وما لهم في الآخرة من خلاق (64).
ومنها: ما دلَّ على أن بعضهم أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه، وهو الوليد بن عبد الملك، أو الوليد بن يزيد.
فقد أخرج أحمد في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد عن عمر، قال: وُلد لأخي أم سلمة زوج رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) غلام فسمَّوه الوليد، فقال النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم): سمّيتموه بأسماء فراعنتكم؟ ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، لَهُو أشر على هذه الأمة من فرعون لقومه (65).
قال ابن كثير: قال أبو عمر الأوزاعي: كان الناس يرون أنه الوليد بن عبد الملك، ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد، لفتنة الناس به، حتى خرجوا عليه فقتلوه، وانفتحت على الأمة الفتنة والهرج (66).
أقول: سواء أكان هذا أم ذاك فكلاهما من الخلفاء الاثني عشر عندهم، فيكون واحد من هؤلاء الخلفاء أشر على هذه الأمة من فرعون.
ومنها: ما دلَّ على أن بعضهم جبابرة.
ومن ذلك ما أخرجه الهيثمي وابن كثير وغيرهما عن ابن وهب ـ في حديث ـ قال: وذكر مروان حاجة له ـ أي لمعاوية ـ فردَّ مروان عبد الملك إلى معاوية، فكلمه فيها، فلما أدبر عبد الملك قال معاوية (لابن عباس وكان جالساً معه على سريره): أنشدك بالله يا ابن عباس، أما تعلم أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ذكر هذا فقال: أبو الجبابرة الأربعة؟ فقال ابن عباس: اللهم نعم (67).
أقول: الجبابرة الأربعة هم أولاد عبد الملك، وهم: الوليد وسليمان ويزيد وهشام، وهم من الخلفاء الاثني عشر عندهم، فتدبَّر.
فهل يصح بعد النظر في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها أن يقال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشَّر بهؤلاء الملوك من بني أمية، وأخبر أن الدين بهم يكون عزيزاً منيعاً صالحاً...
ثم إن الخطابي أخرج مروان بن الحكم من عداد هؤلاء الاثني عشر للاختلاف في صحبته، مع أن أقوال علماء أهل السنة تنص على عدم صحبته.
قال البخاري: لم يرَ النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) (68).
وقال ابن حجر: روى عن النبي، ولا يصح له منه سماع (69).
وقال أيضاً: لم أرَ من جزم بصحبته (70).
وقال الذهبي: لم يرَ النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) لأنه خرج مع أبيه وهو طفل (71).
وقال النووي: لم يسمع النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ولا رآه، لأنه خرج إلى الطائف طفلاً لا يعقل حين نفى النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أباه الحكم، فكان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان فردَّهما (72).
وكذلك قال ابن الأثير في أسد الغابة وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما (73).
ثم إن لازم إخراج مروان من عدّة هؤلاء الخلفاء لتغلّبه إخراج كل خلفاء بني أمية معه، لأن خلافتهم كانت بالتغلّب والقهر أيضاً كما هو معلوم.
على أنَّا إذا أخرجنا مروان من العدّة فلا بد أن ندخل إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ليتم العدد، مع أن إبراهيم هذا تولّى الملك سبعين ليلة، ثم خلع نفسه، وسلَّم الأمر إلى مروان بن محمد، وبايعه طائعاً (74).
وقوله: (وعند خروج الخلافة من بني أميّة وقعت الفتن العظيمة...) إلى آخر ما قاله، يفسده أن ما وقع من الحوادث والفتن في زمن هؤلاء الخلفاء من بني أمية أعظم وأشنع من الفتن الواقعة في زمن جملة من خلفاء بني العباس، كالمنصور والمهدي والهادي وهارون والمأمون والمعتصم، وهذا ظاهر معلوم.
6 ـ قول ابن حبَّان:
قال ابن حبَّان (75): معنى الخبر عندنا: أن مَن بعد الثلاثين سنة يجوز أن يقال لهم خلفاء أيضاً على سبيل الاضطرار وإن كانوا ملوكاً على الحقيقة، وآخر اثني عشر من الخلفاء كان عمر بن عبد العزيز، فلما ذكر المصطفى (صلى الله عليه [وآله] وسلم) الخلافة ثلاثين سنة وكان آخر الاثني عشر عمر بن عبد العزيز، وكان من الخلفاء الراشدين المهديين، أطلق على مَن بينه وبين الأربع الأول اسم الخلفاء...
ثم ساق كلاماً طويلاً ذكر فيه كل مَن تولّى، ولم يعيِّن من هم الاثنا عشر، إلا أنه ذكر الأربعة، ومعاوية، والإمام الحسن (عليه السلام)، ويزيد، ومعاوية ابن يزيد، وعبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، وعبد الملك، والوليد، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، وهو آخرهم (76).
أقول: هؤلاء أربعة عشر نفساً، وهو قول فاسد على جميع الاحتمالات.
قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز.
ثم أوضح ذلك بما حاصله: أنه إن أُدخل يزيد بن معاوية خرج عمر بن عبد العزيز، مع أن الأئمة عدّوه من الخلفاء الراشدين، وإن أعتُبر مَن اجتمعت الأمة عليه خرج علي وابنه الحسن، وهذا خلاف ما نصّ عليه أئمة السنة بل والشيعة، وخلاف ما دلَّ عليه نصّاً حديث سفينة، وقد بيَّنَّا دخول خلافة الحسن وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً... إلى آخر ما قاله (77).
7 ـ رأي المهلب:
نُسب إلى المهلَّب (78) أنه قال: الذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميراً. قال: ولو أراد غير هذا لقال: (يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا... )، فلما أعراهم من الخبر عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد.
قال ابن حجر: وهو كلام مَن لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم، وهو كون الإسلام عزيزاً منيعاً. وفي الرواية الأخرى صفة أخرى، وهي أن كلهم يجتمع عليه الناس كما وقع عند أبي داود.
إلى أن قال: ولو لم يرِد إلا قوله: كلهم يجتمع عليه الناس (لكفى) فإن وجودهم في عصر واحد عين الافتراق، فلا يصح أن يكون المراد (79).
8 ـ قول أبي الحسين بن المنادي (80):
فإنه قال في الجزء الذي جمعه في المهدي: يحتمل في معنى حديث: (يكون اثنا عشر خليفة) أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، فقد وجدت في كتاب دانيال: إذا مات المهدي مَلَكَ بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر، ثم يملك بعده ولده، فيتم بذلك اثنا عشر ملكاً، كل واحد منهم إمام مهدي.
ثم ساق رواية رواها أبو صالح عن ابن عباس، ورواية أخرى عن كعب بهذا المعنى (81).
قال ابن حجر: الوجه الذي ذكره ابن المنادي ليس بواضح، ويعكِّر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي، عن أبيه، عن جدّه رفعه: (سيكون من بعدي خلفاء، ثم من بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمّر القحطاني، فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه)، فهذا يرِد على ما نقله ابن المنادي من كتاب دانيال، وأما ما ذكره عن أبي صالح فواهٍ جداً، وكذا عن كعب (82).
أقول: الذي ذكره ابن المنادي ليس بظاهر البتة من أحاديث الخلفاء الاثني عشر المتقدمة، بل الظاهر منها خلافه، فإن الخطاب في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يكون عليكم اثنا عشر خليفة) إنما هو لصحابته الباقين بعده، ولأنهم فهموا ذلك علا الضجيج الذي حال دون سماع جابر بن سمرة باقي كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو كان الأمر مرتبطاً بغيرهم ويقع في آخر الزمان لما كان ثمة ما يثير مشاعرهم إلى هذا الحد.
هذا مضافاً إلى أن أحاديث آخر الزمان لم تذكر هؤلاء الخلفاء الاثني عشر الذين ذكرهم ابن المنادي في كلامه، اللهم إلا ما ورد في كتاب دانيال، وهو كتاب إن صحَّ فلعل المراد بيان أن ثمة اثني عشر ملكاً يكونون بعد المهدي، غير الاثني عشر الذين يكونون بعد زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذه بعض أقوالهم التي وقفت عليها في هذه المسألة، وهي كلها كما رأيت ضعيفة واهية، لا يمكن الأخذ بها بحال.