قال أبو محمد: فعلمنا أن الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته بأربعة أيام، كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا، إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال. لأنه ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين، وأراد يوم الاثنين، وكانت مدة علته اثني عشر يوماً، فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الأمة بعده ، فإن ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفاً لو استخلف؟ فإنما معناه: لو كتب الكتاب في ذلك.
قال أبو محمد: فهذا قول ثان، وقالت الزيدية: إنما استخلف أبو بكر استيلاناً للناس كلـهم، لأنه كان هنالك قوم ينافرون علياً، فرأى عليّ أن قطع الشغب أن يسلم الأمر إلى أبي بكر، وإن كان دونه في الفضل. قال أبو محمد: وأما أن يقول أحد من الأمة: إن أبا بكر إنما قدم قياساً على تقديمه إلى الصلاة فيأبى اللـه ذلك، وما قالـه أحد قط يومئذ، وإنما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس، الذين لا يبالون بما نصروا به أقوالـهم، مع أنه أيضاً في القياس فاسد، لو كان القياس حقّاً، لما بينا قبل، ولأن الخلافة ليست علتها علة الصلاة، لأن الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد، والذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاضلة، وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها، إلا قرشي صليبة، عالم بالسياسة ووجوهها. وإن لم يكن محكماً للقراءة.
وإنما الصلاة تبع للإمامة، وليست الإمامة تبعاً للصلاة، فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة التي هي أصل، على الصلاة التي هي فرع من فروع الإمامة؟ هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس.
وقد كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم أكابر المهاجرين، وفيهم عمرو وغيره أيام النبي ولم يكن ممن تجوز لـه الخلافة، فكان أحقهم بالصلاة، لأنه كان أقرأهم، وقد كان أبو ذر، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وابن مسعود أولى الناس بالصلاة إذا حضرت، إذا لم يكونوا بحضرة أمير أو صاحب منزل، لفضل أبي ذر وزهده وورعه وسابقته، وفضل سائر من ذكرنا وقراءتهم ولم يكونوا من أهل الخلافة، ولا كان أبو ذر من أهل الخلافة، ولا كان أبو ذر من أهل الولايات ولا من أهل الاضطلاع بها. وقد قال لـه رسول اللـه*: «يَا أَبَا ذَرَ إِنِّي أُحِبُّ لَكَ ما أُحِبُّ لِنَفْسِي وَإِنَّكَ ضَعِيفٌ، فَلاَ تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلاَ تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» وقد أمر رسول اللـه خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأسامة بن زيد على من هو أفضل منهم وأقرأ، وأقدم هجرة وأفقه وأسن، وهذه هي شروط الاستحقاق للإمامة في الصلاة، وليست هذه شروط الإمارة. وإنما شروط الإمارة حسن السياسة، ونجدة النفس، والرفق في غير مهانة، والشدة في غير عنف، والعدل والجود بغير إسراف، وتمييز صفات الناس في أخلاقهم وسعة الصدر، مع البراءة من المعاصي، والمعرفة بما يخصه في نفسه في دينه، وإن لم يكن صاحب عبارة، ولا واسع العلم، ولو حضر عمرو وخالد وأسامة مع أبي ذر ــــ وهم غير أمراء ــــ ما ساغ لـهم أن يؤموا تلك الجماعة، ولا أن يتقدموا أبا ذر ولا أبيّ بن كعب.
ولو حضروا في مواضع يحتاج فيها إلى السياسة في السلم والحرب لكان عمرو وخالد وأسامة أحق بذلك من أبي ذر وأُبيّ ولما كان لأبي ذر وأُبيّ من ذلك حق مع عمرو وخالد وأسامة. وبرهان ذلك استعمال رسول اللـه خالداً وأسامة وعمراً دون أبي ذر وأُبي، وأبو ذر وأُبي أفضل من عمرو وأسامة وخالد بدرج عظيمة جدّاً.
وقد حضر الصحابة يوم غزوة مؤتة فقتل الأمراء وأشرف المسلمون على الـهلكة، فما قام منهم أحد مقام خالد بن الوليد، كلـهم، إلا الأقل، أقدم إسلاماً وهجرة ونصراً، وهو حديث الإسلام يومئذ، فما ثبت أحد ثباته، وأخذ الراية ودبر الأمر، حتى انحاز بالناس أجمل انحياز، فليست الإمامة والخلافة من باب الصلاة في ورد ولا صدر، فبطل تمويههم بأن خلافة أبي بكر كانت قياساً على الصلاة أصلاً. فإن قالوا: لو كانت خلافة أبي بكر منصوصاً عليه من النبي ما اختلفوا فيها؟. قال أبو محمد: فيقال لـهم وباللـه تعالى التوفيق: هذا تمويه ضعيف لا يجوز إلا على جاهل بما اختلف فيه الناس، وهل اختلف الناس إلا في المنصوصات. واللـه العظيم ــــ قسماً برّاً ــــ ما اختلف اثنان قط فصاعداً في شيء من الدين إلا في منصوص بيّن في القرآن والسنة، فمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا تلقى بخلاف ظاهره، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا منسوخ. ومن قائل: هذا تأويل، وكل هذا منهم بلا دليل في أكثر دعواهم كاختلافهم في وجوب الوصية لمن لا يرث من الأقارب والإشهاد في البيع، وإيجاب الكتابة، وقسمة الخمس، وقسمة الصدقات وممن تؤخذ الجزية، والقراءات في الصلوات والتكبير فيها، والاعتدال، والنيات في الأعمال والصوم، ومقدار الزكاة وما يؤخذ فيها المتعة في الحج، والقرآن والفسخ، وسائر ما اختلف الناس فيه، وكل ذلك منصوص في القرآن والصحيح عن رسول اللـه .
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الثاني/الجزء الثالث/الباب الثامن والثلاثون
التعديل الأخير تم بواسطة أحزان الشيعة ; 13-04-2013 الساعة 12:55 PM.
ومعنى «خليفة» فعيلة من «مخلوف» وهذا الهاء للمبالغة، كقولك «عقير وعقيرة» منقول عن معقورة، فهذا قول.
والقول الثاني: أنه إنما قدمه المسلمون لأنه كان أفضلهم، وحكم الإمامة أن يكون في الأفضل. واحتجوا بامتناع الأنصار في أول الأمر، وبقول عمر*: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني النبي .
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، بل بعضه عائد عليهم، لأن الأنصار لم يكونوا ليتركوا رأيهم، وهم أهل الدار والمنعة السابقة، الذين لم يبالوا بمخالفة أهل المشرق والمغرب، وحاربوا جميع العرب حتى أدخلوهم في الإسلام طوعاً وكرهاً، إلا لنص من النبي لا لرأي أضافهم النزاع إليهم من المهاجرين. وأما قول عمر فظن منه، وقد قال رضي الله عنه، إذ بشره ابن عباس عند موته بالجنة: «والله إن علمك بذلك يا ابن عباس لقليل» فخفي عليه شهادة النبي بالجنة، مع ما في القرآن من ذلك لأهل الحديبية، وهم منهم فهكذا خفي عليه نص النبي على أبي بكر، وهذا من عمر مضاف إلى ما قلنا آنفاً، ومضاف إلى قول يوم مات النبي . والله ما مات رسول الله، وإلى قوله يوم أراد رسول الله أن يكتب في مرضه الذي مات فيه. كما حدثنا حمام بن أحمد، ثنا عبد الله بن إبراهيم، ثنا أبو زيد المروزي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا البخاري، ثنا يحيى بن سليمان الجعفي، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: «لما اشتد برسول الله وجعه قال: ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي، فقال عمر: إن النبي غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا، فاختلفوا وكثر اللغط، فقال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه» .
وحدثناه عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية، ثنا أحمد بن شعيب، أنا محمد بن منصور، عن سفيان الثوري، سمعت سليمان ــــ هو الأحول ــــ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس/ فذكر الحديث وفيه: «إن قوماً قالوا عن النبي في ذلك اليوم، ما شأنه؟ هجر» . قال أبو محمد: هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديماً، وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف، وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى. فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به، مما كان سبباً إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده، ولم يزل أمر هذا الحديث مهماً لنا وشجى في نفوسنا، وغصة نألم لها
/
[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]قال أبو محمد: فيقال لـهم وباللـه تعالى التوفيق: هذا تمويه ضعيف لا يجوز إلا على جاهل بما اختلف فيه الناس، وهل اختلف الناس إلا في المنصوصات. واللـه العظيم ــــ قسماً برّاً ــــ ما اختلف اثنان قط فصاعداً في شيء من الدين إلا في منصوص بيّن في القرآن والسنة، فمن قائل: ليس عليه العمل، ومن قائل: هذا تلقى بخلاف ظاهره، ومن قائل: هذا خصوص، ومن قائل: هذا منسوخ. ومن قائل: هذا تأويل، وكل هذا منهم بلا دليل في أكثر دعواهم كاختلافهم في وجوب الوصية لمن لا يرث من الأقارب والإشهاد في البيع، وإيجاب الكتابة، وقسمة الخمس، وقسمة الصدقات وممن تؤخذ الجزية، والقراءات في الصلوات والتكبير فيها، والاعتدال، والنيات في الأعمال والصوم، ومقدار الزكاة وما يؤخذ فيها المتعة في الحج، والقرآن والفسخ، وسائر ما اختلف الناس فيه، وكل ذلك منصوص في القرآن والصحيح عن رسول اللـه . فعلى هذا وعلى النسيان للنص كان اختلاف من اختلف في خلافة أبي بكر. وأما الأنصار فإنهم لما ذكروا، وكان قبل ذلك قد نسوا، حتى قال قائلـهم: منا أمير ومنكم أمير، ودعا بعضهم إلى المداولة، وبرهان ما قلنا أن عبادة بن الصامت الأنصاري روى عن رسول اللـه*: أن الأنصار بايعوه على ألا ينازعوا الأمر أهلـه، وأنس بن مالك الأنصاري روى عن رسول اللـه ، أن الأئمة من قريش. فبهذا ونحوه رجعت الأنصار عن رأيهم، ولا ذلك ما رجعوا إلى رأي غيرهم، ومعاذ اللـه أن يكون رأي المهاجرين أولى من رأي الأنصار، بل النظر والتدبير بينهم سواء، وكلـهم فاضل سابق.
قوله : ( إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني إلى آخره ) حاصله : أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ، ويجوز له تركه ، فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا ، وإلا فقد اقتدى بأبي بكر ، وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف ، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة ، وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة ، كما فعل عمر بالستة ، وأجمعوا على [ ص: 524 ] أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ، ووجوبه بالشرع لا بالعقل ، وأما ما حكي عن الأصم أنه قال : لا يجب ، وعن غيره أنه يجب بالعقل لا بالشرع فباطلان ، أما الأصم فمحجوج بإجماع من قبله ، ولا حجة له في بقاء الصحابة بلا خليفة في مدة التشاور يوم السقيفة ، وأيام الشورى بعد وفاة عمر رضي الله عنه ، لأنهم لم يكونوا تاركين لنصب الخليفة ، بل كانوا ساعين في النظر في أمر من يعقد له ، وأما القائل الآخر ففساد قوله ظاهر ; لأن العقل لا يوجب شيئا ولا يحسنه ولا يقبحه ، وإنما يقع ذلك بحسب العادة لا بذاته .
الكتب » صحيح مسلم » كتاب الإمارة » باب الاستخلاف وتركه
شرح النووي
ومن المفهوم اللغوى لكلمة إمام نستطيع أن ندرك سبب إطلاق هذا الاسم على حاكم المسلمين ، كما وجدنا ترادفاً بين الإمامة والخلافة .
ويفسر هذا أستاذنا الشيخ أبو زهرة رحمه الله فيقول :
" سميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شئون المسلمين ، وتسمى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً ، ولأن طاعته واجبة ، ولأن الناس يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة "(355[4]).
وأعظم خلاف بين الأمة - كما يقول الشهر ستانى - خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان (356[5])
[COLOR="rgb(255, 0, 255)"]وبالطبع ما كان الخلاف ليجد مكانا بين المسلمين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسم الخلاف ، ويصلح النفوس ويهدى إلى صراط مستقيم[/COLOR]
"فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا" (357[6])