مجلة «الكلمة» تحاور الدكتور الفضلي حَوْلَ
«تَحْدِيثِ نِظَامِ الدِّرَاسَةِ الدِّينِيَّةِ»
«انطلاقًا من إيماننا العميق بأهمية قراءة تجارب العلماء ودراسة مسيرة المصلحين، وتكريمًا لأحد أعلام العلم والإصلاح في وطننا والأمة، يأتي هذا العدد الذي خُصِّص بالكامل للتعريف بالعلاّمة الدكتور عبد الهادي الفضلي، وذلك لتعريف قراء المجلة بتجربة فكرية وثقافية إصلاحية معاصرة. وهي تجربة متعدّدة الجوانب والأبعاد، وثرية على الصعد المنهجية والتربوية».
كانت هذه إحدى فقرات كلمة العدد الخاص من مجلّة «الكلمة» عن الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي الصادر عن ربيع العام 2007 م/ 1428 هـ والذي يحمل العدد 55.
أعدَّ وأجرى الحوار: حسين منصور الشيخ 23 / 5 / 2007م
وقد كانت عناوين العدد مرتّبة على الشكل التالي:
العلاّمة الفضلي.. وأفق الإصلاح الثقافي لمدير تحرير المجلّة الأستاذ محمد محفوظ.
الفضلي.. المسيرة والركب للأستاذ فؤاد عبد الهادي الفضلي.
الشيخ الفضلي فقيهًا للسيد محمد الحسيني.
تجربة المنهجة في مبادئ علم الفقه ودروس في فقه الإمام للشيخ الفضلي للشيخ جعفر الشاخوري البحراني.
الموسوعي المجدّد.. نظرات في فقه العلاّمة عبد الهادي الفضلي ـ منظوره الفقهي للمرأة ـ للباحث إدريس هاني.
منهج التأليف الأصولي عند العلاّمة الشيخ عبد الهادي الفضلي للأستاذ علي المحمد علي.
الإمامة من منظور العلاّمة الشيخ عبد الهادي الفلي للشيخ حسن النمر.
تحرير العقل من نفسه قراءة في موقف العلاّمة الفضلي من جدل الأنماط للسيد حسن الخليفة.
قراءة في محاولات التجديد في المناهج الحوزوية بين الشهيد الصدر والدكتور الفضلي للشيخ محمد عمير.
منهجية الدكتور الفضلي في صناعة التقريظ للشيخ عبد الله أحمد اليوسف.
فنّ ومنهج الكتابة عند العلاّمة الفضلي للأستاذ عبد الغني العرفات.
حوار مع العلاّمة الدكتور عبد الهادي الفضلي حول تحديث نظام الدراسة الدينية ـ وهو الحوار الذي سنعرضه أدناه ـ.
فهرست مؤلّفات العلاّمة الدكتور عبد الهادي الفضلي للأستاذ حسين منصور الشيخ.
وسنعرض هنا للحوار الذي أجري مع الشيخ الدكتور الفضلي ونشر في هذا العدد.. كما يلي:
حينما يُذكر العلاّمة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي ـ حفظه الله ـ لابدَّ وأن يذكر التجديد في المناهج ـ الحوزوية منها خاصّة ـ، وحينما يذكر التجديد في المناهج لازم ذلك أن يُذكر العلاّمة الفضلي. هذا التلازم ولّدته فاعلية حضور الشيخ الدكتور في مسألة التجديد الحوزوي منهجًا وأسلوبًا؛ وذلك من خلال ممارسته لعملية التجديد المنهجي في جانبه النظري والتطبيقي.
فالشيخ الفضلي من أبرز الداعين الأوائل إلى تطوير النظام الدراسي الحوزوي أو نظام الدراسة الدينية بشكل عام، يضاف إلى ذلك أنه من أوائل من خاضوا هذه التجربة في النجف الأشرف، وذلك من خلال:
- دراسته ـ وبعد ذلك تدريسه ـ في كلية الفقه في النجف الأشرف، الكلية التي كانت تجربة رائدة في تحديث الدراسة الحوزوية وتحويلها إلى دراسة نظامية أكاديمية.
- تأليفه المقرّرات الدراسية الحوزوية، التي اعتمدت في كثير من المعاهد الدينية وحلقات الدراسة الحوزوية بديلاً للكتب القديمة.
وكان الشيخ الفضلي رائدًا في تأليفه للمقرّرات الدراسية، من حيث تعدّد العلوم التي تناولتها مؤلَّفاته، وكذلك من حيث الأسلوب المنهجي الذي تميّز به، وفاق به من جايله في هذا الدرب.
ومن باب هذه الريادة ولما يتمتّع به سماحة العلاّمة من بعد وشمولية في الرؤية للماضي والحاضر الإسلامي وحضور هذه الرؤية في مؤلَّفاته الدراسية، التي كانت المنطلق الذي ينطلق منه سماحته في وضع وتقسيم هذه المقرَّرات، رأينا أن يكون لنا معه هذا الحوار، الذي قسّمناه إلى قسمين: نظري، نحاوره فيه عن التجديد في المناهج ورؤيته في هذه المسألة. وآخر تطبيقي، نحاول فيه أن نسلّط الضوء على تجربتين علميتين للشيخ الفضلي في تأليف المقرّرات الدراسية، تمثلان التجربتين الأوليين للشيخ، وهما: كتاب «التربية الدينية» و«خلاصة المنطق».
وذلك ليدرك القارئ مدى البعد التجديدي الذي يضيفه العلاّمة الدكتور الفضلي في تأليفه للمقرّر الدراسي من خلال هذين النموذجين.. وهذا هو نص الحوار:
القسم الأول «النظري»..
التساؤلات المنهجية الأولى
• دمجتم بين الدراسة الحوزوية في صغركم والدراسة النظامية، هل كان لديكم بعض الملاحظات على المقرّرات الحوزوية في ذلك الوقت؟ وهل يمكن أن تذكروا لنا بعض هذه الملاحظات؟ - في الدراسة الحوزوية أول ما نبدأ بدراسة المقدّمة الآجرومية في النحو، وفي دراسة المقدمة نبدأ بإعراب البسملة، فنتعلّم ـ ولمّا نتعرّف على مفردات علم النحو بَعْدُ باعتبار هذه المقدّمة أول ما يدرس في النحو ـ أن الباء حرف جرّ، و«اسم»: اسم مجرور وهو مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه، الرحمن: صفة أولى، الرحيم: صفة ثانية وهكذا... وربما كانت هذه أول مفارقة يصطدم بها طالب الحوزة.
هذا بالنسبة للنحو، وعندما ندرس المنطق، حيث كنّا ندرس كتاب حاشية ملاّ عبد الله، كانت كثيرًا ما تمرُّ علينا عبارات مثل: «إشكال حول التعبير» و«إشكال أمكنت» و«إشكال امتنعت» ـ حسب تعبير المناطقة، ونحن لما نعرف بعد ما المقصود بِـ «أمكنت» و«امتنعت»، ومن يدرس هذا المقرّر وهو لا يزال مبتدئًا لا يعرف بهذه الإشكالات ولا كيفية حلّها.
وشيئًا فشيئًا لاحظنا أن المقرّرات الحوزوية ـ وخصوصًا ما هو للمبتدئ منها ـ لا تتمشّى مع مدارك الطالب التي تحتاج إلى تدرّج في إعطاء المعلومة ومواد العلم.
• هل كان لهذه الملاحظات دور في أن تقرّروا ـ مبكرًا ـ التفكير في إيجاد البديل؟
- قبل محاولاتي في إيجاد مقرّرات بديلة كان هناك مَنْ بَدَأَ بمحاولات جادّة في طرح البديل، فالحركة العلمية التجديدية في النجف كانت واعية لمسألة ضرورة تغيير المناهج، وكان هناك من يعمل بهذا الاتجاه، فالشيخ المظفّر وضع مقرّرًا لعلم المنطق وآخر في أصول الفقه، وآخرون كذلك كانت لهم بعض المحاولات.
التجديد موهبة ذاتية بالدرجة الأولى:
• هل يمكن القول بأن دراستكم النظامية ومن ثَم التحاقكم بالتدريس النظامي في الثانويات وكلية الفقه دور في المفاضلة بين القديم والجديد؟ - مسألة التجديد جزء مهم منها يتعلّق بشخصية الإنسان نفسه وما يمتلكه من موهبة، فهناك الكثيرون ممن دمجوا بين الدراستين الحوزوية والنظامية ولم يفكّروا في مسألة التغيير.
وأودّ أن أشير إلى أني من البدايات كنت أتأمل الآية القرآنية: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ؟!﴾ التي يمكن اعتبارها قانونًا وسنّةً إلهية، حيث تفيد هذه الآية أن هناك خطًّا وهدفًا يمشي نحوه الإنسان، ولا يوجد ما هو عبثي في هذه الحياة، بل هناك ما يتوخّاه الإنسان من حياته التي يعيشها، وهذه الغاية ـ بالاستفادة من النصوص الأخرى ـ تكون لمصلحة الإنسان، وهذا أمر جعلني أضع أمامي هذا السؤال في كل كتاب أدرسه وكل موضوع وباب فيه، بحيث أضع نصب عيني الفائدة من دراسته وموقع هذه الفائدة داخل العلم وفي كل باب منه.
وتجد هذه النقطة واضحة جدًّا في كتاب خلاصة المنطق، حيث كنتُ أكتب في نهاية كل موضوع الفائدة من البحث. وهذه النقطة كانت مفقودة في المقرّرات القديمة، وللأسف أن هذا الأمر لا زال قائمًا في كثير من المقرّرات الدراسية التي تظهر مؤخَّرًا، فطالب الحوزة يبدأ دراسته الحوزوية بغرض الدراسة، ولا تجد لديه هدفًا وراء ذلك، غير أن بعضهم يتّخذها كأنها أمر وراثي، إذ يكون ابنًا لأحد طلاّب العلم، فيتبع والده ويرث عنه مسجده ودوره الاجتماعي من تزويج وتطليق ووعظ وإرشاد تقليديين. من غير أن يدرك هؤلاء أن الهدف من الدراسة الحوزوية هو التبليغ، الأمر الذي يقتضي أن يعي كل طالب أهمية هذه النقطة والآليات الصحيحة لتحقيق هذا الهدف.
العوامل البيئية المساعدة في مسألة التجديد:
• يفهم من هذا أن العوامل التي ساعدت في اتجاهكم لتأليف المقرّرات ترجع في جانب كبير منها لشخصيتكم وكذلك لتوجهكم للتدريس في كلية الفقه، هل نستطيع أن نقول بأن تتلمذكم على الشيخ المظفّر كان له دور أيضًا؟ - ربما يكون العامل المساعد في أن أتوجّه أنا وغيري للاهتمام بمسألة التجديد في الحوزة هو الجوّ العام في النجف في ذلك الوقت، حيث كان هناك عوامل كثيرة تحفّز بهذا الاتجاه، فهناك من يعملون ويحاولون تطوير الدراسة أو الوضع الدراسي الديني في النجف حتّى يصبح أكثر فائدة، فكان من هؤلاء: الشيخ عبد الحسين الرشتي (ره). والشيخ عبد الحسين الحلي كذلك. ومنهم أيضًا الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، الذي أنشأ مدرسة نظامية لتدريس المقرّرات الحوزوية، ولكن لم يكتب لها النجاح. وكان منهم كذلك السيد محسن الحكيم.
وكان على خطاهم الشيخ محمد رضا المظفّر، الذي خطا خطوات جادّة في هذا الاتجاه، فأنشأ جمعية منتدى النشر، وفتح مدارس تابعة لها، وأنشأ كلية الفقه.
في هذا الجوّ الذي عاصرتُ فيه أكثر من تجربة للتجديد نشأتُ، كما أني التحقتُ مع بعض زملائي في الحوزة بكلية الفقه التي أنشأها الشيخ المظفّر، حيث درستُ فيها الموادّ الإضافية التي لم نكن ندرسها في الحوزة، فكنتُ مع بقية زملائي أول دفعة نتخرّج في هذه الكلية، ثم مارستُ التدريس فيها ورئاسة قسم اللغة العربية، وفي هذه الظروف أمكنني أن أفاضل بين نمط الدراسة النظامية الجامعية والدراسة الحرّة الحوزوية حيث يجد الإنسان بعض ما هو إيجابي وما هو سلبي في كل من هذين النمطين من الدراسة.
• ما أول ما ألّفه الشيخ من مؤلفات دراسية؟
- التربية الدينية.
• وأين اعتمد كمقرّر دراسي؟
- في متوسطات جمعية منتدى النشر.
• ومتى كان ذلك؟
- في الستينات الميلادية، حيث أذكر أني ألفته بعد سقوط الملكية في العراق، أي بعد انقلاب عام 1958 م.
كلية الفقه البيئة الأولى للتجديد الحوزوي:
• لم يكن الشيخ الفضلي المنتمي الوحيد لكلية الفقه، هل كان للمنتمين لهذه الكلية دور مشابه لدوره في إيجاد المناهج الجديدة؟ - لم يكن هناك من أساتذة الكلية وطلابها مَن اتجه نحو تأليف المقرّرات والمناهج الدراسية باستثناء السيد محمد تقي الحكيم والشيخ المظفر، ثم حاولتُ أن أتبع خطاهما في ذلك، ولا أذكر من مجايليَّ من طلاب الكلية وأساتذتها ـ بعد ذلك ـ من خطى في هذا الاتجاه.
ولكن هناك من استفاد من جوّ التطوير السائد في النجف الأشرف في تلك الفترة ومن التحاقه بكلية الفقه، ولكن ليس في جانب التأليف، وهو الشيخ الوائلي (ره) حيث طوّر منبره، واستفاد من الدراسة الحوزوية والجامعية بحيث شكّل منبرُهُ مدرسة خطابية متميّزة، وهذا واضح عندما تستمع إلى مجالسه ومحاضراته، فترى الجانب الجامعي حاضرًا فيها بقوّة كما تجد الجانب الحوزوي حاضرًا أيضًا.
• هل هناك أساتذة في كلية الفقه بحيث يكونون هم الذين أبدعوا في مسألة تطوير المناهج ثمّ جاء مَن يكمل بعدهم المسير؟
- السيد محمد تقي الحكيم كان أستاذًا في الحوزة قبل أن يكون أستاذًا في الكلية، ولكن عندما أنشأ الشيخ المظفّر كلية الفقه قام (الشيخ المظفّر) بخطوات عملية بإيجاد المناهج البديلة فألّف المنطق وأصول الفقه، ومشى على خطاه وأكمل مشروعه في تأليف كتاب أصول الفقه السيدُ محمد تقي الحكيم فألف الأصول العامّة في الفقه المقارن، ليكمل الحلقة التي بدأها الشيخ المظفّر.
• وهل تضعون نفسكم في هذه الحلقة؟
- إلى حدٍّ مّا حاولتُ أن أنتمي إليها ولكني حاولتُ أن أبدأ مع الطالب من البداية، فألفت خلاصة المنطق ليكون مقدّمة لكتاب المنطق للشيخ المظفّر، ومبادئ أصول الفقه كمقدّمة لأصول فقه المظفّر أيضًا.
مؤلّفات العلاّمة الفضلي ومحاور التجديد
• مما تتميّز به كتابات الشيخ التجديدُ في هيكلة العلم وفي مضمونه.. كيف تحصَّلتم على هذا الوعي التجديدي في ذلك الوقت؟ - هذا يأتي مع الممارسة، فقد ذكرتُ لك أني أتبع في مسألة تدوين كتب المقرَّرات الدراسية طريقة أبدأ فيها في كل علم وفي كل باب بالتساؤل التالي: لماذا أدرس هذا العلم؟ ولماذا وُجِدَ هذا الباب في هذا العلم؟
وفي هذا الجانب أتذكَّر ـ عندما طلبت مني الوالدة ـ رحمها الله ـ أن أدرس المقدّمة الآجرومية عند والدي (قده)، فامتثلتُ لطلبها، بدأنا دراسة المقدّمة الآجرومية، وفي هذه المقدّمة كنّا نبدأ بدراسة علم النحو مباشرة دون وعي منّا أو من قبل المقرَّر الذي كنّا ندرسه للغاية من دراسة هذا المقرَّر أو هذا الكتاب بالذات. وهذا أمر ينطبق على مادّة المنطق أيضًا، التي كان يلقننا أساتذة الحوزة بأن الإنسان يدرس هذه المادّة لأنها تعصم الفكر من الوقوع في الخطأ، وهذا أمر لم يقنعنا، لأنَّنا كنّا ندرسها وغيرنا يدرسها، ونقع في الأخطاء، فهذا جعلني أفكّر في السبب الحقيقي لوضع هذا العلم ودراسته في الحوزة بالذات.
وهكذا عندما بدأتُ ألتحق بالدراسة الحوزوية لم يكن أحد من أساتذة الحوزة يوضح لنا سبب اختيار هذه المادّة في سلك الدراسة الحوزوية، أو سبب وضع باب معيّن في كتاب مقرَّر، وإنما نبدأ مباشرة في دراسة العلم.
فكنتُ أحاول فهم السبب الذي من أجله ندرس كل مادّة كاجتهاد مني.
وربما تكون هذه التساؤلات وهذا التفكير هو الذي دفعني لمحاولة التجديد في المناهج الدراسية، بالإضافة إلى أنني عشتُ في الوقت الذي كانت النجف تعيش موجة من دعوى تجديد المناهج وأسلوب الدراسة الحوزوية.
• ولكن الكتابة المنهجية بهذه الطريقة المتقدّمة لابدَّ وأن تسبقها بدايات جيدة؟
- تتلمذتُ على السيد محمد تقي الحكيم، وقد كان يتمتّع بكتابة منهجية متميّزة، مع أنه لم يدرس بالجامعة ولا حتّى في مدارس نظامية، بل درس كل علومه بالحوزة، ولكنه كان موهوبًا في خصوص ترتيب العلم والمنهج، أي أنه موهوب من ناحية المنهجية، وكان قد قرأ في الكتب الحديثة التي تبحث في كتابة المناهج، وكذلك اطّلع على نماذج من تلك الكتب الحديثة الممنهجة والمكتوبة بالطريقة العلمية الحديثة، واطلاعه هذا صقل موهبته التي كان يتمتّع بها، وقد أجد نفسي متوفِّرًا على شيء من هذه الموهبة التي أشرتُ إليها عند أستاذنا السيد التقي الحكيم.
الشمولية شرط أساس في المقرّر الدراسي:
• في كتبكم المنهجية تحاولون ألا تقصوا رأيًا دون آخر؟ - في الكتب الدراسية ـ بالذات ـ من المفترض بالكاتب لهذه المقرَّرات أن لا يركّز على ذاته. نعم، من المفترض أن تبرز شخصيته العلمية في الكتاب، ولكن ليس عن طريق التركيز على ذاته، بل عن طريق ما يمتلك من علم وموهبة في إبراز الفكرة، فأصحاب أي علم ـ وإن كان المؤلِّف يختلف معهم ـ كلهم ساهموا في إبراز أفكاره وعناصره وتقسيماته، فلا يصحّ من المؤلِّف ـ لأنه لا يرتضي رأيًا معينًا ـ أن يقصي هذا الرأي أو ذاك، فقد يأتي من يرى صوابية ما يرى المؤلف خطأه. فالمفترض بالكتب العلمية التعليمية ألاَّ تبخس حق أحد، لتتيح للطالب حين دراسته أن يدرس كل ما يحيط بالفكرة.
• ما تذكرونه ربما لا ينكره أحد، وقد يتّخذه المؤلف كقرار داخلي، ولكن محيطه قد لا يساعد على ذلك إمّا من ناحية معلوماتية بحيث تقل أو تشحّ فيه المصادر لجميع الأطراف حول القضية التي يعالجها هذا المؤلف، أو بسبب حالة عصبية يعيشها ذلك الجوّ إزاء جهة معينة، فكيف توفقتم للوصول إلى هذه النقطة؟
- مما يؤسف له أن أغلب جامعاتنا العربية تفتقد مقرَّراتُها ومراجعُها الناحية التربوية، فلا تربي الطالب علميًّا، بعكس الجامعات في الغرب، حيث تهتمّ بتنشئة الطالب وترتبيته علميًّا بحيث تهيئ ذهنيته بطريقة علمية. فالطالب الذي ينشأ في الجوّ العلمي يدرك أن الشمولية في المعرفة مطلوبة في مجال العلم والدراسة.
• ولكنكم شيخنا العزيز لم تعيشوا مثل هذا الجوّ أيضًا؟
- ربما أكون قد استفدتُ هذه النقطة من كتابات الآخرين، فحينما تقرأ كتابات الألمان ـ مثلاً ـ في علم اللغة تدرك أن هؤلاء علماء لغة حقيقة، وتدرك أنهم علماء ليسوا لأنفسهم، وليسوا للألمان فقط، بل للعالم أجمع، وهكذا هم البقية.
لذلك حينما تحاول أن تعرض العلم الذي يمثِّل طائفتك أو أمتك عليك أن تعرضه ليس كعلم فرد أو طائفة أو أن يكون موجَّهًا لفرد أو طائفة أو فئة وإنما تعرضه بالمقارنة مع ما قدَّم الآخرون في المجال نفسه. وهذا ما حاولت إبرازه في كثير من المؤلَّفات التي قمتُ بإعدادها، مثل مبادئ علم الفقه ودروس في فقه الإمامية.
• ولكن كمبتدئ في التأليف والبحث العلمي ألا يكون هناك صعوبة في الحصول على جميع الآراء، فهكذا بحث بهذه الشروط التي تضعونها متعب ومضنٍ للباحث والمؤلِّف؟
- قد يصعب على المبتدئ ذلك إذا كان ما يبحث فيه من موضوعات كُتِبَ فيها بكثرة وتعدَّدتْ حولها الآراء لدرجة كبيرة، ولكن إذا كانت المسألة تحتوي على ثلاثة أو أربعة آراء أو أكثر بقليل فهذا بالإمكان إدراكه وتحصيله من خلال البحث.
وهذا موجود في الكتب القانونية حيث تتعدّد الأوجه والآراء والتحليلات القانونية، فالقانون أكثر ما يعتمد فيه على مسألة الحفظ، باعتبار كثرة المواد القانونية وتفريعاتها وفقراتها.
تجارب التحديث الحوزوي ما لها وما عليها:
• ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات للتجديد، مثل محاولات الشيخ جعفر السبحاني والشيخ باقر الأيرواني والمركز العالمي للدّراسات الإسلامية في قم المقدّسة. كيف تقيّمون هذه التجارب؟ وما هي أبرز المؤاخذات التي تجدونها على هكذا تجربة؟ - كنتُ قد كتبتُ عن هذه التجربة، وقد نشر ذلك في حوار مع مجلّة فقه أهل البيت الصادرة عن مركز الغدير للدراسات الإسلامية في العدد (35)، وما ذكرتُه هناك ألخِّصُه هنا فأقول:
التفكير في التجديد ـ بحدّ ذاته ـ أمر جيد، وأن يُقدم الإنسان على تحقيق هذا الأمر ويحاول، فهذه خطوة ثانية إلى الأمام. ولكن الأمر الذي أرى أن ما يفتقده الكثيرون هو الاقتصار على ما لديهم في الحوزة، بينما من المفترض أن ينفتحوا على المؤسسات الأخرى والمؤلّفين الآخرين من الاتجاهات الأخرى ويروا ما لديهم ويحاولوا أن يستفيدوا منهم، لأن الطريقة الحوزوية هي طريقة موروثة لأكثر من 500 عام، بينما نحن نحتاج الآن إلى الطرق والأساليب الحديثة للتعبير، ولذلك فإن أهم ما يؤخذ على هذه التجارب أنها تفتقد الاستفادة من التجارب الحديثة في تطوير المناهج الحوزوية.
• وهل ترون مَنْ بدأ يخطو هذه الخطوة؟
- بشِكْل جيّد لا أرى.
• غالبًا ما تكون محاولات التجديد هذه قائمة على مجموعة من الأفراد، ما العائق أن تنشأ مؤسسات ترعى هذه المشاريع؟
- هذا يتحقَّق فيما لو حاولنا أن نطوّر في الحوزة، أو ننشئ جامعات إسلامية «أي جامعات تتبنّى الخطّ الإسلامي»، أما الحوزة بوضعها الحالي لا تستطيع أن تعطي بالشِّكْل المؤسسي المطلوب، وستبقى هذه الجهود تتركّز على الأفراد.
ولكن في الاتجاه الآخر هناك محاولات لفتح جامعات وكليات في مدينتي النجف الأشرف وقم المقدّسة، ونتمنّى لها أن تتطوّر مع الزمن، لأن ذلك سيفسح المجال لظهور مقرَّرات حديثة تتناسب والجوّ الجامعي الأكاديمي.
• ولكن الفترة التي بدأت معها محاولات التجديد إلى الآن فترة طويلة وإلى الآن لم يظهر ذلك المشروع المتكامل، لماذا؟
- هذا أمر طبيعي، لأن مجتمعاتنا مجتمعات بدائية، والتغيير فيها بطيء وصعب جدًّا، بخلاف المجتمعات المتحضِّرَة حيث التغيير فيها سهل وسريع، لأن الأفراد فيها يفكِّرون، بحيث لو دعا شخص إلى فكرة تجديدية معينة فإن أفراد تلك المجتمعات يفكرون في الأسباب الداعية للتغيير الذي يدعو إليه هذا الشخص، فإذا رأوا فيه الفائدة قبلوه وأيدوه في هذه الدعوة، بينما ر يحتكم الأفراد في مجتمعاتنا إلى عنصر التفكير المتواصل، بل يندفعون خلف أشخاص وقيادات ويتعصّبون لها دون تفكير متروٍّ، فهذا هو السبب.
المختصرات الدراسية:
• في كتابتكم للمقرَّرات الدراسية تميلون كثيرًا لكتابة المختصرات الدراسية، لماذا؟ - في البداية يحتاج الطالب إلى هذه المختصرات، لأن غالبية هذه المقرَّرات التي دوِّنت كمختصرات هي المقرَّرات التأسيسية في كل مادّة، فهي أول ما يدرسه الطالب في هذه العلوم.
ومن المفترض أن تكون هذه البدايات عبارة عن مختصرات دراسية، تكون حلقة في سلسلة المقرّرات التي تراعي مسألة التدرّج في إعطاء الطالب للمعلومة، إلى أن يصل الطالب إلى مرحلة التخصُّص حيث بالإمكان التوسُّع.
مواصفات المقرّر الدراسي مؤلِّفًا ومؤلَّفًا:
• ما هي الشروط التي تشترطونها في مؤلِّف المقرَّر الراسي؟ - بالدرجة الأولى لابدَّ أن يكون موهوبًا في وضع المقرَّر الدراسي وفق المنهج العلمي الحديث الذي يتدرَّج فيه مع الطالب من المعلوم إلى المجهول وفق ترتيب منطقي متسلسل.
وثانيًا: أن يكون لديه اطلاع عملي على المناهج الأخرى حتى يستفيد من الجيّد منها.
وثالثًا: أن ينظر نظرة إلى المستقبل لا إلى الحاضر.. أي أن تكون نظرته أبعد من الحاضر.
• وما هي الشروط المطلوبة في المقرَّر الدراسي؟
- ما كرّرناه مرارًا خلال مناسبات عدّة، وهو أن يحتوي المنهج على عنصرَي:
الجانب العلمي والجانب التربوي. والتربيون يذكرون أن المناهج يجب أن يتوزّع فيها هذان الجانبان «العلمي والتربوي» بما يتلاءم والمرحلة العمرية، وذلك على النحو التالي:
- في مقرَّرات المرحلة الابتدائية يركّز المؤلِّف فيها على العنصر التربوي أكثر بنسبة 75 % لصالح الناحية التربوية، بينما يترك الـ 25 % لصالح الجانب العلمي.
- والمرحلة المتوسّطة يتوزّع هذان الجانبان النسبةَ بينهما، بحيث يكون لكل منهما 50 % من المقرّر.
- وفي الثانوية يكون للجانب العلمي 75 % والجانب التربوي 25 %.
- بينما المقرّرات الجامعية يتركّز المنهج التعليمي فيها بحيث يكون الجانب العلمي فيه 100 %.
• ربما لا يفهم القارئ مقصودكم من مصطلح «الجانب التربوي» في المقرَّر الدراسي، هل بالإمكان أن توضحوا لنا هذه النقطة كعنصر أساس في المنهج؟
- سأضرب لذلك مثالاً، إذا أراد شخص أن يكتب مقرَّرًا في اللغة العربية، فالمطلوب منه في البداية ـ ليتدرّج مع الطالب ـ أن يلقّن الطالب تلقينًا، لأن ذهنيته لا تتحمّل أن تكون ذهنية علمية، لكن مع ذلك يحاول أن يحرّك هذا المقرَّر ذهنيته شيئًا فشيئًا عن طريق التمرينات في طيّات الكتاب، ويُراعي في هذه التمرينات أن تكوّن لدى الطالب الذهنية العلمية التي تحاكم ما يطرح لديه من مادة علمية.
فالمطلوب من كل الدراسات في المرحلة المتوسّطة والثانوية قبل الجامعة ـ وكذلك الأمر في الحوزة في مرحلتي المقدّمات والسطوح قبل البحث الخارج ـ أن تكون الغاية من المقرّر الدراسي فيها: تكوين الذهنية العلمية لدى الطالب.
وما يكوّن الذهنية العلمية لدى الطلاّب ليس العلم والمادّة العلمية فيه، وإنما التربية والممارسة، فالمدرّس يستطيع أن يعلّم الطالب فقهًا وأصولاً وعلم رجال وعلم حديث، ولكن هذه العلوم ـ منفردةً ـ لا تكوّن ـ داخل الحوزة مثلاً ـ المجتهد أو الفقيه دون أن يمارس هذه العلوم أثناء الدراسة من خلال كتابة البحث ـ مثلاً ـ أو من خلال الأسئلة التطبيقية في كل مادّة منها.