من الواضح انّ الذي أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو القرآن الكريم بلفظه ومعناه، ويفترض أن لا يكون هناك ريب أو تردد في ذلك، ويكفي شاهداً على ذلك مجموعة من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾.
ولكن نسب إلى الأحناف رأي غريب، وهو أن القرآن الكريم اسم للمعنى فقط وليس اسماً للنظم والمعنى معاً(2). ويبدو أنّهم اختلفوا على قولين:
أولهما: ان جبريل انّما نزل بالمعاني خاصة، وانّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب.
وثانيهما: انّ جبريل ألقى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) المعنى، وانّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عبّر بهذه الألفاظ بلغة العرب، وانّ أهل السماء يقرؤونه بالعربية، ثم نزل به جبرئيل كذلك بعد ذلك(3).
ولكنّ تفاهة هذا الرأي وما تفرّع عليه تغني عن مناقشته. كيف! وقد قال تعالى - مخاطباً نبيّه - ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾(4). حيث يدل على أن آيات القرآن بألفاظ محدّدة مقروءة.
وقد قيل ان أبا حنيفة رجع عمّا أوجب ذلك "وان القرآن الكريم عند الحنفية عموماً وأبي حنيفة خصوصاً اسم للنظم والمعنى جميعاً كما هو الشأن عند الأُمة كلها"(5).
6 - شبهات حول الوحي
تعرّض الوحي - لكونه من الظواهر غير المألوفة للإنسان - إلى مجموعة من الشبهات والتساؤلات. وفي عصر النهضة المادية فى اوروبا واجه الباحثون الغربيون قضية الوحي بنظرة الريب بل الإنكار، ومن خلاله طعنوا في الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ورسالة الإسلام.
وهذا الموقف منهم لا ينطلق من موقف سلبي خاص تجاه الوحي، بل يرتبط بنظرتهم العامّة لما وراء الطبيعة حيث إنّ اكثرهم حصروا الوجود بعالم المادّة، فمن الطبيعي أن يتنكّروا لما وراءه، وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: المتطرفون الذين يتّهمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالافتراء بهدف تحقيق مكاسب ومصالح دنيوية، مثل السلطة والشهرة.
الصنف الثاني: المعتدلون الذين يرون النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) عبقرياً ذا شخصية نزيهة وطموحة، رام إنقاذ قومه من حالة الانحطاط والتخلّف التي كانوا غارقين فيها، من خلال أفكاره السامية التي كان يحملها، ونتيجة لإدراكه تخلّف قومه وعدم تفاعلهم مع أفكاره الإصلاحية قرّر الإيحاء لهم انّه مرتبط بالله تعالى وانّه مرسل من قبله بهذه الأفكار والمشاريع الإصلاحية حتى يكونوا أكثر استعداداً لتقبّل هذه الأفكار والدّفاع عنها.
والبعض من هؤلاء الغربيين يتعاملون مع كل الأنبياء على أساس هذه الفكرة، ولا يخصّون نبيّ الإسلام بذلك.
والحقيقة انّ هذه الأفكار والشبهات ليست مستحدثة وانّما اقترنت ببداية بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) ودعوته، فقد واجهه قومه بهذه التهم الباطلة ورفضوا ارتباطه بالله تعالى، ولذلك نجد القرآن الكريم يردّ عليهم بتأكيد هذا الارتباط في مواضع عديدة من زوايا مختلفة وبصيغ متنوّعة، فتارةً يتحدّى الإنس والجن من أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وأخرى يؤكد على ارتباط الرسول بالوحي وانّه لا يملك الخيارات، وأخرى يحاججهم بانتظام القرآن وعدم الاختلاف فيه.. وغير ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(6).
ج: استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قبل البعثة وبعدها وتحمّله المشاق والمصاعب في سبيل نشر رسالة الإسلام، حتى أثر عنه قوله: "ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُذيت"(12)، إضافةً للأدلة الدالة على علمه بالمآسي التي تواجه أهل بيته، ممّا يكشف انّه لم يكن يقوم بدور مزيّف، بل هو مكلّف من ربّه بتبليغ الرسالة مهما كلّف الثمن، كسائر الأنبياء والرسل الذين تحمّلوا من قومهم ما تحمّلوا في سبيل أداء رسالتهم.
الصنف الثالث: الكتّاب والباحثون المعترفون بعالم الروح الذين فسّروا الوحي تفسيراً يختلف عمّا تقدم تفسيره، فقد قالوا: الوحي عبارة عن إلهامات روحية تنبعث من داخل الوجود، أي الروح الواعية هي التي تعطينا تلكم الإلهامات الطيبة الفجائية في ظروف حرجة، وهي التي تنفث في روح الأنبياء ما يعتبرونه وحياً من الله، وقد تظهر نفس تلك الروح المتقبّعة وراء جسمهم، متجسّدة خارجاً فيحسبونها من ملائكة الله، هبطت عليهم من السماء، وما هي إلاّ تجلّي شخصيتهم الباطنية، فتعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه من قبل وتهديهم الى خير الطرق لهداية أنفسهم وترقية أمّتهم، وليس بنزول ملك من السماء ليلقي عليهم كلاماً من عند الله(1)..
ويبدو انّ الذي دعا هؤلاء - رغم اعترافهم بعالم ما وراء الطبيعة - الى هذا التفسير للوحي، هو ما وجدوه من مناقضة بعض محتويات الكتب المقدّسة للأديان الاخرى - وبالذات التوراة والإنجيل - لحكم العقل ولمكتشفات العلم الحديث، فبرّروا هذا التناقض بأنّه ناشىء من اختلاط هذه الإيحاءات النفسية على الرسول، بسبب ضعف في شخصيته الروحية، وعدم بلوغه المستوى الرفيع من السمو والشفافية لإدراك كل الواقعيات على ما هي عليه(2).
والجواب على هذا الادعاء:
أولاً: انّه كيف ينسجم السمو الروحي والعبقرية المفروضة للأنبياء - التي يعترفون بها - مع هذا الاختلاط الغريب عليهم بحيث لا يميزون بين الإيحاءات النفسية وتلقّي الوحي الالهي خاصة ما يكون توسط الملك الذي يشاهدونه؟! مع ان الإنسان العادي منزّه عن هذا الاضطراب، خصوصاً مع ملاحظة أن الوحي يلازم الأنبياء والرسل منذ بعثتهم الى وفاتهم، وليس حالة آنية طارئة، فكيف يتصوّر هذا الاختلاط عليهم طيلة هذه الفترة؟!
ثانياً: انّا نلاحظ نمطاً من الآيات لا يعقل استنادها إلى سمو الشخصية الباطنية للأنبياء، مثل آيات العتاب للأنبياء، وكذا بعض آيات الأحكام التعبدية الصرفة التي لا ترتبط بالجانب الروحي، والآيات التي تشير الى جوانب من الحياة الأخروية، خاصةً المرتبطة بجهنّم وعذاب الفاسقين، وغيرها من الآيات التي لا ترتبط مضامينها بالسمو الروحي والشخصية الباطنية للإنسان.
ثالثاً: انّ هذا التفسير للوحي نشأ من ملاحظة اضطراب كتب العهدين ونحوها ومناقضتها للعقل والعلم، وهذا لا ينطبق على القرآن الكريم، البعيد عن هذا التناقض والاضطراب.
رابعاً: ان سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) يختلف تماماً عن سلوك الذين يفقدون التوازن الفكري بسبب اختلاط الايحاءات النفسية وعدم استيعابهم لمفردات العلوم الغريبة التي يهتمون بها، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) معروفاً بشخصيته المتميّزة و مواقفه الصلبة وقراراته الصائبة في الظروف الحرجة التي واجهته خلال مسيرته الرسالية. وتنزّه عن الشطحات والاضطراب السلوكي الذي ينتاب بعض أصحاب الاتجاهات الروحية، كالصوفية وغيرهم.
وقد اشارت بعض النصوص الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) إلى ذلك، ففي الحديث عن زرارة بن أعين أنّه قال لأبي عبدالله (عليه السلام): كيف لم يخَفْ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما يأتيه من قِبَل الله أن يكون مما ينزغ به الشيطان؟ فقال (عليه السلام): "إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قِبَل الله مثل الذي يراه بنفسه"(3).
وفي نص آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث سئل: كيف علمت الرسلُ أنّها رسل؟ قال: "كُشف عنها الغطاء"(4).
وفي الحديث عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): "إنّ الله وجد قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) أفضل القلوب وأوعاها فاختاره لنبوّته"(5).
ملاحظة هامة
يشير هذا النص الأخير إلى دقة الاختيار الالهي لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) في تحمّله لمسؤولية أداء رسالة الإسلام، وينطبق أيضاً على اختيار باقي الرسل الالهيين، فهم (صلوات الله عليهم) رغم الفتن والمآسي والاختبارات الصعبة التي واجهوها ورغم اختلاف العصور والظروف التي عاشوها استقاموا جميعاً ولم يضعف أي واحد منهم عن تحمل المسؤولية الثقيلة الملقاة على عاتقه، فكان ذلك تطبيقاً لقوله تعالى: ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(6).
تضمنت بعض المصادر التاريخيّة انّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم يكن متيقّناً من الوحي في بداية أمره، وكان متردّداً في ذلك، وانّ الذي أقنعه زوجته خديجة بدعم من ورقة بن نوفل، فقد روى البخاري عن عائشة أُم المؤمنين أنّها قالت: أول ما بُدئَ به رسول الله (ص) من الوحي الرؤيا الصالحة فى النوم، فكان لا يرى رُؤيا إلاّ جاءَت مثل فلقِ الصبح. ثمّ حُبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغارِ حراء فيتحنّث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهلهِ ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجعُ الى خديجة فيتزودُ لمثلِها، حتّى جاءهُ الحقّ وهو في غار حراء، فجاءه الملكُ فقال: اقرأ. قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطّني حتّى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. قلتُ: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطّني الثانية حتّى بلغ مني الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطّني الثالثة، ثمّ أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ فرجعَ بها رسولُ الله (ص) يرجُف فؤادهُ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال: زَمّلُوني زمّلوني. فزمّلوه حتى ذهب عنه الروعُ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيتُ على نفسي. فقالت خديجة: كلاّ والله ما يُخزيك الله أبداً، إنّك لتصلُ الرحم، وتحملُ الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقرئ الضيف، وتعينُ على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقةَ بن نوفلِ بن أسد بن عبد العزى - ابن عم خديجة - وكان امرءاً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتبُ من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتبَ، وكان شيخاً كبيراً قد عميَ، فقالت له خديجة: يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيكَ. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله (ص) خبر مارأى. فقال له ورقة: هذا الناموسُ الذى نزَّل الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً، ليتنى أكون حيّاً إذ يخرجُكَ قومك، فقال رسول الله (ص) أوَ مُخرجي همْ؟ قال نعم، لم يأتِ رجل قطّ بمثلِ ما جئت به إلاّ عُودى، وان يدركني يومك أنصرُك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفّى، وفتر الوحي(1).
وفي رواية انّ أبا بكر دخل على خديجة، فقالت: انطلق بمحمّد الى ورقة، فانطلقا فقصّا عليه...(2).
لاحظ المضمون غير المعقول لهذه الرواية، إذ كيف يلتبس الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتّى يشك في نفسه، بحيث تطمئنه خديجة وتزيل روعه، ثمّ لا يطمئن هو بنبوّته إلاّ بالرجوع للنصراني ورقة بن نوفل!
ومما يؤيّد الطعن في هذه القصة، أن المؤرخين لم يذكروا أن ورقة قد آمن كما آمن الإمام علي (عليه السلام) وخديجة رغم ما روي من امتداد عمره الى ما بعد البعثة وأنّه مرّ على بلال وهو يُعذب(3)، قال ابن حجر: وهذا.. يدلّ على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى الإسلام حتّى أسلم بلال(4).
وربّما كانت هذه الرواية من الإسرائيليات التي ترمي الى الحط من مقام الرسول والطعن في رسالته، وتأكيد رجوعه لأهل الكتاب.
بينما أكّدت النصوص المتقدمة الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام) الوضوح والطمأنينة التي يعيشها الأنبياء عند الايحاء إليهم نافية ما تضمنته تلك الرواية المزعومة(5).
عن ابن عباس في رواية عطاء نزلت هذه الآية في وفد ثقيف، أتوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فسألوه شططاً، وقالوا متِّعنا باللاّت سنةً، حرِّم وادينا كما حرّمت مكّة شجرها وطيرها ووحشها، فأبى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولم يجبهم فكرّروا ذلك الالتماس وقالوا: انّا نحبّ أن تعرف العرب فضلنا عليهم، فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب: أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك، فأمسك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه؟ فأنزل الله هذه الآية(2).
وقال الحسن: الكفّار أخذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليلة بمكة قبل الهجرة وقالوا: كفّ يا محمد عن ذمّ آلهتنا وشتمها، فلو كان ذلك حقّاً كان فلان وفلان بهذا الأمر أحقّ منك، فوقع في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يكفّ عن شتم آلهتهم.
وعن سعيد بن جبير انّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يستلم الحجر فتمنعه قريش ويقولون لا ندعك تستلم آلهتنا، فوقع في نفسه أن يفعل ذلك مع كراهية. فنزلت هذه الآية(3).
وهناك روايات أخرى في سبب النزول.
ولو أغمضنا النظر عن هذه الروايات المختلفة التي لم تثبت صحة واحدة منها بخصوصها. فالذي يلوح من الآية الكريمة انّه كان هناك طلب من الكفار من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على خلاف تعاليم الله سبحانه وتعالى، أمّا ما هو موقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالذات؟ وكيف تعامل مع هذا الطلب؟ فهو ما سوف نتحدّث عنه بإيجاز...
وقبل ذلك نقول: إنّ هذه الآية الكريمة - على كل تقدير - لا ترتبط ببحثنا الحالي في الوحي حول مدى وضوح الوحي الإلهي في نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) - خلافاً لمن يتوهم ذلك - لأنّ الآية صريحة في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) محافظ على وعيه تماماً وانّه يميّز الوحي الإلهي غاية ما هناك انّه كاد يميل باختياره الى الكفار ومداراتهم.
إذن الآية الكريمة تؤكد وعي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) واختياره التام، لذلك رتّبت ثبوت العقاب الشديد عليه لو حصل منه الزيغ. وليس فيها أية إشارة الى عدم وضوح الرؤية عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولا الى الهلوسة والاضطراب النفسي وأمثال ذلك مما يوجب الشك في الوحي إليه، بل الآية الكريمة - باعتبار آخر - تؤكد صدق انتساب ما يقوله النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الى الوحي الإلهي، وانّه بمجرّد احتمال خطور (الزيغ) في نفسه نزل تحذيره والتلويح له بشدّة العذاب.
فهذه الآية اجنبية تماماً عن آية سورة النجم واسطورة الغرانيق، التي تضمّنت الهلوسة أو فقد الوعي والاختيار أمام تسلّط الشيطان عليه - على اختلاف صيغ الرواية المزعومة - فلا يصح الاستدلال والاستشهاد بها على ما يرومه أعداء الإسلام.
نعم الآية الكريمة ترتبط بموضوع عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه هل هو معصوم أو لا؟ وهل ما صدر منه وأوجب نزول هذه الآية مناف للعصمة أو لا؟
ونحن نشير هنا الى هذا الموضوع استطراداً فنقول:
أولاً: لاشك أنّ الآية الكريمة نزّهت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن صدور الفرية منه والزيغ، فهي نصّت على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) لم تصدر منه الفرية ولم يجبهم الى ما أرادوه منه.
نعم من خلال الآية قد يطرح تساؤل عن معنى عصمة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) وانّه هل العصمة تقتضي عدم صدور الفعل القبيح من المعصوم بقرار مستقل منه دائماً أو لا مانع من تدخّل التسديد الإلهي المباشر أحياناً، ومن ناحية أخرى ما هي طبيعة هذا التسديد الإلهي، هل هو إرادة إلهية مانعة من وقوع ما أراده النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو ما خطر في باله، أو هو تسديد إلهي فطري للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مانع من التأثر بهذه المؤثرات التي ينهار أمامها غير المعصوم الفاقد للتسديد؟ وقد تصدت البحوث العقائدية للإجابة على هذه التساؤلات وتحديد الموقف الصحيح منها، فنوكل البحث اليها.
وعلى كل تقدير، هذه الآية لا تخدش في مقام الرسول ومكانته عند ربه، التي تسمو به عن الإفتراء عليه كيف! وقد حذر القرآن من ذلك أشدّ التحذير، كما في قوله تعالى ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾(4). فكيف يلتئم هذا التحذير مع فرضية إقدامه على الافتراء؟! وكذلك مع حكمة الله ودقّة اختياره لرُسله من بين عباده ﴿اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(5).
ثانياً: يُفهم من الآية الكريمة نفسها أن استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانت باختياره وقراره الشخصي ولم يكن مجبراً عليها، وإلاّ لم يكن لتحذيره (صلى الله عليه وآله وسلّم) بقوله تعالى: ﴿إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾(6) معنى ومدلول، فما معنى أن يحذّر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلّم) من الافتراء والتقوّل ونحو ذلك ثم لمّا يعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على ذلك يمنعه الله سبحانه من ارتكابه؟!
ثالثاً: انّ نسبة التثبيت لله سبحانه لا تعني فقدان اختياره (صلى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك، شأن كثير من الآيات التي تنسب أفعال الإنسان لله سبحانه مثل قوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾(7) فهو لا يعني انّ الرمي لم يكن فعلاً اختيارياً للرامي، وكذلك الآيات التي تتحدث عن الهدى والضلال مثل قوله تعالى: ﴿فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء﴾(8) فانّها لا تعني قسرهم على الضلال والهدى، لأن الإرادة الالهية في كل ذلك لم تكن هي العلّة التامة، ولا سالبة للاختيار.
ومن خلال ما ذكرناه اتضح أن استقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كانت بقراره واختياره من دون أن يكون مجبوراً على ذلك، ولعلّ هذا التحذير مجرد تذكير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان يرغب في صيغة تخفّف من شدّة عنادهم، لما عرف عنه من الرأفة والرحمة وحرصه الشديد على إيمانهم، كما أشار إليه القرآن الكريم في مواضع متعددة، مثل قوله تعالى: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(9)،﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ﴾(10)،﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾(11).
ولا يعني هذا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قد عزم على التلاعب بالوحي وتغييره. ولعلّ المقصود الحقيقي بالتحذير المذكور غير النبي، لبيان مدى خطورة الافتراء على الله تعالى.
قال الزمخشري: والسبب في نزول هذه الآية انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما أعرض عنه قومه وشاقّوه وخالفه عشيرته ولم يشايعوه على ما جاء به تمنّى لفرط ضجره من إعراضهم ولحرصه وتهالكه على إسلامهم أن لا ينزل عليه ما ينفّرهم، لعلّه يتّخذ ذلك طريقاً الى استمالتهم واستنزالهم عن غيّهم وعنادهم، فاستمرّ به ما تمنّاه حتى نزلت عليه سورة النجم وهو في نادي قومه، وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرؤها فلمّا بلغ قوله (ومناة الثالثة الأخرى)(2) ألقى الشيطان في أمنيّته التي تمنّاها، أي: وسوس إليه بما شيّعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط الى أن قال (تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهن لترتجى)... إلخ(3).
وقد روى هذه القصّة الطبري والبزّار والطبراني وابن مردويه وغيرهم.
ولكن علماء الشيعة ومجموعة أخرى من علماء الجمهور رفضوا ذلك... قال الفخر الرازي في تفسيره بعد أن أشار إلى هذه الروايات: "هذا رواية عامّة المفسّرين الظاهريين، أمّا أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنّة والمعقول... إلخ"(4).
ونحن عندما ندرس هذه الآيات الكريمة دراسةً موضوعية متأنية نجد مدلولها أجنبياً عن آيات سورة النجم وقضية الغرانيق المزعومة، وذلك أن اسطورة الغرانيق رويت بصيغتين مختلفتين في المضمون..
فمدلول الصيغة الأولى: انّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) تعمّد تغيير الوحي والافتراء بهدف التقرب للمشركين واستمالتهم.
وهو - كما تراه - خلاف ظهور الآيات الكريمة، وقد أوضحنا بطلانه.
ومدلول الصيغة الثانية: انّ الشيطان خدعه أو تحدّث على لسانه.
وقد يتوهم انسجام ذلك مع ظهور الآيات الكريمة، ولكن هذا غير صحيح بعد ملاحظة ما يلي:
أولاً: انّا لا نجد الشيطان مسلّطاً على الإنسان العادي من الناس حتى غير المؤمن بحيث يؤثر على حواسّه، فكيف يفترض سيطرته على الأنبياء والرسل، مع انّهم من الناحية التكوينية العضوية كباقي الناس؟
ثانياً: انّ الآية تفرض الحالة دائمية تلاحق الأنبياء والمرسلين وانّها ليست نادرة، لذلك استخدمت صيغة الحصر، وليس من المعقول فرض هذه السيطرة الدائمة للشيطان على الأنبياء والرّسل. مع ملاحظة مسؤولياتهم الخطيرة ورعاية الله وتسديده لهم.
ثالثاً: انّ التمنّي قد يُراد منه أحد معان.
أ: طلب المستحيل أو شبهه.
ب: التلاوة كما ورد فيه قول الشاعر:
تمنّى كتاب الله آخر ليله *** تمنّي داوود الزّبور على رسل
أي تلا كتاب الله مترسلاً فيه كما تلا داوود الزبور مترسّلاً فيه(5).
ج: إرادة الشيء أو تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه(6).
أمّا المعنى الأول فهو غير معقول هنا، لذلك لم يذكره أحد. وأمّا المعنى الثاني فهو لا ينسجم مع الآية الكريمة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى..﴾(7) إذ من المعلوم ندرة الأنبياء والرّسل أصحاب الكتب التي يقرؤونها، بينما الآية تتحدث عنهم كلهم أو نسبة كبيرة منهم على الأقل. ويقوى الإشكال بالنسبة للأنبياء - غير الرسل - بناءً على الرأي القائل: انّ النبي غير الرسول.
فلا يبقى إلاّ المعنى الثالث فيكون معنى الآية - والله العالِم - انّ الأنبياء والرسل حيث يرغبون ويحرصون على هداية الناس فيضع الشيطان العراقيل والمعوقات أمام مساعيهم الاصلاحية، ونتيجة لهذا الصراع بين الخير والشر، يفتتن كثير من الناس، ويزداد المؤمنون إيماناً، كما تحدثت بذلك آيات أخرى ﴿يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾(8).
رابعاً: إنّ هذا كلّه يبتني على فرضية صحة اسطورة الغرانيق إذ لا يحتمل أنّ هناك قضية أخرى أوجبت نزول هذه الآيات، بل الذين يذهبون الى هذا التفسير - المرفوض عندنا - يعتبرونها مشيرة الى قضية الغرانيق، ونحن قد أثبتنا فيما سبق ومن خلال عدة شواهد عدم صحة قضية الغرانيق وعدم انسجامها مع مدلول الآيات المتقدمة. وانّها اسطورة حاكتها أصابع الظالمين(9).
هذا، ونلاحظ انّ مجموعة من علماء الجمهور رفضوا هذه الروايات، قال الرازي في معرض ردّه على هذه الروايات بالسنّة: وأمّا السنّة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة انّه سئل عن هذه القصّة؟ فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنّف فيه كتاباً. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلّم انّ الرواة مطعون فيهم(10).
الأسئلة
1 - اذكر خمسة معان للوحي.
2 - كيف تردّ الاستشهاد بالآية الكريمة ﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً﴾ على صحة اسطورة الغرانيق؟
3 - كيف تردّ الاستشهاد بآية التمني على صحة اسطورة الغرانيق؟
4 - كيف تناقش الرأي القائل ان ادعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) الارتباط بالله بهدف تهيئة ارضية لدى قومه لقبول افكاره الاصلاحية؟
5 - هل ان سعي الإنسان للانخراط في المجتمع لمجرّد توفير مصالحه الذاتية؟
6 - ما هو سبب احتياج الإنسان للوحي الإلهي؟
9- ولا غرابة في ذلك ما دام (خليفة المسلمين) يتطاول على النبي 9 ويزداد غيظاً عندما يسمع اسمه ينادى به في الأذان كلّ يوم خمس مرّات، ويعزم على دفنه والقضاء عليه، كما في المحاورة المعروفة بين المغيرة بن شعبة ومعاوية بن أبي سفيان. والخليفة الآخر - الوليد بن يزيد بن عبد الملك - يتطاول على كتاب الله عزّوجلّ ويجعله غرضاً ليرميه بالنشّاب وهو يقول:
تهدّدني بجبار عنيد *** فها أنذاك جبّار عنيد
إذا ما جئت ربّك يوم حشر *** فقل يارب مزّقني الوليد
الى غير ذلك من الممارسات والمواقف المخزية، ولا نستغرب من (علماء) يلتزمون هذا الرأي مطاوعين لرغبات أولئك (الخلفاء) أو حجبتهم الغشاوة عن رؤية الحقيقة.
دعا القرآن في كثير من الآيات الى التزود بالعلم وأثنى على العلماء وذمّ الجهل والجاهلين، وهذا لاشك فيه لمن يلقي نظرةً - ولو سطحية - على الآيات القرآنية.
لكن يبقى هناك تساؤل عن طبيعة العلم أو العلوم التي دعا إليها القرآن ومدح أصحابها وأثنى عليهم، فهل حث القرآن على كل العلوم، المادية وغيرها أو كان نظر القرآن الى خصوص بعض العلوم دون البعض الآخر؟
فبينما نجد بعض المفسرين والباحثين يحاولون اثبات دعوة القرآن إلى تعلّم كل العلوم النافعة، نرى آخرين يصرّون على أن نظر القرآن الى خصوص العلوم الإنسانية وما يرتبط بسعادة الإنسان في الدار الآخرة، مثل العقائد والفقه والتربية ونحوها...
ولأجل أن يتضح الموقف القرآني من العلوم نقول: انّ ملاحظة الآيات التي تتحدث عن العلم والجهل وما يحكي عنهما من المفردات تشهد انّها تصب في اتّجاه استقامة الانسان وهدايته ووعيه لطبيعة الحياة الدنيا، فهي لا تعدو هذه الأمور و نحوها مما يرتبط ارتباطاً مباشراً بالعلوم والمعارف الدينية والتربوية، دون العلوم المادية ونحوها مما يحتاجها الانسان في حياته اليومية. فمن هذه الآيات قوله تعالى:
وغيرها كثير من الآيات.. حيث نلاحظ ان هذه الآيات القرآنية الكريمة بعيدة عن ارادة العلوم المادية وما يشبهها مما هو ضمن اهتمام الإنسان ومرتبط بجهده واحتياجاته، وأمّا تفسير العلم في هذه الآيات بما يشمل كل العلوم النافعة فهو تفسير متكلّف فيه.
نعم يكمن اهتمام القرآن بمختلف العلوم النافعة من خلال ما يلي:
أ: اهتمام القرآن بعزة الإسلام والمسلمين، فتدخل ضمن هذه الزاوية كل العلوم التي تساهم في تقدم المجتمع واستقراره ورخائه الاقتصادي وكل ما يُنأى بالمسلمين عن الذل والدونية في مقابل الأُمم الاخرى.
ب: دعوة القرآن لإحياء الأرض، او استثمارها - باعتبارها قد جُعلت وابيحت للانسان - والذي قد يفهم منه الكناية عن الحث على استكشاف أسرار وخزائن هذا الكون الذي يتوقف على نموّ العلوم المادية وتطورها. ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾(4).
ج: دعوة القرآن المسلمين للدفاع عن انفسهم وعن دينهم والاستعداد التام لمواجهة خطط الأعداء وكيدهم.. فإنه يستبطن الدعوة للتزود بكل العلوم المساهمة في الوصول الى هذه الحالة بكل جوانبها العسكرية والاقتصادية وغيرهما.. ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾(5).
2 - العلوم التي كان القرآن عاملاً في ظهورها.
هذه العلوم على صنفين.
الصنف الأول: هي العلوم التي تضمنها القرآن الكريم سواء تلك التي كان هو مصدرها الأساس أم التي ساهم القرآن الكريم في تطويرها، مثل مباحث التوحيد والنبوة والمعاد والفقه والتربية الإسلامية والأخلاق ونحوها.
الصنف الثاني: العلوم التي ساهم القرآن في تطوّرها واستمرارها من دون أن يتضمنها، مثل علوم النحو والبلاغة واللغة وفقه اللغة، حيث عكف المسلمون على دراسة اللغة العربية وأسرارها وأحكامها ليحافظوا على القرآن الكريم ويفهموا معانيه، فكان للقرآن الفضل في نشوء هذه العلوم وتطوّرها واهتمام المسلمين بها.
بالإضافة إلى دوره في حفظ اللغة العربية من الذوبان والتهجين.
3 - العلوم الخاصة بالقرآن والباحثة عنه
وهي مجموعة علوم القرآن التي ندرسها تحت عنوان "علوم القرآن" مثل مباحث علم التفسير، ونزول الآيات، والوحي، واعجاز القرآن، وغيرها من العلوم الباحثة عن القرآن الكريم نفسه، وخصائصه.
4 - العلوم الضرورية لفهم القرآن الكريم
يحتاج الدارس للقرآن الكريم - بالإضافة لفهم اللغة العربية والإحاطة بها - الى مجموعة من العلوم التي تساهم في فهم الكتاب العزيز، وهي..
أ) علوم العربية المختلفة، مثل علم اللغة وفقه اللغة، وعلوم النحو والصرف والبلاغة.
ب) العلوم العقلية المختلفة مثل المنطق والعقائد وبعض البحوث الفلسفية وغيرها.
ج) مجموعة علوم القرآن مثل نزول الآيات وتاريخه ليمكنه تفسير آية بأخرى، وتمييز المدني من المكي مثلاً وأسباب النزول وغير ذلك.
د) التزود بالعلوم التي تتحدث عنها بعض الآيات مباشرة مثل الفقه والعقائد وقصص الأنبياء وبعض أحداث التاريخ الإسلامي وغيرها.
هـ) علما الدراية والرجال، لتمييز النصوص التفسيرية الصحيحة عن غيرها، وتقديم المتعارضات ونحو ذلك.
هذا إذا كان هدف المفسّر التفسير المحيط والجامع لكل القرآن، أمّا اذا اقتصر على جوانب معيّنة منه أو آيات أو سور خاصّة منه فقد لا يحتاج الى بعض هذه العلوم المتقدمة. ويختلف ذلك بحسب طبيعة الجانب الذي يتناوله المفسّر ومتطلباته.
ونضيف - إلى جانب التزودّ بالعلوم المتقدمة - شرطين رئيسيين يفترض توفرهما في المفسّر للقرآن الكريم وهما:
الأول: أن يعي المفسّر تعاليم الإسلام من مصادرها الأصلية ولا يبتعد عن الذهنية الاسلامية الأصيلة، اذ لا يمكن التفكيك بين فهم الإسلام وفهم كتابه. ومن هنا نعرف عاملاً رئيسياً في أخطاء المستشرقين وغيرهم البعيدين عن فهم روح الإسلام الأصيل عند دراستهم وتفسيرهم للقرآن الكريم.
الثاني: أن يكون المفسّر مسترشداً بالقرآن الكريم وتابعاً له من دون أن يجعل من نفسه متبوعاً وموجّها للنص القرآني، فيجتنب تفسيره على ضوء قناعته المسبقة وتوجهاته الذاتية البعيدة عن القرآن وباقيَ المصادر الإسلامية التي يفسّر بعضها البعض الآخر، ولذا نلاحظ أخطاء فظيعة وقع فيها أصحاب العقائد والنظريات المنحرفة والباطلة عندما صاروا يحمّلون القرآن أفكارهم الخاطئة محاولةً منهم في تفسير آياته بما ينسجم معها.
أمّا التفسير المتداول المنسوب للقمي ففيه خلط واضطراب. وقد قيل انّه تلفيق من املاءاته على تلميذه أبي الفضل العباس بن محمد بن القاسم، وما رواه التلميذ نفسه بسنده الخاص عن أبي الجارود - زياد بن المنذر السرحوب (ت:150) - وعن مشايخه، بل ربّما يبدو ان صاحب التفسير المطبوع حالياً ليس هو أبا الفضل العباس، لأنّ التفسير يبتدئ بقوله "حدثني أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال حدثنا أبو الحسن علي بن إبراهيم...".
فبالإضافة لعدم وجود ذكر للعباس بن محمد في الأصول الرجالية، لا يعرف الشخص الذي يحدّث عنه.
وبعد هذا التوضيح نعرف انّه لا يمكن الاعتماد على هذا التفسير المطبوع(1). وانّ محتواه لا يعبّر عن رأي الشيعة الإمامية.
وأمّا كتاب "بيان السعادة في مقامات العبادة" فمؤلفه قطب من أقطاب الصوفية، وهو سلطان محمد بن حيدر البيدختي الكنابادي، زعيم فرقة "نعمة اللهي" الملقب - في الطريقة - بسلطان علي شاه، كان من مواليد سنة (1215 هـ. ق) وقد فرغ من تأليفه عام (1311) وطبع الكتاب لأول مرة عام 1314. ونسخ الكتاب مبذولة يجدها الطالب في عامة المكتبات(2).
لكن هذا المستشرق - الباحث الدقيق والأمين! - لأجل أن يعطي قيمة وأهمية لموضوع بحثه حول هذا الكتاب زعم ان تأليف الكتاب تم عام (311هـ = 923م) ليرجعه الى بدايات القرن الرابع الهجري، ولكي تنطلي لعبته هذه حرّف اسم المؤلف الى سلطان محمد بن حجر البجختي، حتى لا يفتضح بمراجعة كتب تراجم الرجال حول اسم المؤلف(3).
مرحباً وعجباً لهذه الأمانة العلمية!!
وليت الأمر اقتصر على هذا المستشرق، بينما نجد كاتباً (مسلماً) هو الشيخ خالد عبدالرحمن العكي - المدرّس بدائرة الافتاء العام بدمشق - يرتكب نفس الأخطاء الفضيعة تقليداً وتبعيةً لهذا المستشرق من دون بصيرة. فإنّه - بعد ان ينتقد الاتجاه الشيعي في التفسير - يذكر انّ اقدم تفسير شيعي هو تفسير جابر الجعفي المتوفى سنة 128، ثم يجيء تفسير "بيان السعادة في مقام العبادة" للسلطان محمد بن حجر البجختي وقد انتهى منه سنة 311، وتفسير القمي في القرن الرابع(4).
ولا يهمّنا الآن التعقيب على باقي كلامه بعد أن عرفنا وزنه العلمي.
ثم نختتم تعليقنا على ما نسبه هؤلاء الجهلة والحاقدون لشيعة أهل البيت(عليهم السلام) فنقول: بأنّهم مع اعترافهم بكون مؤلف الكتاب من الصوفية كيف يعتبرون رأيه معبِّراً عن رأي الشيعة، مع وضوح أن الذوق الصوفي لا يعبّر عن أصحاب المذهب الذي ينتمي إليه صاحبه الصوفي سواء كان سنياً أم شيعياً. وهذا أمر يعرفه الجميع، لا يجدر بمن يرى نفسه كاتباً أو باحثاً أن يفوته ذلك، لكنه التعصب الذي يعمي ويصم!(5).
إذن عرفنا الرأي السائد بين علماء الشيعة في نفي التحريف عن القرآن زيادة ونقيصة على مرّ العصور المتتالية، لكن في عهد قريب التزم بعض المحدّثين بفكرة النقيصة في القرآن معتمدين على ظواهر بعض الأخبار المروية في المصادر الحديثية، والتي لم يعمل على طبقها جلّ علماء الشيعة خلال العصور المختلفة. ونلاحظ في طريقة هؤلاء - شأن غيرهم من أهل الحديث - إلغاءهم دور العقل وابتعادهم عن التحقيق والتنقيح في الأخبار، حتى ذكر بعضهم أنّ "ماتعارض فيه محض العقل والنقل من غير تأييد بالنقل فهذا لا نرجح فيه العقل بل نعمل بالنقل"(6).
وجرى على هذا المنوال المحدث النوري الحسين بن محمد تقي (1254 - 1320هـ) حيث ألّف كتاباً لأِثبات التحريف - بمعنى نقص القرآن الموجود - سمّاه "فصل الخطاب في تحريف الكتاب". وقد واجهه العلماء المعاصرون له ومن بعده بالرفض والنكير، وألفوا كتباً في ردّ ما اعتمده من الأدلة على ذلك ومناقشتها.
يحدث السيد هبة الدين الشهرستاني - حيث كان طالباً في الحوزة العلمية بسامراء في عهد مرجعية الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي - في رسالة بعثها تقريظاً لرسالة "البرهان" التي ألفها الميرزا مهدي البروجردي. في مدينة قم المشرفة (عام: 1373هـ. ق) يقول السيد الشهرستاني في رسالته: كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف، تلك العقيدة الصحيحة التي أنست بها منذ الصغر أيام مكوثي في سامراء - مسقط رأسي - حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير، فكنت اراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النوري بشأن تأليفه كتاب "فصل الخطاب" فلا ندخل مجلساً في الحوزة العلمية إلاّ ونسمع الضجة والعجة ضد الكتاب ومؤلفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد...(7).
وممن كتب في رد المحدث النوري معاصره الفقيه الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني (1313) في رسالة قيمة سماها "كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب" فرغ منها في (17 ج2 عام 1302) تقرب من اربعة آلاف بيت - من الشعر - في 300 صفحة مما ادى الى تراجع الشيخ النوري عن رأيه بعض الشيء، فقام بتأليف رسالة اخرى فارسية - فرغ منها في محرم 1303 - بصدد اجابة الشيخ الطهراني، وتوجيه ما يقصد من التحريف، وكان يقول: لا ارضى عن الذي يطالع (فصل الخطاب) أن يترك النظر في الرسالة الجوابية على (كشف الارتياب). وكان يوصي كل من كانت عنده نسخة من (فصل الخطاب) أن يضمّ إليه تلك الرسالة، فإنها بمنزلة المتمم لذلك الكتاب والكاشف عن مقصود مؤلفه(8).
يقول الشيخ آغا بزرك الطهراني: سمعت شيخي النوري يقول: اني حاولت في هذا الكتاب اثبات ان الموجود بين الدفتين كذلك، باق على ما كان عليه في أول جمعه كذلك في عصر عثمان، ولم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع في سائر الكتب، فكان حريّاً بأن يسمى (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب) فتسميته بهذا الاسم - اي فصل الخطاب في تحريف الكتاب - الذي يحمله الناس على خلاف مرادي، خطأ في التسمية ولكني لم أرد ما يحملونه عليه، بل مرادي اسقاط بعض الوحي المنزل الإلهي وإن شئت فسمّه "القول الفاصل في اسقاط بعض الوحي النازل"(9).
على كل حال عمّت حالة الرفض - لرأي النوري - المراكز الشيعية في تلك الفترة وما بعدها الى يومنا هذا، كما اشرنا الى ذلك عند ذكر العلماء الأعلام الذين رفضوا فكرة التحريف بطبقاتهم المختلفة. فمن الظلم الفاحش نسبة التحريف لشيعة أهل البيت(عليهم السلام) مع هذا الموقف العام الرافض، بينما نجد أن كلمات وآراء غيرهم أقرب الى ادعاء التحريف، كما اوضحناه.
محاولات يائسة لتحريف القرآن
لقد استهدف أعداء الإسلام القرآن الكريم باساليب مختلفة، وبعد أن فشلت محاولاتهم في الطعن فيه والتقليل من شأنه لتشكيك المسلمين بكتابهم وابعادهم عنه، عمدوا الى التدخل المباشر في التلاعب بآيات القرآن الكريم وتحريفه، ففي أيلول عام 1960م أفادت انباء القاهرة ان (اسرائيل) قد قامت بطبع مائة ألف نسخة من القرآن الكريم، وقد ادخلت عليها التحريف، وذلك بإحداث اكثر من ألف خطأ مطبعي ولفظي متعمّد في طبعة محرّفة للقرآن، وقد تم توزيع هذه النسخ المحرّفة في جملة من البلدان الآسيوية والافريقية، كالمغرب وغانا وغينيا ومالي ودول أخرى، وقد اكتشفت سفارة الجمهورية العربية المتحدة في المغرب هذه المحاولة الأثيمة فأشعرت بذلك السلطات في القاهرة، وبعثت إليها ببعض النسخ المحرّفة.
ومن جملة ما تضمنته هذه النسخ من فقرات التحريف:
ألف: حذف الآيتين التاليتين من القرآن الكريم - حيث منع تدريسهما في مدارس العرب والمسلمين في الأرض المحتلة - ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(10).
ب: حذف كلمة "غير" لينقلب المعنى عكسياً من قوله تعالى ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾(11).
وما زلنا بين حين وآخر نسمع عن طباعة جديدة محرّفة لكتاب الله الكريم وأساليب دنيئة اُخرى يروم من خلالها الأعداء إطفاء نور الله وتشويه معالم تنزيله ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(15).
الأسئلة
1 - ما هي العلوم التي يحتاجها الدارس المتخصّص لفهم القرآن الكريم؟
2 - اذكر ثلاثة آراء في توجيه معنى النزول الدفعي للقرآن.
3 - اذكر المعاني الأربعة للتحريف.
4 - اذكر شاهدين على ان المقصود من التحريف الوارد في بعض النصوص التحريف في المعنى.
5 - اذكر ثلاثة شواهد على ردّ ادعاء وجود اسماء بعض الأئمة ضمن النص القرآني.
6 - كيف تعالج ظاهر بعض النصوص التي يبدو منها وقوع التحريف في سورة الفاتحة والجمعة؟
7 - ما هو موقف الرأي العام الشيعي من التحريف؟
1- يراجع كليات في علم الرجال: 309 - 320 وصيانة القرآن من التحريف: 230 - 229.
3- من غير المعقول ان نفترض انها اخطاء تجمّعت صدفة من دون قصد، إذ كيف يسمح باحث لنفسه أن يجعل محور دراسته كتاباً لمؤلف ما من دون مراجعة كتب التراجم حولهما، ثم كيف يقع في هذين الالتباسين الواضحين، وكيف لا يميز باحث بين كتاب مؤلَّف في القرن الرابع عشر وطبيعة مؤلَّفات القرن الرابع؟!.
4- أصول التفسير وقواعده: 249 - 250 (ط بيروت) ويراجع أيضاً صيانة القرآن من التحريف: 93 - 100.
5-والمؤسف ان ذيول هذه الفكرة السخيفة ما تزال تلقي بظلالها على بعض الشخصيات في هذا العصر الذي انفتحت فيه الشعوب والثقافات على بعضها، حتى ان علال الفاسي - من الشخصيات المعاصرة في المغرب العربي - عندما زار إيران كان يهرع عند تجواله في مدينة (قم) الى ملاحظة نسخ القرآن الموجودة التي يراها، وعندما زار سماحة السيد محمد حسين الطباطبائي أخذ يلاحظ نسخ القرآن الموجودة في مكتبته، فقال له السيد: ايّها الاستاذ كأنّك تبحث عن (قرآن الشيعة)، لأنّي لاحظتك تفحص نسخ القرآن الموجودة أينما حللت. فقال الفاسي: أحسنت، بلى لعن الله الاستعمار الفرنسي والمستشرقين الغربيين حيث أشاعوا في شمال أفريقيا ان قرآن الشيعة يختلف عن قرآن أهل السنّة، وانا عندما حللت في ايران لاحظت عشرات النسخ من القرآن في طهران ومشهد وقم في المكتبات ومحلات بيع الكتب ودققت فيها فلم أجد أدنى تفاوت بينها مع باقي نسخ القرآن، والآن عرفت مدى فاعلية خطة هؤلاء - الغربيين - في التفريق بين المسلمين. (يراجع طبقات مفسرين شيعه 1/87 - 88).
ويجدر بنا أن نتساءل هل ان هذه الخطة الاستعمارية جاءت من فراغ؟ أو ليس تعصب بعض المسلمين وافتراءاتهم خلقت الأرضية المناسبة لهم؟!
وهل يليق (بالعلماء والمثقفين) - وهم على اعتاب القرن الحادي والعشرين - أن تنطلي عليهم هذه الخطة وما تحمله من فكرة سخيفة، وهم يشاهدون عشرات الملايين من شيعة أل البيت(عليهم السلام) منتشرين في البلاد التي يحكمها غير الشيعة، فكيف لم يستطع هؤلاء الحكام - بما يمتلكونه من إمكانيات - الكشف عن هذا القرآن المزعوم، خاصة ان شيعة أهل البيت(عليهم السلام) يقفون في مناطق عديدة من العالم في مواجهة قوى الكفر العالمي بقدراتها الهائلة وبمسعاها الحثيث في تمزيق شمل المسلمين وتشتيتهم؟!!
والغريب انّه بينما يتهم شيعة أهل البيت(عليهم السلام) بهذه الفرية الباطلة نجد بعض بلاد المغرب العربي تلتزم مصحفاً على قراءة (ورش) يختلف جزئياً عن المصحف المنتشر بين المسلمين بقراءة عاصم، والذي منع تداوله في كثير من البلدان الإسلامية، ومع ذلك لا يُتّهمون بالتحريف واختلاق مصحف آخر، وما أدري كم كان حجم التُهم على اتباع أهل البيت(عليهم السلام) لو كان حكام دول المغرب العربي منتسبين إليهم؟!
قال الفيروزآبادي: الفسر الابانة وكشف المغطى كالتفسير(1).
وقال ابن منظور: "الفسر كشف المغطى، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل"(2).
وأمّا علم تفسير القرآن فقد عرّفه أبو حيان بأنه: "علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها واحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك"(3).
وقد اهتمّ الباحثون في علوم القرآن، وكذلك المفسّرون في التفريق بين التفسير والتأويل. ويفترض الرجوع الى اللغة أولاً لمعرفة المعنى اللغوي للتأويل والمعنى الاصطلاحي لهم فيه، ثم بحث الفرق بينهما...
فالتأويل في اللغة مأخوذ من الأوْل وهو الرجوع، قال في القاموس: آل إليه أوْلاً ومآلاً رجع... ثم قال: وأوّل الكلام تأويلاً وتأوّله تدبّره وقدّره وفسّره(4).
فجعلُ التأويلِ بمعنى التفسير كأنه باعتبار أن المؤوِّل - اي المفسِّر - يُرجع اللفظ الى معناه.
امّا في الاصطلاح فقد قيل ان ما هو المقصود عند السلف غير ما هو المقصود عند المتأخرين، قال محمد حسين الذهبي: التأويل عند السلف له معنيان:
احدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أم خالفه فيكون التأويل والتفسير - على هذا - مترادفين، وهذا ما عناه مجاهد من قوله: ان العلماء يعلمون تأويله، يعني القرآن، وما يعنيه ابن جرير الطبري بقوله في تفسيره: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، وبقوله: اختلف أهل التأويل في هذه الآية" ونحو ذلك، فإن مراده التفسير.
ثانيهما: هو نفس المراد بالكلام فإن كان الكلام طلباً كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبراً كان تأويله نفس الشيء المخبر به.. فإذا قيل طلعت الشمس فتأويل هذا هو نفس طلوعها.
المعنى الثالث: التأويل عند المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدّثة والمتصوفة... هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح - أي الظاهر - الى المعنى المرجوح لدليل يقترن به(5).
والصحيح ان التأويل لا يشترط فيه وجود الدليل او القرينة على المعنى المرجوح دائماً، ولذلك يطلق التأويل على التفسير بالباطن مع أنّه خال عن الدليل غالباً، اذن التأويل بهذا المعنى يطلق على حمل اللفظ على غير المعنى الظاهر فيه ولو من دون دلالة على ذلك، نعم ربما تكون هناك ادلة او قرائن خفية يعرفها العارف بالتأويل، يكون هذا هو المعنى الثالث للتأويل.
المعنى الرابع: حكمة ومغزى بعض الأفعال مما يخفى على الناس عامة، كما في قضية الخضر (عليه السلام) مع النبي موسى (عليه السلام) ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا﴾(6).
وأمّا التفسير فقد شاع استعماله في كلمات العلماء والمفسرين في معنيين..
1 - مطلق حمل اللفظ على المعنى، سواء كان ظاهراً فيه أم لم يكن، وسواء كانت هناك قرينة عليه أم لا. وبهذا المعنى يسمون حمل اللفظ على المعنى الباطن تفسيراً. فيقولون عنه: انه تفسير بالباطن.
2 - خصوص حمل اللفظ على المعنى الظاهر منه، - الذي قد يخفى على البعض - وان كان سبب هذا الظهور التأمل والتمعّن في نفس الكلام أو القرينة المحيطة بالكلام. فيكون التفسير - بهذا المعنى - في مقابل (التأويل) الذي هو حمل اللفظ على غير المعنى الظاهر، وهو اخصّ من التفسير بالمعنى الأول.
الدرس السادس والثلاثون (الاتجاهات العامة في التفسير)
اختلفت اتجاهات المفسّرين في تفاسيرهم من عدة اعتبارات، منها..
1 - طبيعة المصدر الذي يعتمدونه في التفسير..
2 - المنهج الذي ينتهجونه في التفسير.
وسوف نتحدث عن كل واحد من هذين الاعتبارين واختلاف التفاسير بحسبها ضمن فصول..
(الفصل الأول)
اختلاف التفاسير بحسب المصدر المعتمد في التفسير
تختلف التفاسير بحسب طبيعة المصدر العام الذي تعتمده في تفسير آيات القرآن الكريم، ويمكن ان نلاحظ فيها هذه الأقسام:
1 - التفسير بالمأثور.
2 - التفسير بالرأي.
3 - التفسير الإشاري.
4 - تفسير القرآن بالقرآن.
1 - التفسير بالمأثور
التفسير بالمأثور يراد منه تفسير القرآن اعتماداً على ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)(1) أو الائمة (عليهم السلام) - عند شيعة أهل البيت(عليهم السلام) - أو الصحابة - لدى الجمهور -، ويعممه بعض مفسّريهم منهم الى المروي عن التابعين.
أ: التفسير بالمأثور لدى الجمهور
وتلاحظ فيه نقاط الضعف التالية:
1 - اعتمادهم على التفسير المروي عن الصحابة والتابعين مع وضوح أن قول الصحابة فضلاً عن التابعين يفقد الحجية والاعتبار، فهم كسائر المسلمين يحتمل قولهم وفهمهم للخطأ، ولذلك اختلفت مواقفهم و آراؤهم، بما في ذلك تفسير القرآن فكيف يمكننا الاعتماد على آرائهم وتفاسيرهم؟
وقد تنبّه لذلك الدكتور صبحي الصالح حيث قال: بيد أن اطلاق بعضهم أن تفسير الصحابة له حكم المرفوع اطلاق غير جيّد، لأن الصحابة اجتهدوا في تفسير القرآن، واختلفوا في بعض المسائل والفروع، كما رأينا بعضهم يروي الإسرائيليات عن أهل الكتاب(2).
ويقوى الاشكال بالنسبة إلى التابعين فإنهم كثيراً مّا كانوا يعتمدون على اجتهادهم وفهمهم من دون الرجوع الى الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم). قال محمد حسين الذهبي: وقد روت لنا كتب التفسير كثيراً من اقوال هؤلاء التابعين في التفسير قالوها بطريق الرأي والاجتهاد، ولم يصل الى علمهم شيء فيها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أو عن أحد من الصحابة(3).
وحكي عن أبي حنيفة قوله: ما جاء عن الرسول (ص) فعلى العين والرأس، وما جاء عن الصحابي تخيّرنا منه، وأما ما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال"(4) وعُرف عنه انه يعتبر الحديث المروي عن التابعين - الذي يسمى الحديث المقطوع - ضعيفاً لا يحتجّ به(5).
2 - كثرة الوضع في التفسير بالمأثور
يلاحظ ان التفسير بالمأثور تعرّض لمحنة الوضع والكذب من قبل الرواة على نطاق واسع، سواء في ذلك ما يروى كذباً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولذا نرى كثرة الأساطير والخرافات. وقد اعترف بهذا محمد حسين الذهبي وأحمد امين حيث قال: "ان القصاص والوضّاع زادوا في هذا النوع من التفسير كثيراً، ونسبوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما لم يقله، وليس أدل على هذا مما أخرجه الحاكم عن أنس انه قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن قوله تعالى: ﴿وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ﴾(6) قال القنطار ألف اوقية. وما أخرجه أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): القنطار اثنا عشر ألف اوقية"(7).
ولذا نجد احمد بن حنبل - رغم ما عرف عنه من كثرة الروايات - يقول: "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي"، قال أحمد أمين "وظاهر هذه الجملة ان الأحاديث التي وردت في التفسير لا أصل لها وليست بصحيحة، والظاهر - كما قال بعضهم - انه يريد الأحاديث المرفوعة الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير"(8).
رغم ان البعض حاول أن يحمل كلامه على ان الغالب ليس لها اسانيد صحاح متصلة(9).
ولم يختص الكذب والوضع على الأحاديث المنسوبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بل نجده على نطاق واسع بالنسبة لأحاديث التفسير المنسوبة للصحابة، فهذا ابن عباس رغم العدد الهائل المروي عنه في التفسير فإنّ ابن الحكم يقول سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلاّ شبيه بمائة حديث(10).
ومما وضع على لسان ابن عباس روايات فضائل سور القرآن. فقد حكي عن المختصر للاصول: أنه قيل لأبي عصمة نوح بن ابي مريم من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن اسحاق فوضعتُ هذه الأحاديث حُسبةً".
ونظير ذلك ما روي عن اُبيّ بن كعب في فضائل سور القرآن "قال الصاغاني: وضعه رجل من عبادان"(11).
1- جمع السيوطي كل الأحاديث المسندة - من طرق أهل السنة - الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) في التفسير، راجع الاتقان 4/245 - 298 وسوف تلاحظ قلتها.
2- علوم الحديث ومصطلحه: 209، قد نسب ذلك الى الدكتور أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث: 50.
وهي الآراء التي تسربت من اليهود والنصارى فاعتمدها بعض المسلمين في تفسير القرآن الكريم، وانّما سمّيت بالاسرائيليات تغليباً لجانب التأثير اليهودي على جانب التأثير النصراني "فان الجانب اليهودي هو الذي اشتهر امره فكثر النقل عنه، وذلك لكثرة اهله وظهور امرهم وشدة اختلاطهم بالمسلمين من مبدأ ظهور الإسلام الى أن بسط رواقه على كثير من بلاد العالم"(1).
مبدأ ظهور الإسرائيليات
الملاحظ أن دخول الاسرائيليات في التفسير بدأ منذ عهد الصحابة كما اعترف به عدد من المفسرين الباحثين.
قال محمد حسين الذهبي: وسبق لنا القول بأن الرجوع الى أهل الكتاب كان مصدراً من مصادر التفسير عند الصحابة، فكان الصحابي اذا مرّ على قصة من قصص القرآن يجد من نفسه ميلاً الى أن يسأل عن بعض ما طواه القرآن ولم يتعرض له، فلا يجد من يجيبه على سؤاله سوى هؤلاء النفر الذين دخلوا الى الإسلام وحملوا الى أهله ما معهم من ثقافة دينية فألقوا إليهم من الأخبار والقصص الدينية(2).
وقد أخذ هذا من ابن خلدون حيث اشار إليه في مقدمته(3).
وقد ادعى محمد حسين الذهبي انّهم لم يقبلوا كل شيء منهم، بل حتى ما اخذوه منهم لم يعتمدوا عليه، اعتماداً على ما رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم): لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا (آمنا بالله وما انزل إلينا وما اُنزل إليكم) الآية(4).
لكنه لم يدعم رأيه هذا بشواهد، بل الشواهد على خلافه حيث شحنت كتب التفاسير بكثير من الروايات التفسيرية المنسوبة للصحابة المليئة بالأفكار الإسرائيلية، ولو كان الصحابة قد تحرّجوا من أخذ هذه الأفكار الاسرائيلية لظهر اثر هذا التوقف على مَن بعدهم فلم يعتمدوا على قبول الاسرائيليات على هذا النطاق الواسع، على انّ مكانة كعب الأحبار وعبدالله بن سلام في روايات التفسير ظاهرة لكل من راجعها.
وقد بلغ تغلغل الأفكار الاسرائيلية في روايات الحديث حتى دُعم ذلك بأحاديث نسبوها للرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، مثل ما رواه البخاري عنه (صلى الله عليه وآله وسلّم) "بلّغوا عني ولو آية، وحدّثوا عن بني اسرائيل ولا حرج، من كذب عليّ فيلتبوّأ مقعده من النار"(5).
ويبدو من بعض النصوص المروية في مصادر الجمهور أن قضية الأخذ من اهل الكتاب بدرت من بعض الصحابة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مما ادى الى غضب الرسول، فقد اخرج احمد وابن ابي شيبة والبزار من حديث جابر بن عبدالله: "ان عمر بن الخطاب اتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب اصابه من بعض اهل الكتاب فقرأه عليه، فغضب، فقال: "أمتهوّكون - اي أمتحيّرون - فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلاّ أن يتبعني"(6).
ونلاحظ مدى تذمّر النبي وغضبه من مراجعة أهل الكتاب وسؤالهم، كما انّ النص يوحي ان عمر و ربما غيره من الصحابة أيضاً محتارون في الموقف بين ما يسمعونه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وما يسمعونه من أهل الكتاب المناقض لذلك.
ومن ذلك ما روي أنه أُتي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بكتاب في كنف فقال: "كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عمّا جاءهم به نبيّهم الى نبي غير نبيّهم أو كتاب غير كتابهم". فأنزل الله عزوجل ﴿أولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ...﴾(7)(8).
وقد رووا ان عبدالله بن عمرو بن العاص اصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب اليهود فكان يحدّث منهما(9).
وهذا يكشف عن حالة سائدة ومقبولة بين الصحابة بحيث لم يتحرج عبدالله بن عمرو بن العاص من رواية هذا العدد الكبير من هذه الكتب اليهودية.
وعندما نراجع التابعين في تفاسيرهم نجد أن الطامة اكبر وأن الخرق يتسع كثيراً.
قال محمد حسين الذهبي: امّا التابعون فقد توسعوا في الأخذ عن اهل الكتاب فكثرت على عهدهم الروايات الاسرائيلية في التفسير... فحشوا التفسير بكثير من القصص المتناقض، ومن هؤلاء مقاتل بن سليمان المتوفي سنة (150هـ) الذي نسبه ابو حاتم الى انه استقى علومه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعلها موافقة لما في كتبهم، بل ونجد بعض المفسرين في هذا العصر - عصر التابعين - يصل بهم الأمر الى أن يصلوا بين القرآن وما يتعلق بالاسلام في مستقبله، فيشرحوا القرآن بما يشبه التكهن عن المستقبل والتنبؤ بما يطويه الغيب، فهذا مقاتل بن سليمان...(10).
وقد قدّمنا رأي ابن خلدون حول انتشار الاسرائيليات، وانه قد عدّ كعب الاحبار ووهب بن منبه وعبدالله بن سلام وامثالهم من التابعين أوائل من سرّب الاسرائيليات الى تفسير القرآن.
ويبدو ان قوله "امثالهم" يشمل مثل عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح التابعي.
وقد طعن بعض الباحثين مثل احمد امين(11) ورشيد رضا في كعب الاحبار ووهب بن منبّه، قال رشيد رضا: - بعد أن اشار إلى طعن ابن تيمية فيهما - فكيف لو تبيّن له - ابن تيمية - ما تبيّن لنا من كذب كعب ووهب وعزوهما الى التوراة وغيرها من كتب الرسل ما ليس فيها شيء منه ولا حوّمت حوله(12).