نقول وبالله وحده نستعين
إن معنى علم الغيب هو علم ما غاب عنك ولهذا يستقيم المعنى فيه بكون إن علم الغيب غيبٌ أصلاً في لفظه وأصطلاحه ...
وعلم الغيب يا طيب أمرٌ أختص به الله تعالى وحده بشكل مطلق تماماً ...
إلا أن هناك في عالم الشهود قسمان لعلم الغيب وهما:
(1) علم غيب اختص الله تعالى به
(2) علمٌ أطلعه الله تعالى رسله وأولياءه لحكمة هو أقتضاها .
ومن شواهد القسم الأول ...
قوله تعالى : «قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله»
وقوله تعالى «فقل إنما الغيب لله»
وقوله تعالى «عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو» .
ومن شواهد القسم الثاني ...
قوله تعالى : «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك»
وقوله تعالى «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول»
وغير ذلك من الشواهد التي تؤكد علم الغيب ، الذي أطلع الله رسوله ومن ارتضى من الأولياء عليه ، واتفق المسلمون قاطبة ، شيعة وسنة ، على أن القسم الأول اختص الله تعالى به ، ولم يطلع عليه أحد ، بينما اتفقوا على اطلاع الأنبياء والأولياء على القسم الثاني .
يقول الرازي في تفسيره ج 30 ، ص 149 :
(فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب).
يقول ابن حجر الهيثمي في هذا الباب :
(لا منافاة بين قوله تعالى : «قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله» وقوله : «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً» وبين علم الأنبياء والأولياء بجزئيات من الغيب ، فإن علمهم إنما هو بإعلام من الله تعالى وهذا غير علمه الذي تفرد به تعالى شأنه من صفاته القديمة الأزلية الدائمة الأبدية المنزهة عن التغيير)
( مقتل الحسين للمقرم : ص 53 ) .
وقال النيسابوري صاحب التفسير :
(إن امتناع الكرامة من الأولياء إما لأن الله ليس (معاذ الله) أهلاً لأن يعطي المؤمن ما يريده ، وإما لأن المؤمن ليس أهلاً لذلك ، وكل منهما بعيد ، فإن توفيق المؤمن لمعرفته لمن أشرف المواهب منه تعالى لعبده)
(مجلة تراثنا ، العدد : 37 ، ص 26 ) .
وقال ابن أبي الحديد :
(إنا لا ننكر أن يكون في نوع من البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب ، وكله مستند إلى الباري جل شأنه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه)
(شرح نهج البلاغة : ج 5 ، باب 58 ، ص 12 ) .
فالفكر الإسلامي لا ينكر مسألة إطلاع أولياء الله ورسله على بعض الغيوب التي علمها الله لهم ، وما أثبته الأئمة لأنفسهم من العلم هو القسم الثاني الذي أذعن المسلمون بإمكانه لأولياء الله ، وهذا ما قالت به الشيعة وتعتقد به ولم تشذ عن غيرها من الفرق فيه.
يقول الإمام علي عليه السلام :
«سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين ، أما والله لو ثني لي الوساد لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم»
( الإرشاد : ج 1 ، ص 35) .
ويقول أبو عبد الله الصادق عليه السلام:
«إني لأعلم ما في السموات وما في الأرض ، وأعلم ما في الجنة وما في النار ، وأعلم ما كان وما يكون ، قال الراوي : ثم سكت هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال : علمت ذلك من كتاب الله عزوجل ، يقول «فيه تبياناً لكل شيء»»
(الكافي : ج 1 ، ص 319 ـ 320 ، باب 48) .
وغير ذلك من الروايات التي حفلت بها كتب الشيعة ، والتي لا تحتاج إلى إثبات السند فيها ، لأنها من الموضوعات الخارجية وليست من الأحكام ، يقول السيد الجلالي : (إن اعتبار السند وحاجته إلى النقد الرجالي بتوثيق الرواة أو جرحهم إنما هو لازم في مقام إثبات الحكم الشرعي للتعبد به ، لأن طريق اعتبار الحديث توصلاً إلى التعبد به متوقف على اعتباره سندياً بينما القضايا الاعتقادية ، والموضوعات الخارجية لا يمكن التعبد بها لأنها ليست من الأحكام الشرعية)....
وهذه الروايات التي أثبتت علم الأئمة بالغيب ولم نجد أحداً في التاريخ استنكر عليهم ذلك ، لهي خير شاهد على علمهم بالغيب الذي أطلع الله أولياءه عليه وأنكره الكاتب ، راجع (مجلة تراثنا : عدد 37 ، ص 37 ) .
وأخــــــيرا أقــــــول ...
لا يمتنع كون الأنبياء عباداً لله تعالى يطلعوا على غيب الماضي والحاضر والمستقبل بإذن الله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) الجن/26-27.
وإننا نعلم أن من معجزات السيد المسيح عليه السلام أن كان ينبئ الناس ببعض الأمور الخفية: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران/49.
كما كان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله يكشف عن الكثير من الأخبار الغيبية بالوحي الإلهي: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك) يوسف/102.
وعليه، ليس ثمة مانع يمنع الأنبياء من الإخبار بالغيب عن طريق الوحي وبإذن الله؛ أما نفي بعض الآيات القرآنية الغيب عن رسول الله من قبيل الآية: (ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) الأنعام/50، فالمراد بذلك العلم الذاتي الاستقلالي وليس العلم المكتسب من الوحي الإلهي، لأن الآيات القرآنية تفسر بعضها بعضاً.
إننا نعتقد أن المعاجز التي تصدر عن الأنبياء كلها كانت بإذن الله تعالى، والاعتقاد بهذا الأمر ليس شركاً ولا يتناقض مع مقام العبودية لدى الأنبياء، فالسيد المسيح عليه السلام كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله: (وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله) آل عمران/49.
والله أعلم
__________ أنتهى __________
والســــــــــلام
( حيـــــــــــــدرة )