2 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب الإيمانيّ:
هذه الصفحة من حياة الإمام عليّ عليه السّلام قد منح فيها زخماً معنوياً ورسم فيها صورة عالية للأجيال، وسجل فيها الأسبقية على الصحابة قاطبة.
فقوّة الإيمان ميزة ينفرد بها علي عليه السّلام وقد تجسدت في صور شتى، ففي العبادة هو المثال، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: تَراهُم رُكَّعاً سُجَّداً (16) على أنها نزلت في عليّ عليه السّلام(17).
وقال بهذا الصدد: « صلّيتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله قبلَ الناس سبعَ سنين، وأنا أوّلُ مَن صلّى معه »(18).
وقال عليه السّلام: « ما أعرفُ أحداً من هذه الاُمّة عَبَدَ الله بعد نبيِّنا غيري... »(19).
وقال عليه السّلام: « أسلمتُ قبل إسلام الناس، وصلّيتُ قبل صلاتهم »(20).
فكان الإمام عليّ عليه السّلام أعبدَ الناس وأكثرَهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاةَ الليل وملازمةَ الأوراد، وقيام النافلة، وما ظنُّك برجل يبلغ من محافظته على وِرْده أن يُبسَطَ له نطعٌ بين الصفَّين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده والسهامُ تقع بين يديه وتمرّ على صِماخَيه يميناً وشمالاً،فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتّى يفرغ من وظيفته ؟ وما ظنُّك برجلٍ كانت جبهته كثِفْنة البعير لطول سجوده ؟(21).
وقيل لعليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام ـ وكان قد بلغ الغايةَ في العبادة ـ: أين عبادتك من عبادة جدك ؟
قال عليه السّلام: « عبادتي من عبادة جَدّي كعبادة جَدّي من عبادة رسول الله صلّى الله عليه وآله »(22).
أمّا في مظاهر الإيمان الأُخرى فنجده عليه السّلام القمّة في النزاهة والخلق الإلهيّ، وأنه المثل القرآني الذي ساقه لمعنى الصدق، فقد قال تعالى: والذين آمنوا بالله ورسله اُولئك هم الصدّيقون (23).
وهذه الآية حسب رواية أحمد بن حنبل أنّها نزلت في الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام(24).
وهناك آيات كثيرة تشهد بأن الإمام عليّاً عليه السّلام هو النموذجَ الحيَّ لمعنى الإيمان، فقد قال تعالى: أجَعَلْتُم سِقايةَ الحاجِّ وعِمارةَ المَسجدِ الحَرامِ كَمَنْ آمنَ باللهِ واليومِ الآخِر وجاهَدَ في سبيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عندَ اللهِ واللهُ لا يَهدي القومَ الظالمين (25).
هذه الآية وما بعدها نزلت في حقّ « علي » لمّا افتخر طلحة بن شيبة والعباس، فقال طلحة: أنا أولى بالبيت، لأن المفتاح بيدي، وقال العباس: أنا أولى، أنا صاحب السقاية والقائم عليها، فقال علي عليه السّلام: « أنا أوّل الناس إيماناً، وأكثرهم جهاداً »، فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان أفضليّة الإمام عليِّ بن أبي طالب عليه السّلام عليهما(26).
وقال تعالى: أفمَن كانَ مُؤمناً كمَنْ كان فاسقاً لا يَسْتَوُون (27) المؤمن عليّ عليه السّلام، والفاسق الوليد(28).
بهذه الآية يقدّم القرآن الكريم للناس نموذجه الإيمانيّ المتمثل في الإمام عليّ عليه السّلام.
وأُولوا الأرحامِ بعضُهم أَولى ببعضٍ في كتابِ اللهِ مِن المؤمنينَ والمُهاجرين (29).
ذهب جملة من المفسرين على أن الآية منطبقة في الإمام عليٍّ عليه السّلام؛ لأنّه كان مهاجراً ذا رحم(30).
كما بيّن رسول الله صلّى الله عليه وآله للناس وفي أكثر من موضع مدى تسليم الإمام عليٍّ للرسالة وتعاليمها، وسابقتَه في الإسلام، وأنّه الإنسان القادر بقوّة إيمانه على حلّ المشكلات عند التباسها.
روي عن أبي ذرّ، حيث قال: دخَلْنا على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقلنا: مَن أحبُّ أصحابك إليك، إن كان أمرٌ كُنّا معه، وإن كانت نائبة كنّا مِن دونه ؟
قال: « عليّ أقدمُكم سِلْماً وإسلاماً »(31).
نكتفي بهذا القدر من الأدلة الكاشفة عن قوة إيمان الإمام عليّ عليه السّلام وأفضليّته، لنرى جانبه الجهاديّ.
--
16 ـ الفتح:29.
17 ـ شواهد التنزيل للحسكانيّ 183:2، وتفسير الخازن وفي هامشه النسفيّ 113:4، وتفسير روح المعاني للآلوسيّ 117:16.
18 ـ تذكرة الخواص 63.
19 ـ خصائص أمير المؤمنين للنسائي 46.
20 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10:1.
21 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 27:1.
22 ـ شرح نهج البلاغة 9:1.
23 ـ سورة الحديد:19.
24 ـ رواه في كتاب الفضائل من فضائل علي عليه السّلام في الحديث 154 و 339، ومنهاج السنّة على ما في تعليقة شواهد التنزيل 224:2، وفيه رواه الحسكاني بأسانيد متعددة، قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « والصدّيقون ثلاثة: حبيب النجّار مؤمن آل ياسين، وحِزْقيل مؤمن آل فرعون، وعليّ بن أبي طالب الثالث أفضلهم »، ورواه في الصواعق المحرقة لابن حجر 123، والتفسير الكبير للرازيّ 57:27، وذخائر العقبى:56، والرياض النضرة 153:2، وفيض القدير 137:4، والدر المنثور للسيوطيّ 262:5.
25 ـ التوبة:19.
26 ـ تفسير ابن كثير 241:2، وتفسير الطبريّ 68:1، وجامع الأُصول 477:9، والتفسير الكبير 10:16، وأسباب النزول للواحديّ 139، الدر المنثور 318:3،319.
27 ـ السجدة:18.
28 ـ تفسير الطبري 68:21، وتفسير ابن كثير 462:3، وفتح القدير للشوكانيّ 247:4، وأسباب النزول 263، وذخائر العقبى 88، وشواهد التنزيل 444:1، وأنساب الأشراف للبلاذريّ 162:1، وتاريخ دمشق لابن عساكر 199:61.
29 ـ الأحزاب:6.
30 ـ رواه ابن مردويه في كتاب ( المناقب )، ونقله في إحقاق الحق الشهيد التستريّ 419:3، عن الترمذي في مناقب المرتضوي 62.
31 ـ علل الحديث لابن أبي حاتم الرازيّ / ح 2664، مناقب المرتضوي للترمذيّ 95، وروي في كنز العمال 122:13 / ح 36392 عن ابن عباس، قال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « أنت يا عليّ أولُ المؤمنين إيماناً، وأوّلُهم إسلاماً ».
الاخوة المحاورون السلام عليكم وشكرا على الموضوع القيم. ان الاستدلال العقلي البسيط على افضلية علي بن ابي طالب هو انه لكي يدفع الصحابة اجر الرساله فهم ملزمين بحب علي. والا فانهم لم يدفعو اجر الرساله وبالتالي مثل انك تركب القطار ولا تدفع اجر ينتهي الامر بك الى المحطة القادمة وبيد الشرطي. فابو بكر وعمر وعثمان ملزمون بحب علي وان جعل منهم المخالفون افضل منه ويقولون نحن نحبه ؟؟؟اما علي فهو غير ملزم بذلك الحب . وهذا الحب يجب ان يكون قلبيا لا قولا فقط وتطبيقا بالاتباع وليس حب مراهقين. قل لا اسئلكم عليه اجرا الا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له. هذا ابسط دليل عقلي واكاديمي. وشكرا لكم
3 ـ مظاهر شخصية الإمام عليّ عليه السّلام في الجانب الجهادي:
أما الجهاد عند الإمام عليّ عليه السّلام، فالخوض في إثباته يجري مجرى إيضاح الواضحات وتقرير البديهيات، فإنّه لا خلاف بين جميع المسلمين وغيرهم أن الإمام عليّاً عليه السّلام في جهاده كان أشجعَ الصحابة بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وأكثرَهم إقداماً، وإن كانت الشجاعة وحبّ الجهاد عند الصحابة ظاهرة بارزة في حياتهم، إلاّ أنها عند الإمام عليّ عليه السّلام تبدو قيمتها أكثر جلاءً في المهمات الصعبة وعند تراجع الآخرين وعدم قدرتهم على تجاوزها، فيتقدم الإمام عليّ عليه السّلام بتفوّقه الإلهيّ لفكّ الطوق عن المسلمين، وهذا ما تشهد به المعارك التي خاضها ضدّ المشركين وأهلِ الكتاب في بدرٍ والأحزاب وخيبر وحنين وغيرها.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله يومَ خيبر: « لأَدفعنّ الرايةَ إلى رجل يحبُّ اللهَ ورسولَه، ويفتح الله عليه، قال عمر: فما أحببتُ الإمارة قطّ قبلَ يومئذٍ، فدفعها إلى عليّ قال: قال: ولا تلتفت، فسار قريباً، قال: يا رسول الله، علامَ نقاتل ؟
قال صلّى الله عليه وآله: على أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عَصَموا دماءهم وأموالَهم إلاّ بحقها، وحسابُهم على الله تعالى »(32).
وفي غزوة الخندق: ضرب الإمام عليّ عليه السّلام أروع مثالٍ لنصرة الحق، وتميّزَ به عن غيره من الصحابة، وقد عزّز الرسولُ صلّى الله عليه وآله قيمةَ هذا الحدث العظيم عندما صرّح بأن الإمام يمثّل جانبَ الحقّ كلِّه، فقد روى الجمهور:
أنه لما برز عمرو بن عبد ودّ العامري في غزوة الخندق، وقد عجز عنه المسلمون، قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: « برَز الإيمانُ كلُّه إلى الشِّركِ كلِّه »(33).
ونقل أحمد بن حنبل في مسنده، قال: خطب الإمامُ الحسن عليه السّلام فقال: « لقد فارقَكُم رجلٌ بالأمس لم يَسبقْه الأوّلون بعلم، ولا يُدركه الآخِرون، كان رسولُ الله صلّى الله عليه وآله يبعثه بالراية، جبرئيلُ عن يمينه وميكائيلُ عن شماله، لا ينصرف حتّى يُفتَح له »(34).
وروى الخوارزميّ قال: حدثنا عبيدالله بن عائشة عن أبيه قال: « كان المشركون إذا أبصروا عليّاً في الحرب، عَهِد بعضُهم إلى بعض »(35).
وعن جابر بن عبدالله قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول يوم الحديبيّة ـ وهو آخذٌ بضِبْع عليّ بن أبي طالب ـ يقول: هذا أمير البررة، وقاتل الفجرة، منصورٌ مَن نَصَره، مخذولٌ مَن خَذَله. ثم مدّ بها صوته وقال: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، فمن أراد الدارَ فلْيأتِ الباب »(36).
وعن ابن عبّاس قال: « كان المهاجرون يوم بدرٍ سبعةً وسبعين رجلاً، وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً، وكان صاحب راية رسول الله صلّى الله عليه وآله عليّ ابن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عُبادة »(37).
وعن ابن عباس قال: « إن راية المهاجرين كانت مع عليّ عليه السّلام في المواقف كلِّها: يوم بدر ويوم أُحد ويوم خيبر ويوم الأحزاب ويوم فتح مكة، ولم تزل معه في المواقف كلِّها »(38).
ويحدثنا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن صُحبته لرسول الله صلّى الله عليه وآله عندما عزما على كسر الأصنام التي كانت فوق الكعبة وقد صعد عليه السّلام على مَنكِبَي رسول الله صلّى الله عليه وآله:
قال عليّ عليه السّلام: « إنطلقتُ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى أتينا الكعبة، فصعد رسولُ الله صلّى الله عليه وآله على مَنْكِبي ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: إنهض. فنهضت، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله ضَعفي قال لي: إجلْس. فجلست، فنزل النبيّ صلّى الله عليه وآله وجلس لي، وقال لي: إصعد على مَنْكِبي. فصَعِدتُ على مَنكِبَيه فنهض بي. فقال عليّ عليه السّلام: إنه يُخيَّل إليّ أنّي لو شئتُ لَنِلتُ أُفقَ السماء، فصعدت على الكعبة وعليها تمثال من صفر أو نحاس، فجعلت أعالجه لأُزيله يميناً وشمالاً وقداماً ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى استمكنتُ منه، فقال نبيُّ الله: اِقذفْه، فقذفتُ به فكسرته كما يكسر القوارير، ثمّ نزلت فانطلقتُ أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله نستبق، حتّى توارينا بالبيوت؛ خشيةَ أن يلقانا أحد »(39).
وتتلخّص صورة سلوك الإمام عليّ عليه السّلام بكل جوانبها الإلهيّة عندما يشبّهه رسول الله صلّى الله عليه وآله بالأنبياء عليهم السّلام، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: « من أراد أن ينظر إلى آدمَ في علمه، وإلى نوحٍ في عزمه، وإلى إبراهيمَ في حِلْمه، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في زُهده؛ فلْينظُرْ إلى عليِّ بنِ أبي طالب »(40).
--
32 ـ مسند أحمد 86:3 / ح 8764، مجمع الزوائد للهيثميّ 123:9، التاريخ الكبير للبخاري 263:7، الطبقات الكبرى لابن سعد 110:2 ـ باب غزوة رسول الله صلّى الله عليه وآله خيبر، خصائص أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب للنسائيّ 59.
33 ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 261:13 و 285، 61:19.
34 ـ مسند أحمد بن حنبل 199:1.
35 ـ ابن المغازلي في مناقبه 72،106.
36 ـ تاريخ مدينة دمشق 383:42.
37 ـ تاريخ الطبريّ 138:2.
38 ـ تاريخ دمشق لابن عساكر ـ ترجمة الإمام عليّ عليه السّلام 142:1.
39 ـ خصائص أمير المؤمنين للنسائيّ 113، ومستدرك الحاكم 366:2، ومسند أحمد 84:1، وكنز العمال 407:6، والرياض النضرة 200:2، وتاريخ بغداد 302:13، وذخائر العقبى 85.
40 ـ ينابيع المودّ للقندوزي ـ الباب 40.