اليكم الجزء الثاني في حقيقة اللعن.
و اكثر من هذا خاصة من كتب اهل السنة:
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها»، رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر(1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم»، رواه أحمد والترمذي والحاكـم عـن أبـي هريـرة(2)، والطبرانـي في المعجـم الكبيـر عن أُمّ سلمة رضي الله عنها(3).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لعن الله الربا وآكلـه وموكلـه وكاتبـه وشاهـده وهم يعلمون، والواصلـة والمستوصلـة والواشمـة والمستوشمـة والنامصـة والمتنمّصة»
، رواه الطبراني في المعجم الكبير عن ابن مسعود(4).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لعن الله المحلّل والمحلّل له»،
رواه أحمد وأبو داود والترمـذي وابن ماجـة عن علـيٍّ عليه السلام (5)،
والترمذي والنسائـي عنـه وعن ابن مسعود(6)، ورواه الترمذيّ أيضاً عن جابر(7).
____________
(1) سنن أبي داود 3|324 ح 3674، المستدرك على الصحيحين 2|37 ح 2235.
(2) مسند أحمد 2|387 ـ 388، المستدرك على الصحيحين 4|115 ح 7067، سنن الترمذي 3|622 ح 1336؛ وفيه: لعن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) الراشي والمرتشي في الحكم.
(3) المعجم الكبير 23|398 ح 951.
(4) الجامع الصغير 2/ 406ح 7256.
(5) مسند أحمد 1|78 مقتضب من الحديث؛ وفيه: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... الحديث»، سنن أبي داود 2|234 ح 2076 و2077، سنن الترمذي 3|427 ح 1119، سنن ابن ماجة 1|622 ح 1935؛ وفيه: قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم... الحديث».
(6) سنن الترمذي 3|428 ح 1120، سنن النسائي 6|149 مقتضب من الحديث؛ وفيه: «لعن رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم)... الحديث».
(7) سنن الترمذي 3|428 ذيل ح 1119.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «لُعِن عبدُ الدينار، لُعِن عبدُ الدرهم»، رواه الترمذيّ عن أبي هريرة(1).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «ستّة لعنتهم، لعنهم الله وكلّ نبيٍّ مجابٍ: الزائد في كتاب الله، والمكذّب بقدر الله تعالى، والمتسلّط بالجبروت فيعزّ بذلك من أذلّ الله ويذلّ من أعـزّ الله، والمستحـلّ لحـرم الله، والمستحلّ من عترتـي ما حرّم الله، والتارك لسُنّتي»،
رواه الحاكم عن عائشة(2).
وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرةً.
وبالجملة: فلا يرتاب ذو تحصيلٍ في أنّ اللعن طاعةٌ يستحقّ عليها الثواب إذا وقع على وجهه، وهو أن يلعن مستحقّ اللعنة تقرّباً إلى الله تعالى لا للعصبيّة والهوى، وقد يكون واجباً كما إذا قصد به البراءة من أعداء الله واقتصر عليه.
4_ و اما بعض الروايات الناهية عن اللعن:
، كقوله (صلى الله عليه وآله): (ليس المؤمن بالسبّاب ولا بالطعّان ولا باللعّان)(كنز العمال)، وكقوله (صلى الله عليه وآله): (المؤمن لا يكون لعّاناً)(كنز العمال)
قال الفيض الكاشاني رحمه الله: أمّا حديث (لا تكونوا لعّانين) فلعلّه نهي عن أن يكون السبّ خُلقاً لهم، بسبب المبالغة فيه والإفراط في ارتكابه، بحيث يلعنون كل أحد، كما يدل عليه قوله: (لعّانين) لا أ نّه نهى عن لعن المستحقين، وإلاّ لقال: لا تكونوا لاعنين، فإنّ بينهما فرقاً يعلمه من أحاط بدقائق لسان العرب.
وأمّا ما روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) نهى عن لعن أهل الشام، فإن صحّ فلعله (عليه السلام) كان يرجو إسلامهم ورجوعهم إليه، كما هو شأن الرئيس المشفق على الرعية.
ولذلك قال: (ولكن قولوا اللّهمّ أصلح ذات بيننا) وهذا قريبٌ من قوله تعالى في قصة فرعون: (فقولا له قولاً ليّناً)).
نعم، لقد نهى أمير المؤمنين (عليه السلام) أصحابه عن لعن أهل الشام، وهذا مذكور في نهج البلاغة بعنوان: (ومن كلام له (عليه السلام) وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفين) وقال ابن أبي الحديد تعليقاً عليه:
(والذي كرهه (عليه السلام) منهم أنهم كانوا يشتمون أهل الشام ولم يكن يكره منهم لعنهم إياهم والبراءة منهم، لا كما يتوهّمه قوم من الحشوية فيقولون: لا يجوز لعن أحد ممّن عليه اسم الإسلام وينكرون على من يلعن ومنهم من يغالي في ذلك فيقول: لا ألعن الكافر ولا ألعن إبليس وأن الله تعالى لا يقول لأحد يوم القيامة لِمَ لم تلعن؟ وإنّما يقول: لِمَ لَعنت)؟( - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/21 ، 22، الخطبة 199 .). فإن كلامهم هذا خلاف نص الكتاب، لأنه تعالى قال: (إنّ الله لعن الكافرين وأعدّ لهم سعيراً)() وقال: (أُولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)(). وقال في إبليس: (وان عليك لعنتي إلى يوم الدين) وقال: (ملعونين أينما ثقفوا)( وفي الكتاب من ذلك الكثير الواسع.
وكيف يجوز للمسلم أن ينكر التبرّي ممن يجب التبرّي منه؟ ألم يسمع هؤلاء قول الله تعالى: (قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا براءٌ منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً)(.
وممّا يدل على أنّ من عليه اسم الإسلام إذا ارتكب الكبيرة يجوز لعنه، بل قد يجب في وقت معين، كما في حالة الملاعنة، قال الله تعالى في قصة اللعان (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين* والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين)(5) وقال تعالى في القاذف: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم)(
و مما ذكرنا يظهر فساد كلام الغزالي في المقام قال: (في لعن الأشخاص خطر فليجتنب، ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس فضلاً عن غيره).
ثم قال:
(وإنّما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها، والمؤمن ليس بلعّان فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلاّ على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعيّنين، فالاشتغال بذكر الله أولى، فإن لم يكن ففي السكوت سلامة)( - إحياء علوم الدين: 3/ 134 ـ 135 ط دار الفكر.
- ، فإن اللعن إذا كان فيه خطر على المجتمع كان على القرآن أن لا يأتي به، وعلى النبي (صلى الله عليه وآله) أن لا يمارسه ويطبقه، وكلام الغزالي هذا فيه نوع من الحزبية المقيتة، فلأجل الدفاع عن يزيد وتحريم لعنه، يلجأ إلى أقوال تنتهي إلى الردّ على الله وعلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، من حيث لا يريد. والقرآن الكريم يلعن إبليس ولو لم تكن مصلحة إيمانية في ذلك لما وردت آيتان في لعنه، وأبرز مصلحة نستطيع إدراكها هي تكريس وتعميق حالة الإنزجار والتنفّر في النفوس من رمز الشرّ والباطل والانحراف، بما يساعد على الاستقامة ويجعل خطاً فاصلاً كبيراً بينها وبين الانحراف، ومع ذلك يدّعي الغزالي أن لا خطر في الإمساك عن لعن إبليس فضلاً عمن هو دونه، أليس كلامه هذا ينتهي إلى إلغاء حكمة القرآن؟! أما تهاون الناس في ذلك فهذا أمر آخر مردّه إلى جهل الناس، أو إلى سياسات الحكّام الجائرين الذين أجروا اللعن على أمير المؤمنين (عليه السلام) وشيعته على المنابر، أمثال معاوية ويزيد بن معاوية، والحكام الذين كانوا إذا أرادوا الإيقاع بأتباع أهل البيت (عليهم السلام) اتهموهم بسبّ الشيخين حتّى تسهل عليهم الوقيعة بهم.
وأمّا قوله: بأنّ الاشتغال بذكر الله أولى وأن في السكوت سلامة، فمصادرة على المطلوب، فإنّ اللازم بيان حكم اللعن، فإن كان مطلوباً شرعاً فلا معنى لأن نقول: بأنّ في السكوت عنه سلامة، وإنْ لم يكن مطلوباً فاللازم حينئذ بيان عدم مشروعيته
--
و للبحث تتمة ستاتي ان شاء الله
5_ مسألة اللعن و موقف الوهابين و مدرسة الخلفاء:
والحقيقة أن المسألة في أصلها ليست محلاًّ للخلاف بين المسلمين، إنّما وقع الخلاف بينهم فيها حينما اصطدم مفهوم اللعن بالمعنى الذي بيّناه مع قاعدة أساسية من قواعد مدرسة الخلفاء، وهي قاعدة عدالة كل من عاصر النبي (صلى الله عليه وآله) وصحبه وهو مؤمن به، ولخطورة هذه القاعدة وتقدمها عندهم على ما سواها، اضطر زعماء هذه المدرسة إلى تأويل كل ما خالفها من المفاهيم والأفكار، وحتّى الوقائع التاريخية البيّنة التي تشهد على بعض الصحابة بالفسق البيِّن، والمخالفات الصريحة التي ثبّتها القرآن الكريم على بعضهم، حاولوا التهرب منها بذرائع لا يوافقهم عليها أحد من العُقلاء، ومن المستبعد أن يكونوا هم أنفسهم مقتنعين بها، إلاّ أنهم لمّا سلكوا هذا الطريق، وسدّوا على أنفسهم سائر الطرق، وجدوا أنفسهم بحاجة إلى التشبث بكل كلمة يتصورون أنها تساعدهم على الخروج من اللوازم الفاسدة المترتبة عليه، رغم أن الأحرى بهم في مثل هذه الحالة، اتخاذ تلك اللوازم الباطلة دليلاً على بطلان تلك القاعدة.
ومفهوم اللعن من جملة ما عارض هذه القاعدة، فتوقفوا فيه جموداً منهم على تلك القاعدة التي ركبوا من أجل تحصينها وحراستها كل صعب وذلول، فمع أن قسماً كبيراً من صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) قد ارتكب الأعمال التي وجّه القرآن الكريم اللعنة عليها، وأن الرسول (صلى الله عليه وآله) نفسه قد لعن بالعنوان بعض أصحابه، كما لعن بعضهم بالتعيين والتسمية، وأن هذا كله من قطعيات التاريخ التي لا سبيل إلى المناقشة فيها، إلاّ أن مدرسة الخلفاء ـ ورغم ذلك كلّه ـ آمنت:
1 ـ بأن الصحابة كلّهم عدول.
2 ـ إن ما وقع من بعضهم خلاف العدالة بالغاً ما بلغ لابد من حمله على وجه من الوجوه المناسبة كالاجتهاد ونحوه.
3 ـ إن الأخذ بمقتضى هذه المخالفات، وترتيب الأثر الشرعي والعقلي عليها، والامتناع عن حملها على محمل حسن، يؤدي إلى الطعن بمرتكبيها من الصحابة، وفتح باب اللعنة عليهم والتفسيق لهم.
4 ـ إن الطعن ببعض الصحابة ذنب عظيم، يؤدي إما إلى فسق الطاعن عليهم أو كفره(39).
وهذه نقاط بعضها مترتب على بعض، وكل واحدة منها أفحش في الخطأ والمغالطة من التي قبلها، وهي تعود جميعاً إلى سقم قاعدتهم الكلية القائلة بعدالة الصحابة، حتّى من ارتكب منهم مخالفات بيّنة قطعية، بل حتّى من شهد القرآن بفسقه!!
ومن هنا نشأ الخلاف بين المدرستين، مدرسة الخلفاء، ومدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في مسألة اللعن، حيث رأت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) أن الناس في شرع الله سواسية، وأن من يرتكب الأعمال التي وردت في الكتاب والسنّة النبوية مقرونة باللعن والردع، تلحقه هذه النتيجة سواء كان صحابياً أم تابعياً أم من أهل القرون المتأخرة، خاصة وأن القرآن قد ثبّت على بعض الصحابة ذلك، وأدانهم به، وأن السنّة النبوية تضم شواهد عديدة على ذم بعض الصحابة ولعنهم والبراءة منهم،
وإليك تفصيل ذلك:
موقف مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) من مسألة اللّعن:
ولكي نفصّل القول في موقف مدرسة أهل البيت من مسألة اللعن تفصيلاً كافياً لابد لنا من تناولها ضمن المطالب التالية:
1 ـ الفصل بين اللعن والسبّ
أن اللعن ضرورة عقائدية يحتاجها المجتمع العقائدي الإسلامي لتحصين بنيته العقائدية من خصوم الإسلام الداخليين والخارجيين، ومن بعض أنماط السلوك الاجتماعي التي تهدد النظام الاجتماعي الإسلامي، بالخطر.
بينما السب ظاهرة أخلاقية منبوذة، ومفردة سلوكية مرفوضة، من وجهة نظر القرآن والسنّة النبوية وأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
2 ـ عدم صحّة نظرية عدالة كل الصحابة
ليس البحث هنا منعقداً لمناقشة نظرية عدالة كل الصحابة، والبحث فيها يتطلب مجالاً واسعاً بحدود كتاب أو عدّة كتب، لكننا بمقدار ارتباط بحثنا بهذه النظرية نجد ضرورة التطرق لها بالقدر المناسب.
فمن القواعد العقلية المقررة بين العقلاء أن المُدّعى يجب أن يكون بحجم الدليل، فإذا كان أكبر من الدليل أصبح ادعاءاً بلا دليل. وحينما يقاس حجم المدعى ينظر إليه مع كل ما يترتب عليه من اللوازم، ثم تتم المقايسة بينه وبين الدليل المفترض عليه.
وحينما نأتي إلى نظرية عدالة كل الصحابة نجدها تستلزم لوازم عقلية وشرعية كثيرة وكلّها غير صحيحة منها:
أ ـ إن الإيمان بعدالة الصحابة يستلزم الإيمان بأن سبب العدالة في الصحابي هو مجرد صحبته للرسول (صلى الله عليه وآله)، وليس عمل الصحابي، فما دام الصحابي قد صحب الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو عادل وإن فعل ما فعل من المخالفات.
ب ـ إن مخالفات الصحابة لابد من حملها على وجوه مناسبة، وكلّما تعسّر الحمل وظهر التكلف ضعفت مصداقية الشريعة، فيما تتبناه من أحكام وتدعو إليه من قيم، فالحمل على أن الصحابة مجتهدون، للمخطئ منهم أجر وللمصيب أجران من شأنه أن يضعّف قيمة الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، فأي اجتهاد يسمح للصحابة بالتقاتل فيما بينهم؟ وأي فرق حينئذ بينهم وبين سائر البشر، ممّن يتقاتلون فيما بينهم؟ وهكذا فالحمل على كل وجه شرعي، من شأنه أن يضعّف موقع ذلك الوجه من الشريعة.
ج ـ إن تعديل الصحابة مناف لصريح القرآن الكريم، الدال على وجود منافقين وفاسقين ومؤذين لله وللرسول (صلى الله عليه وآله) من بين صحابته،.
د ـ إن تعديل الصحابة مناف لصريح السنّة النبوية، الدالة على تبرّم النبي (صلى الله عليه وآله) وغضبه على بعض صحابته،.
هـ ـ إن تعديل الصحابة مناف لمفهوم اللعن الوارد في القرآن الكريم، بخصوص حالات وردت بعضها في سيرة بعض الصحابة.
و ـ إن تعديل الصحابة مناف لقوانين الطبيعة البشرية في الميدان الاجتماعي، فالإنسان الذي كان قبل إيمانه بالرسول محارباً له، منغمساً في جاهليته بكل ما فيها من أدران وأوساخ كيف نتعقل الحكم بتعديله بمجرد تلفظه بالشهادتين وصحبته للرسول (صلى الله عليه وآله)؟ لا ننكر أن ذلك أمر ممكن، ولكن بالنسبة إلى أفراد دلّت الشواهد العملية منهم على تحقق العدالة فيهم فعلاً، وليس بالنسبة إلى المجتمع ككل، إذ أنّ الإمكان شيء والتحقق شيء آخر، فنظرية عدالة الصحابة لا تتحدث عن الإمكان، وإنّما تتحدث عن تحقق العدالة في كل الصحابة دون أن تنظر في سلوكهم، بل دون أن تقبل النظر في ذلك، ونستطيع أن نجزم بالقول بأن نظرية عدالة الصحابة تتعارض تعارضاً تاماً مع علوم التاريخ والاجتماع والنفس، التي لا تتقبل إصدار أحكام عامة جازمة بالمدح لطائفة من الناس، ثم تفسر سلوكهم بنحو متلائم مع هذه الأحكام، والشيء الذي تؤكد عليه طبيعة الحياة وهذه العلوم، أن الأحكام بالمدح أو الذم تابعة للأعمال. وليس الأعمال تابعة للأحكام،
ولأجل تبعية الأحكام للأعمال، لابد وأن ننظر في عمل كل فرد فرد، ونصدّر بازاء كل واحد منهم ما يستحقه من الحكم بالمدح أو الذم، وقد جرى العقلاء على إصدار حكم عام بالمدح أو الذم على جماعة من الناس، بملاحظة الأعم الأغلب فيها، وقد أمضى القرآن الكريم هذه الطريقة، فأصدر أحكاماً من هذا النوع على بعض الجماعات، والمعروف في مثل هذه الحالات أن حكم الجماعة لا يلحق كل فرد منها، فإذا قيل: الرجال أقوى من النساء، مثل هذا الحكم لا يعني أن كل فرد من الرجال أقوى من كل فرد من النساء، لأن هذا الحكم وأمثاله مبني على ملاحظة الأعم الأغلب وليس مبنياً على الاستقصاء، وإذا ادّعي الاستقصاء فيها كان الادعاء كاذباً لا محالة.
ونظرية عدالة الصحابة تصر على عدالة كل فرد منهم ولا تقبل بالبناء على الأعم الأغلب، وهذا أوضح وجه لبيان سقمها.
بعد بيان هذه الملاحظات على نظرية عدالة كل الصحابة من جهة، وملاحظة إصرار مدرسة الخلفاء على هذه النظرية من جهة ثانية، يحق للباحث المنصف أن يتساءل: من أجل أي دليل يجب علينا الإيمان بنظرية تستلزم ارتكاب كل هذه المفارقات واللوازم الباطلة؟ هل بلغ الدليل على هذه النظرية درجة من القوة والوضوح والتأكيد، بحيث أن ارتكاب هذه المفارقات واللوازم الباطلة أهون من الناحية المنطقية من القول بعدالة بعض الصحابة؟ وهل أن القول بعدالة بعض
الصحابة لا جميعهم، تترتب عليه مخالفات ومفارقات أعظم من هذه، بحيث نضطر إلى القول بعدالة كل الصحابة؟
والحقيقة أننا حينما ننظر في ما يوردونه من الأدلة على نظرية عدالة كل الصحابة، نجدها مجموعة من الآيات والأحاديث التي لا تدل على هذا الادعاء، مثل آية: (والسابقون السابقون* أُولئك المقربون) وآية: (محمّد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رُحماء بينهم تراهم...) وآية: (لقد رضي الله عن المؤمنين...).
وقول النبي (صلى الله عليه وآله): (خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)( الفتاوى الكبرى: 4/217.
).
وواضح أن غاية ما تدل عليه هذه الأدلّة هو امتداح جيل الصحابة والثناء على ما بذلوه من جهود في نصرة الدين والرسول (صلى الله عليه وآله)، وهو شيء نسلّم به بالوجدان قبل القرآن، فإن صحابة الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ بما هم جماعة ـ كانوا يمثلون نواة المجتمع الإسلامي في الأرض، وبداية الانطلاقة الإسلامية في الحياة، وبالتالي فهم بالمقياس الإيماني أفضل من أي جماعة بشرية كانت في ذلك الزمان على وجه الأرض، ولكن هذا شيء والحكم بعدالة كل فرد منهم شيء آخر، وقد قلنا سابقاً أن الحكم على الجماعة لا يسري إلى كل فرد فرد فيها، لأنه بلحاظ الأعم الأغلب، بينما إسراء الحكم إلى كل فرد يتطلب الاستقصاء من جهتين، جهة الأفراد، وجهة أعمال كل فرد طيلة حياته، حتّى يصح لنا أن نقول: إن أفراد هذه الجماعة كلهم عدول، والآيات المذكورة لا دلالة فيها على الاستقصاء لا من هذه الجهة ولا من تلك، بل إن الاستقصاء غير معقول فيها، لأن حياة الصحابة المخاطبين بها لم تتم بعد حتّى نقول: إنها تدل على عدالتهم، فربما ارتكبوا بعد هذا الخطاب أو بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ما يخالف العدالة، وقد أخبرتنا آيات أُخرى أن الصحابة قد يقع من بعضهم الارتداد، وهو أعظم من منافيات العدالة، وقد وقع ذلك فعلاً.
وحيث يتعذر الاستقصاء نستطيع أن نقول: إن الآيات المذكورة ليست أنها لا تدل على عدالة الصحابة فحسب، بل إن هذه الدلالة ممتنعة في نفسها، فهي سالبة بانتفاء الموضوع، فليس هناك وجهان أحدهما: يدل على عدالة الصحابة، والآخر يدل على امتداحهما فقط فنختار أرجحهما بحسب القرائن والأدلة. وإنما هو وجه واحد في هذه الآيات، وهو دلالة هذه الآيات على امتداح الصحابة بما هم جيل ومجموعة، دون النظر إلى كل فرد فرد منهم، وهذا المعنى مصرّح به في نصوص أئمة أهل البيت وتراثهم الفكري.
6_ معاوية و لعنه و سبه و امره الي سب و لعن مولانا علي عليه السلام:
ثبت في الصحاح والسنن أن معاوية كان يأمر الناس بسب مولانا علي عليه السلام: روى مسلم في الصحيح(2404) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟! فقال: أمَّا ما ذكرتُ ثلاثاً قالهن له رسول الله(ص)فلن أسبه ! لأنْ تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حُمْر النَّعم ، سمعت رسول الله (ص)يقول له وقد خلَّفَه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ! فقال له رسول الله (ص): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي .
وسمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال: أدعوا لي علياً فأتيَ به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه. ولما نزلت هذه الآية: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ. دعا رسول الله(ص) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي(1) .
وقد روى ابن ماجه (121) بسند صحيح(2) عن سعد بن أبي وقاص قال: قدم معاوية في بعض حجاته فدخل عليه سعد فذكروا علياً فنال منه ! فغضب سعد ؛وقال: تقول هذا لرجل سمعت رسول الله (ص)يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه ، وسمعته يقول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لانبي بعدي ، وسمعته يقول: لأعطين الراية اليوم رجلاً يحب الله ورسوله .
فهذه رواية صريحة في أن معاوية نال من سيدنا علي عليه السلام: أي سبه وشتمه !!
وقد أمر معاوية ولاته أن يشتموا ويسبوا سيدنا علياً ويأمروا الناس بذلك ومن ذلك: ما رواه مسلم في الصحيح (2409)عن الصحابي الجليل سهل بن سعد قال: اسْتُعْمِلَ على المدينة رجل من آل مروان ؛ قال: فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم علياً ! قال فأبى سهل ؛ فقال له: أما إذ أبيت فقل لعن الله أبا التراب ، فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب وإن كان ليفرح إذا دعي بها ...
.
فبهذا ثبت أن معاوية كان يسب سيدنا علياً عليه السلام ويأمر الناس بسبِّه وقد صح أن النبي (ص)قال: من سب علياً فقد سبني . فقد روى أحمد في المسند (6/323) عن أبي عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة فقالت لي: أَيُسَبُّ رسول الله (ص)فيكم؟! قلت: معاذ الله أو سبحان الله أو كلمة نحوها ! قالت: سمعت رسول الله (ص)يقول: من سب علياً فقد سبني) (3) .
أقول: ورواه الحاكم(3/121)وزاد: ومن سبني فقد سب الله . وسب معاوية وشيعته لسيدنا علي عليه السلام والرضوان مشهور بل متواتر ، ويحتاج هذا لجمع مصنف خاص فيه، (4) . فالآن ملخص الأمر هو أن معاوية سب سيدنا علياً وأمر بالسب والنبي الأعظم (ص)يقول: من سب علياً فقد سبني . فهل أنتم مع رسول الله (ص)ونبينا أم مع من يسب سيدنا علياً ويسب سيدنا رسول الله(ص)؟!
وهل يجوز أن نحب وندافع عمن يسب سيدنا علي عليه السلام ومن يسب سيدنا رسول الله (ص)؟! أين التقوى وأين الإيمان ، وأين الخوف من الله تعالى؟!!
هامش: (1) ذكرنا أن هذا الحديث رواه مسلم (2404) وكذا الترمذي (3724) وغيرهما .
(2) وهذا قد صححه متناقض عصرنا الألباني في صحيح ابن ماجه (1/26) .
(3) ورواه النسائي في الكبرى (5/133) وله روايات عديدة ذكرها الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (/130) وله ألفاظ أخرى وروايات عديدة منها ما رواه ابن أبي شيبة (12/76-77) ، والطبراني في الكبير (23/322) وأبو يعلى (12/444) وغيرهم . وصححه الشيخ شعيب الأرنأوط في تعليقه على المسند (44/329) والألباني في صحيحته (3332) .
4) منه ما في مسند أحمد (1/187) وسنن أبي داود (4649و
4650) وغيرهما بإسناد صحيح إنكار الصحابي سعيد بن زيد على المغيرة بن شعبة أنه يُسب في مجلسه سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام والرضوان حيث يقول سعيد بن زيد: (يا مغيرة بن شعبة ! ألا تسمع أصحاب رسول الله (ص)يُسَبُّون عندك ولا تنكر ولا تُغَير؟! وقد صحح هذا متناقض عصرنا الألباني في ( صحيح أبي داود) (3/880/3887) . ومنه ما رواه ابن أبي عاصم في سنته (1350) عن عبد الرحمن بن البيلماني قال: كنا عند معاوية فقام رجل فسب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسب وسب فقام سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: يا معاوية ألا أرى يُسَب علي بين يديك ولا تغير !! فإني سمعت رسول الله (ص)يقول: ( هو مني بمنزلة هارون من موسى) . انتهى
(وقد أخرج الحاكم ( 3/499) في ذلك من حديث قيس بن أبي حازم قال: كنت بالمدينة فينا أنا أطوف في السوق إذ بلغت أحجار الزيت ، فرأيت قوماً مجتمعين على فارس قد ركب دابة وهو يشتم علي بن أبي طالب والناس وقوف حواليه ! إذ أقبل سعد بن أبي وقاص ، فوقف عليهم فقال: ما هذا ؟ فقالوا: رجل يشتم علي بن أبي طالب ! فتقدم سعد فأفرجوا له حتى وقف عليه فقال: يا هذا على ما تشتم علي بن أبي طالب؟! ألم يكن أول من أسلم ، ألم يكن أول من صلى مع رسول الله(ص)؟ ألم يكن أزهد الناس ؟ ألم يكن أعلم الناس ؟ وذكر حتى قال: ألم يكن ختن رسول الله (ص)على ابنته ؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله (ص) في غزواته؟ ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم إن هذا يشتم ولياً من أوليائك فلا تفرق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك! قال قيس: فوالله ماتفرقنا حتى ساخت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفلق دماغه) !! قال الحاكم والذهبي: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين). انتهى. وفي تاريخ دمشق:57/248، أن مروان جاء ليعوده فوبخه سعد لشتمه علياً عليه السلام وقال ويلك يامرون وأرعد بوجهه فخرج مروان مغضباً ! و اليك بعص الشواهد الاخري
1 - صحيح البخاري! مع شرح فتح الباري(7/70) نجد فيه حديثاً( عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه أن رجلا دعا سهل بن سعد فقال: هذا فلان أمير المدينة يدعوه عليا عند المنبر). الحديث وفسر ابن حجر هذا القول برواية أخرى عند الطبراني من وجه آخر عن عبد العزيز نفسه ، وهي (يدعوك لتسب علياً ! . وهذا السبب صريح في حديث مسلم الآتي :
2 - صحيح مسلم(7/124)! (عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: استعمل على المدينة رجل من آل مروان قال ( أبو حازم): فدعا سهل بن سعد فأمره أن يشتم عليا قال: فأبى سهل فقال له ( الأمير) أما إذا أبيت فقل لعن الله أبا التراب ! فقال سهل: ما كان لعلي اسم أحب إليه من أبي التراب ، وما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم... الحديث. أقول: فهذا صحيح مسلم يفسر رواية البخاري وكلاهما من الكتب الستة).الى آخر ما أورده .
ففي تاريخ الطبري:4/198: (وجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد فقال له: إن امرءاً منا من بني همام يقال له صيفي بن فسيل من رؤس أصحاب حجر ، وهو أشد الناس عليك ، فبعث إليه زياد فأتي به فقال له زياد: يا عدو الله ما تقول في أبى تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب ! قال: ما أعرفك به ، قال: ما أعرفه ! قال: أما تعرف علي بن أبي طالب ؟ قال: بلى ، قال: فذاك أبو تراب ! قال: كلا ذاك أبو الحسن والحسين ! فقال له صاحب الشرطة: يقول لك الأمير هو أبو تراب وتقول أنت لا ؟! قال: وإن كذب الأمير أتريد أن أكذب وأشهد له على باطل كما شهد ! قال له زياد: وهذا أيضاً مع ذنبك ! عليَّ بالعصا ، فأتيَ بها فقال: ما قولك؟ قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عباد الله المؤمنين ! قال: إضربوا عنقه بالعصا حتى يلصق بالأرض ! فضرب حتى لزم الأرض ، ثم قال: أقلعوا عنه ، فقال: إيه ما قولك في علي؟ قال: والله لو شرَّحتني بالمواسي والمُدى ما قلتُ إلا ما سمعتَ مني ! قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك ! قال: إذا تضربها والله قبل ذلك ، فإن أبيت إلا أن تضربها رضيت بالله وشقيت أنت ! قال: إدفعوا في رقبته ، ثم قال: أوقروه حديداً وألقوه في السجن !! (خاف زياد من مضاعفات قتله قبلياً) !
ثم بعث إلى عبد الله بن خليفة الطائي وكان شهد مع حجر(عندما ذهبوا لاعتقاله) وقاتلهم قتالاً شديداً ، فبعث إليه زياد بكير بن حمران الأحمري وكان تبيع العمال ، فبعثه في أناس من أصحابه ، فأقبلوا في طلبه فوجدوه في مسجد عدي بن حاتم(الطائي) فأخرجوه ، فلما أرادوا أن يذهبوا به وكان عزيز النفس امتنع منهم ، فحاربهم وقاتلهم فشجروه ورموه بالحجارة حتى سقط ! فنادت ميثاء أخته: يا معشر طئ أتسلمون ابن خليفة لسانكم وسنانكم! فلما سمع الأحمري نداءها خشى أن تجتمع طئ فيهلك، فهرب !
وخرج نسوة من طئ فأدخلنه داراً ، وينطلق الأحمري حتى أن زياداً فقال إن طيئاً اجتمعت إليَّ فلم أطقهم أفأتيتك ! فبعث زياد إلى عدي وكان في المسجد فحبسه ، وقال جئني به ! وقد أُخبر عدي بخبر عبد الله فقال عدي: كيف آتيك برجل قد قتله القوم ! قال: جئني حتى أرى أن قد قتلوه ! فاعتلَّ له وقال: لا أدرى أين هو ولا ما فعل ! فحبسه فلم يبق رجل من أهل المصر من أهل اليمن وربيعة ومصر إلا فزع لعدي ، فأتوا زيادا فكلموه فيه ! وأُخرج عبد الله فتغيب في بُحتر ، فأرسل إلى عدي إن شئت أن أخرج حتى أضع يدي في يدك فعلت! فبعث إليه عدي: والله لو كنت تحت قدمي ما رفعتهما عنك! فدعا زياد عدياً فقال له: إني أخلس سبيلك على أن تجعل لي لتنفيه من الكوفة ولتسير به إلى الجبلين ، قال: نعم). انتهى. ويقصد جبلي طئ: أجأ وسلمى ، واسمهما الآن جبال شمر . ( معجم قبائل العرب:2/688
بعض المناطق رفضت تنفيذ مرسوم معاوية !
قال الحموي في معجم البلدان:3/191: (قال الرهني: وأجل من هذا كله أنه لعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، على منابر الشرق والغرب ولم يلعن على منبرها إلا مرة ، وامتنعوا على بنى أمية حتى زادوا في عهدهم أن لا يلعن على منبرهم أحد ولا يصطادوا في بلدهم قنفذا ولا سلحفاة ، وأي شرف أعظم من امتناعهم من لعن أخي رسول الله ،(ص)، على منبرهم وهو يلعن على منابر الحرمين مكة والمدينة)؟ . انتهى. (والأربعين البلدانية لابن عساكر:3/191)
حتى في الشام كان الناس يكرهون لعن علي عليه السلام
في تاريخ اليعقوبي:2/223: (وفي هذه السنة عمل معاوية المقصورة في المسجد وأخرج المنابر إلى المصلى في العيدين ، وخطب الخطبة قبل الصلاة ، وذلك أن الناس (كانوا) إذا صلوا انصرفوا لئلا يسمعوا لعن علي ، فقدم معاوية الخطبة قبل الصلاة ، ووهب فدكاً لمروان بن الحكم ، ليغيظ بذلك آل رسول الله ).
قال المسعودي في مروج الذهب:3/39، وفي طبعة:2/72: (ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته(معاوية)إلى أن جعلوا لعن علي سنة ، ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير ! وذكر بعضهم أنه قال لرجل من أهل الشام من زعمائهم وأهل الرأي والعقل منهم: من أبو تراب هذا الذي يلعنه الإمام على المنبر؟ قال: أراه لصاً من لصوص العرب) ! (ورواه العصامي في سمت النجوم العوالي ص883 ) .
وفي كتاب العثمانية للجاحظ ص285، بسنده عن الزهري قال: (قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل ؟ قال: ما كنت لافعل حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير . فلما ولى عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه فقال الناس: ترك السنة . قال: وقد روى عن ابن مسعود إما موقوفا عليه أو مرفوعا: كيف أنتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير ، يجرى عليها الناس فيتخذونها سنة ، فإذا غير منها شئ قيل: غيرت السنة !
قال أبو جعفر: وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى . فيحملون الناس على ذلك حتى لايعرفون غيره)! ( ورواه شرح النهج:13/222)
وفي الغدير:2/102: (قال الجاحظ في كتاب الرد على الإمامية: إن معاوية كان يقول في آخر خطبته: اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك ، وصد عن سبيك ، فالعنه لعناً وبيلاً ، وعذبه عذابا أليماً ! وكتب ذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يشاد بها على المنابر ، إلى أيام عمر بن عبد العزيز . وإن قوماً من بني أمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين إنك قد بلغت ما أملت ، فلو كففت عن هذا الرجل ! فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير ، ويهرم عليه الكبير ، ولا يذكر له ذاكر فضلاً).
عطية لم يقبل أن يلعن علياً عليه السلام وهو ضعيف الحديث !
(عطية بن سعد بن جنادة العوفي ، من جديل قيس ، ويكنى أبا الحسن ، قال: لما ولدت أتى بي أبي علياً عليه السلام فأخبره ففرض لي في مائة ثم أعطى أبي عطاي ، فاشترى أبي منها سمناً وعسلاً....فقال يا أمير المؤمنين إنه ولد لي غلام فسمه قال: هذا عطية الله فسمي عطية.... هرب عطية إلى فارس فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم الثقفي أن ادع عطية فإن لعن علي بن أبي طالب وإلا فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه ولحيته فدعاه فأقرأه كتاب الحجاج فأبى عطية أن يفعل فضربه أربعمائة وحلق رأسه ولحيته) . (الطبقات:6/304 ، وقال الذهبي في العبرص68: (روى عن أبي هريرة وطائفة ، وقد ضربه الحجاج أربع مئة سوط على أن يشتم علياً فلم يفعل، وهو ضعيف الحديث) .
وحريز مدمنٌ على لعن علي عليه السلام وهو من ثقاة البخاري والصحاح
(حريز بن عثمان الحافظ أبو عثمان الرحبي: عده الذهبي(6)والسيوطي(7)وابن العماد الحنبلي(8)من حفاظ الحديث ، وهو ناصبي معروف ، روى له البخاري والأربعة ، سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: ثقة ثقة . وقال: ليس بالشام أثبت من حريز . ووثقه ابن معين ودحيم ، وأحمد ، وابن يحيى ، والمفضل بن غسان ، والعجلي ، وأبو حاتم ، وابن عدي والقطان . قال ابن المديني: لم يزل من أدركناه من أصحابنا يوثقونه...قال ابن حبان: كان يلعن علياً بالغداة سبعين مرة ، وبالعشي سبعين مرة) !
وفي أنساب السمعاني:907: (حريز بن عثمان الرحبي الحمصي يروي عن عبد الله بن بسر وراشد بن سعد وأهل الشام ، روى عنه بقية . ولد سنة ثمانين ومات سنة ثلاث وستين ومائة ، وكان يلعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالغداة سبعين مرة وبالعشي سبعين مرة ! فقيل له في ذلك فقال: هو القاطع رؤوس آبائي وأجدادي).
وفي شرح النهج:4/69: (قال(أبو جعفر الإسكافي): وقد كان في المحدثين من يبغضه وروى فيه الأحاديث المنكرة ، منهم حريز بن عثمان ، كان يبغضه وينتقصه ويروي فيه أخبارا مكذوبة....عن محفوظ(بن المفضل بن عمر): ( قلت ليحيى بن صالح الوحاظي: قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز ، فما بالك لم تحمل عن حريز ! قال: إني أتيته فناولني كتاباً ، فإذا فيه: حدثني فلان عن فلان أن النبي(ص)لما حضرته الوفاة أوصى أن تقطع يد علي بن أبي طالب ! فرددتُ الكتاب ولم أستحل أن أكتب عنه شيئاً ! قال أبو بكر: وحدثني أبو جعفر قال: حدثني إبراهيم ، قال: حدثني محمد بن عاصم صاحب الخانات قال: قال لنا حريز بن عثمان: أنتم يا أهل العراق تحبون علي بن أبي طالب ونحن نبغضه ! قالوا: لمَ ؟ قال: لأنه قتل أجدادي . قال محمد بن عاصم: وكان حريز بن عثمان نازلاً علينا). (وتاريخ دمشق:12/347 ، و249 ، و:12/350) .
و ملخص الكلام:
أن اللعن لا يثبت ولا يتحقق إلا بنص من القرآن أو السنة ، وأنه حكم يصدر من العليم الحكيم عز وجل ، ومن نبيه صلى الله عليه وآله الذي لاينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله ، ومن عترة النبي المعصومين الذين عندهم علم الكتاب عليهم السلام . أما من غيرهم فلا يتحقق اللعن إلا للملعونين الشرعيين ، أما لغيرهم فلا يكون أكثر من سب وشتم .
2- أن يجب الإيمان بآيات اللعن واعتقاد لعن الملعونين في القرآن ، ولعن من صدرت عليه لعنة من رسول الله صلى الله عليه وآله أو أحد المعصومين عليهم السلام .
3- يجب الإعتقاد بلعن كل من انطبق عليه نص عام في اللعن من آية أو حديث صحيح ، كظالمي آل محمد صلى الله عليه وآله
4- الإعتقاد بلعن الملعونين فريضة كما تقدم ، أما فعل اللعن ، أي لعن الملعونين فتجري عليه الأحكام الخمسة: الوجوب أو الإستحباب أو الحرمة أو الكراهة أو الإباحة ، حسب ما يطرأ عليه من عنوان ، ويتبع فتوى مرجع التقليد .
5- اللعن والبراءة قبل الولاية ومقدم عليها رتبة ، لأن الولاية لا تصح إلا بالبراءة ، وتخلية القلب تسبق التحلية في السلوك ، ولذا كانت البراءة في شهادة التوحيد قبل الولاية ، والنفي متقدماً على الإثبات: (أشهد ألا إله إلا الله) .
6- بناء على ما تقدم ، فإن لعن أعداء محمد وآل أفضل من الصلاة عليهم صلى الله عليه وآله ، لأنه مقدمة لولايتهم ومودتهم ، والدعاء لهم والصلاة عليهم .
7- من الأغلاط الشائعة تصور أن اللعن والبراءة يتنافى مع التسامح والحرية والمحبة للناس . مع أن معاني الخير لايمكن أن تتحقق في نفس الإنسان إلا ببغض الشر والأشرار والبراءة منهم ، واعتقاد أنهم ملعونون مطرودون من رحمة الله تعالى .
فالإنسان لاتتحقق إنسانيته إلا بتوازن قوة الحب والغضب في شخصيته ، وتوجيه كل منهما الى مجالها الصحيح ، فالذي يحب الخير لاتكون شخصيته متوازنة حتى يبغض الشر ، بل لاتحصل له الحصانة المطلوبة من الشر إلا ببغضه وبغض الأشرار
7_ السب و الفرق بينه و بين اللعن:
فقال ابن الأثير: (السبّ: الشتم)(1).
وكذلك قول الجوهري(2) والطريحي(3)، وابن منظور(4)، وكأنهما ـ أي السب والشتم ـ مترادفان، سوى ما ذكره الأصفهاني في المفردات هو: (أن السبّ: الشتم الوجيع)(5).
والشتم عند الطريحي هو: (أن تصف الشيء بما هو إزراء ونقص)(6) وعند ابن منظور: (قبيح الكلام وليس فيه قذف)(7).
وخلاصة الأمر أن اللّعن: إن كان من الله سبحانه فمعناه الطرد من الرحمة، وإن كان من الناس فمعناه الدعاء بالطرد، وبالتالي فهو شيء غير السب والشتم اللّذين يعنيان الكلام القبيح المستخدم في الذم والتنقيص
5- النهاية: 4 / 330.
6- الصحاح: 1 / 144 .
7- مجمع البحرين: 2/80.
8- لسان العرب: 1/455 .
9- المفردات: 225 .
10- مجمع البحرين: 6/98 .
11- لسان العرب: 12/318.