الحكم الأولي والحكم الثانوي
كثيراً ما يقول الفقهاء أن هذا الشيء او ذاك حرام بعنوان ثانوي او يجوز بعنوان ثانوي
او أن الحكم الأولي كذا الا أنه بعناون ثانوي يكون كذا ونحو ذلك من التعبيرات
والسؤال / ما المقصود من الحكم الأولي والحكم الثانوي
جواب ذلك / أنه تقدم أن الحكم الشرعي هو عبارة عن التشريع الإلهي ، وأن لكل حكم شرعي متعلَّق يتعلق به
من قبيل وجوب الصلاة فالوجوب حكم شرعي يمثل تشريعاً إلهياً ومتعلقه الصلاة
وحينئذ يقال إن الحكم الشرعي الذي هو عبارة عن التشريع الإلهي والذي لا بد له من متعلق على نوعين :
الأول / الحكم الشرعي الأولي : وهو عبارة عن الحكم الشرعي الثابت للشيء أي لمتعلقه بما هو هو من دون ملاحظة أي شيء آخر مما يمكن أن يطرأ على المتعلق من عوارض وحالات ، كوجوب الصلاة فهو ثابت للصلاة بما هي صلاة ، أي لو لحظنا الصلاة بما هي فعل من أفعال الإنسان فقط من دون أي لحاظ آخر من الخصائص والمميزات التي تعرض عليها فحكمها الوجوب وحينئذٍ الوجوب الثابت للصلاة يسمى حكماً أولياً لأنه ثابت لذات الصلاة بما هي الصلاة وبما هي فعل من الأفعال مع قطع النظر عن أي خصوصية أخرى .
وهكذا وجوب الحج والصوم وحرمة الربا وشرب الخمر وإباحة شرب الماء فكل ذلك أحكام أولية لأنها ثابتة لمتعلقاتها بما هي متعلقات بلا لحاظ أي خصوصية أخرى .
الثاني / الحكم الشرعي الثانوي : وهو عبارة عن الحكم الشرعي الثابت للشيء أي لمتعلقه بعد عروض ما يطرأ عليه من حالات وخصوصيات خارجية تقتضي تغيير حكمه الأولي ، أو قل هو الحكم الثابت للمتعلق بعد تعنّون المتعلق بعنوان آخر خارجي مضافاً الى عنوانه الأصلي
مثال ذلك : أكل الميتة فلو قصرنا النظر على أكل الميتة بما هو أكل من دون لحاظ أي عنوان آخر فهو حرام وهذا حكمه الشرعي الأولي ، ولكن إذا تعنّون الأكل واتصف بعنوان آخر غير عنوان أكل الميتة كعنوان الاضطرار الى أكل الميتة بحيث يكون اللحاظ على كلا العنوانين الأكل والاضطرار اليه فسوف يتبدل الحكم الأولي لأكل الميتة وهو الحرمة الى حكم آخر وهو الحلية والجواز بل قد يكون الوجوب كما إذا توقف حفظ النفس على الأكل ، وهذا الحكم الآخر يسمى بالحكم الثانوي ، كما قال تعالى ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) البقرة / 173
فالميتة والدم ولحم الخنزير بلحاظ ذواتها وعناوينها الأصلية محرمة لكن بلحاظ الاضطرار اليها فلا إثم في تناولها فتبدل الحكم الأولي بالحرمة الى حكم ثانوي بالجواز لمّا طرأ عليها عنوان خارجي غير العناوين الأصلية لمتعلقات الحرمة وهو عنوان الاضطرار .
فكأنما تبدل المتعلق فمتعلق الحرمة وهي الحكم الأولي أكل الميتة بما هو هو ، ومتعلق الحلية وهي الحكم الثانوي أكل الميتة بما هو مضطَرٌ إليه
وإن كان المتعلق واحداً حقيقة وهو أكل الميتة لكن له حالتان عدم الاضطرار والاضطرار اليه ففي إحداهما له حكم وهي الملحوظة للمولى في أصل الجعل ، وفي الأخرى له حكم مغاير
وإنما سمي ثانوياً لأنه يثبت للمتعلَّق في حالته الثانوية غير الأصلية او قل لأنه يثبت في حالة عرضية لا الحالة الطبيعية الاختيارية
أسباب الحكم الثانوي
هذا والعناوين الطارئة التي تكون سبباً للحكم الثانوي عديدة :
منها الاضطرار والضرورة / فالاضطرار سبب لتغير كثير من الأحكام الأولية حتى اشتهر ( الضرورات تبيح المحظورات ) أي هي سبب لتبدل الحظر والحرمة الى الإباحة فيكون للشيء المحظور والمحرم حكم ثانوي وهو الإباحة ، ولذا ورد ذكره في حديث الرفع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول : ( رفع عن أمتي ... وما اضطروا اليه ) أي رفع عنهم التكليف بالحرمة عند الاضطرار .
وأمثلته كثيرة منها ما تقدم ومنها جواز إسقاط الجنين مع الضرورة كما إذا توقف حفظ حياة الأم على ذلك مع أن الحكم الأولي هو حرمة الإجهاض ، وكجواز الإدماء او الحلق للمُحرِم للضرورة مع أن هذه الأمور من محرمات الإحرام .
ومنها الإكراه / فالإكراه عنوان طارئ يكون سبباً لتبدل الحكم الأولي الى حكم ثانوي وهو وارد في حديث الرفع أيضاً ، كما إذا أُكره على الإفطار في شهر رمضان فيجوز الإفطار وهذا الجواز هو حكم ثانوي للإفطار غير حكمه الأولي وهو الحرمة ثابت له عند عروض الإكراه ، ومثل من أكره على المكث في المكان المغصوب كالمحبوس فيجوز له التصرف في ذلك المكان والصلاة فيه والتيمم بترابه مع أن كل ذلك حرام لولا الإكراه .
ومنها النذر والعهد واليمين / فهي أسباب أيضاً للأحكام الثانوية فالشيء الجائز بالعنوان الأولي إذا وقع مورد النذر اوالعهد اوالقسم صاراً واجباً او حراماً كما إذا نذر التصدق او عاهد الله او أقسم به أن لا يفعل بعض المباحات وهكذا .
ومنها الضرر / فهو من أوضح أسباب تبدل الأحكام من الأولية الى الثانوية فكل واجب مع الضرر في فعله يصير جائزاً وربما حراماً إذا كان الضرر بالغاً ، وكل حرام مع الضرر في اجتنابه تسقط حرمته ويصير جائزاً وربما واجباً فصوم شهر رمضان واجب ولكن مع الضرر يجوز الإفطار واذا كان ضرراً بالغاً يصير حراماً ، والكذب والغيبة حكمهما الأولي الحرمة ولكن لدفع الضرر هما جائزان وربما وجبا كما إذا توقف عليهما حفظ مؤمن من الهلاك مثلاً .
ومنها العسر والحرج / فكل شيء حكمه الأولي الوجوب إذا كان في امتثاله يلزم العسر والحرج سقط وجوبه وتبدل حكمه الى حكم ثانوي هو الجواز ، وكذا كل شيء حكمه الأولي الحرمة إذا كان في امتثاله واجتنابه يلزم العسر والحرج سقطت حرمته وتبدل حكمه الأولي الى حكم ثانوي هو الجواز دفعاً للعسر والحرج ، كسقوط الطهارة المائية عند لزوم العسر والحرج وتبدل حكم الطهارة الى الترابية وكسقوط بعض أحكام الحج على النساء والضعفاء عند لزوم العسر والحرج وتغير أحكامها الأولية الى الثانوية كوجوب مباشرة الرمي وتبدله الى الاستنابة اذا كان في المباشرة عسر وحرج ، ومثل حرمة حلق اللحية فاذا استوجب امتثال الحرمة العسر والحرج جاز الحلق وهكذا .
ومنها التقية / فالوجوب والحرمة يسقطان مع التقية ويصير حكم متعلقهما الجواز وهو حكم ثانوي ثبت للمتعلق عند طرو عنوان خارجي وهو التقية ، كجواز السجود على ما لا يصح السجود عليه فهو حكم ثانوي ولولا التقية فالحكم الأولي عدم الجواز ووجوب السجود على ما يصح السجود عليه ، وقد يتحول الوجوب الى الحرمة او العكس بسبب التقية فالكذب حرام ولكن مع التقية يصير واجباً أحياناً كما إذا توقف حفظ نفس مؤمن عليه ، وإفطار آخر يوم من رمضان حرام ولكن مع التقية كما إذا أعلن الحاكم الجائر أنه الأول من شوال يصير جائزاً وربما واجباً إذا كان صيام ذلك اليوم مورداً للتقية .
ومنها العجز / فمع العجز تتغير بعض الأحكام الأولية الى أحكام ثانوية فكل واجب مع العجز يسقط وكذا المحرمات إذا عجز المكلف عن تركها أو عن ترك جزء منها جاز فعلها لاستحالة تكليف العاجز بالنهي ، والعجز عنوان ثانوي طارئ يكون سبباً لتغير الحكم الأولي الى حكم ثانوي ، فكفارة الظهار عتق رقبة ومع العجز تصير صيام شهرين متتابعين ومع العجز تكون إطعام ستين مسكيناً لأنها مرتبة ، ومباشرة الطواف والسعي واجب ولكن مع العجز يسقط الوجوب وتجب الاستعانة بالغير او الاستنابة .
ومنها المرض / كما قال تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) البقرة / 185 ، فالمرض سبب لسقوط حكم الصوم في شهر رمضان وهو الوجوب وتعلق حكم ثانوي وهو جواز الإفطار ، ومثل سقوط الطهارة المائية مع المرض ووجوب التيمم وهكذا .
ومنها السفر / كما في الآية السابقة حيث هو كالمرض من حيث وجوب الصوم ، فالسفر سبب لتبدل بعض الأحكام الأولية كالصوم والإتمام في الصلاة .
ومنها الانحصار / فهو سبب لتبدل الجواز الى الوجوب او بعض الأحكام الكفائية الى تعيينية كما إذا انحصرت الصناعات او المهن المهمة والضرورية في شخص .
ومنها عنوان المقدمية / فإنه عنوان طارئ موجب لتغير الحكم الأولي بالجواز الى الوجوب للشيء الذي يتوقف عليه الواجب او قل للشيء الذي يصير مقدمة لواجب ، بناء على الوجوب الشرعي لمقدمة الواجب .
ومنها التزاحم / فإنه موجب لتغير حكم المهم من الوجوب الى عدم الوجوب مراعاة للأهم فالواجب اذا زاحم واجباً أهم سقط وجوب المهم وتبدل الى عدم الوجوب بل الى الحرمة كوجوب الحج إذا زاحم ما هو أهم منه كالوجوب الأهم او الحرمة الأهم فحينئذٍ يتبدل حكم الحج الى الحرمة لأن فعله موجب لتفويت الأهم وإن كان لو عصى وحج فحجه صحيح .
ومنها الشرط / كما إذا اشترط فعل شيء او عدم فعله ضمن عقد فيجب الشيء المشروط فعله ويحرم الشيء المشروط تركه وهما حكما ثانويان لذلك الشيء بعد أن كان حكمه الأولي الإباحة فيجب الوفاء بالشرط لأن المؤمنين عند شروطهم .
ومنها الوصية / فقد يجب الشيء المباح بالوصية وهذا الوجوب حكم ثانوي تعلق بالموصى به عند طرو عنوان ثانوي عليه وهو الوصية او كونه موصى به كما اذا أوصى بالحج عنه من البلد .
ومنها الاستئجار والاستنابة / فهما سببان لوجوب ما لم يجب بالحكم الأولي كوجوب قضاء العبادات عن الميت لطرو عنوان ثانوي وهو الاستئجار عن الميت .
الى غير ذلك من موجبات تغير الأحكام الأولية وتبدل التكاليف الأساسية .
الفرق بين الحكم الأولي والحكم الثانوي
1. عرّف الحكم الأولي بأنه الحكم الشرعي المجعول للشيء أولاً وبالذات وبلحاظ عنوانه الذاتي لا بلحاظ ما يطرأ عليه من العناوين الثانوية والعوارض الأُخرى ، أما الحكم الثانوي فهو الحكم الشرعي المجعول للشيء بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خارجية تقتضي تغيير حكمه الأولي .
2. إن الحكم الأولي ثابت لجميع المكلفين المخاطبين به أما الحكم الثانوي فثابت لخصوص من عرضت عنده العناوين الثانوية فحرمة أكل الميتة ثابتة لجميع المكلفين أما جوازه فثابت لخصوص من اضطر إليه ، هكذا سقوط بعض التكاليف فهو مختص بخصوص من كان في مورد التقية او من يلزمه العسر والحرج او يتحقق عنده الضرر وهكذا .
3. إن ملاك الحكم الأولي يكون في نفسه متعلقه فالمصالح والمفاسد وراء الأحكام الأولية لازمة لنفس متعلقاتها ، أما ملاك الحكم الثانوي فهو في العناوين الطارئة فملاكات الأحكام الثانوية تكون في نفس التقية والاضطرار والضرر والعسر والحرج ، او قل تكون في المتعلق لكن لا بما هو ولذاته بل بما هو متعنون بالعنوان الطارئ .
4. إن الأحكام الثانوية حيث أنها منوطة بالعناوين الثانوية ففعليتها منوطة بالمكلف فهو الذي يشخص ما إذا كان مضطراً او في تقية او عسر او حرج ، أما فعلية الأحكام الأولية فتتبع تحقق موضوعاتها وشرائطها وتحدديها منوط بالفقيه فهو الذي يحدد ما هو موضوع هذا الحكم الشرعي الأولي او ذاك نعم تشخيصها الخارجي أيضاً منوط بالمكلف ففعلية الحكم الأولي للحج وهو الوجوب منوطة بتحقق الاستطاعة وتحديد ذلك من وظيفة الفقيه الا أن تشخيص تحقق الاستطاعة خارجة من وظيفة المكلف .
الى غير ذلك مما يمكن أن يذكر من فوارق