دائماً يا سيدي الكريم تجد التخبطات والتناقضات في عقيدة القوم
ففي تفسيرهم لآية التصدق بالخاتم ( الموالاة ) في قوله تعالى أنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا يقولون النصرة و حين يصلون الآية التي تليها يفسرون الولاية بالطاعة المطلقة !
هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع ، لتجتمع به الكلمة ، وتنفذ به أحكام الخليفة . ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم ، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه ، قال : إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك ، وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم ، وتناصفوا فيما بينهم ، وبذلوا الحق من أنفسهم ، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها ، وأقاموا الحدود على من وجبت عليه ، أجزأهم ذلك ، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماما يتولى ذلك . ودليلنا قول الله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة ، وقوله تعالى : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، وقال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض أي يجعل منهم خلفاء ، إلى غير ذلك من الآي .
وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين ، حتى قالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير ، فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك ، وقالوا لهم : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ، ورووا [ ص: 252 ] لهم الخبر في ذلك ، فرجعوا وأطاعوا لقريش . فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ، ولقال قائل : إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم ، فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك ، فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين ، والحمد لله رب العالمين .
.
الكتب » الجامع لأحكام القرآن » سورة البقرة »
قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب ، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع ، والله أعلم ، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف ، وقد نص عليه الشافعي .
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال : لا يشترط ، وقيل : بلى ويكفي شاهدان . وقال الجبائي : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر رضي الله عنه الأمر شورى بين ستة ، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ، ومعقود له وهو عثمان ، واستنبط [ ص: 222 ] وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .
ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على الصحيح ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض ، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وهل له أن يعزل نفسه ؟ فيه خلاف ، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك .
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان . وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، منهم إمام الحرمين ، وقالت الكرامية : يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة ؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف ، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين في ذلك ، قلت : وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب .
تفسير ابن كثير
الكتب » تفسير القرآن العظيم » تفسير سورة البقرة »
تفسير قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
وأكثر العلماء على أن وجوب الإمامة الكبرى بطريق الشرع كما دلت عليه الآية المتقدمة وأشباهها وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - ولأن الله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، كما قال تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) ، لأن قوله : ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) فيه إشارة إلى إعمال السيف عند الإباء بعد إقامة الحجة .
وقالت الإمامية : إن الإمامة واجبة بالعقل لا بالشرع .
وعن الحسن البصري والجاحظ والبلخي : أنها تجب بالعقل والشرع معا ، واعلم أنما تتقوله الإمامية من المفتريات على أبي بكر وعمر وأمثالهم من الصحابة ، وما تتقوله في الاثني عشر إماما ، وفي الإمام المنتظر المعصوم ، ونحو ذلك من خرافاتهم ، وأكاذيبهم الباطلة كله باطل لا أصل له .
وإذا أردت الوقوف على تحقيق ذلك : فعليك بكتاب " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية " للعلامة الشيخ تقي الدين أبي العباس بن تيمية ، فإنه جاء فيه بما لا مزيد عليه من الأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة على إبطال جميع تلك الخرافات المختلقة ، فإذا حققت وجوب نصب الإمام الأعظم على المسلمين ، فاعلم أن الإمامة تنعقد له بأحد أمور : الأول : ما لو نص صلى الله عليه وسلم على أن فلانا هو الإمام فإنها تنعقد له بذلك .
وقال بعض العلماء : إن إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - من هذا القبيل ; لأن تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - في إمامة الصلاة وهي أهم شيء ، فيه الإشارة إلى التقديم للإمامة الكبرى وهو ظاهر . [ ص: 23 ] الثاني : هو اتفاق أهل الحل والعقد على بيعته .
وقال بعض العلماء : إن إمامة أبي بكر منه ; لإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار عليها بعد الخلاف ، ولا عبرة بعدم رضى بعضهم ، كما وقع من سعد بن عبادة - رضي الله عنه - من عدم قبوله بيعة أبي بكر رضي الله عنه .
الثالث : أن يعهد إليه الخليفة الذي قبله ، كما وقع من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما .
ومن هذا القبيل جعل عمر - رضي الله عنه - الخلافة شورى بين ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنهم راض .
الرابع : أن يتغلب على الناس بسيفه ، وينزع الخلافة بالقوة حتى يستتب له الأمر ، وتدين له الناس لما في الخروج عليه حينئذ من شق عصا المسلمين ، وإراقة دمائهم .
قال بعض العلماء : ومن هذا القبيل قيام عبد الملك بن مروان على عبد الله بن الزبير ، وقتله إياه في مكة على يد الحجاج بن يوسف ، فاستتب الأمر له . كما قاله ابن قدامة في " المغني " .
ومن العلماء من يقول : تنعقد له الإمامة ببيعة واحد ، وجعلوا منه مبايعة عمر لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة ، ومال إليه القرطبي . وحكى عليه إمام الحرمين الإجماع وقيل : ببيعة أربعة ، وقيل غير ذلك .
هذا ملخص كلام العلماء فيما تنعقد به الإمامة الكبرى . ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين أبي العباس بن تيمية في " المنهاج " أنها إنما تنعقد بمبايعة من تقوى به شوكته ، ويقدر به على تنفيذ أحكام الإمامة ; لأن من لا قدرة له على ذلك كآحاد الناس ليس بإمام .
الكتب » أضواء البيان » سورة البقرة »
قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة
اعلم أن الإمام الأعظم تشترط فيه شروط : الأول : أن يكون قرشيا ، وقريش أولاد فهر بن مالك ، وقيل : أولاد النضر بن كنانة . فالفهري قرشي بلا نزاع ، ومن كان من أولاد مالك بن النضر أو أولاد النضر بن كنانة ؛ فيه خلاف هل هو قرشي أو لا ؟ وما كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع
فصل يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ; بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها . فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم } . رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة .
وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم }
فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع .
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة . وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم . وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ; ولهذا روي : { أن السلطان ظل الله في الأرض } .
[ ص: 391 ] ويقال { ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان } . والتجربة تبين ذلك .
ولهذا كان السلف - كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما -
يقولون : لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله يرضى لكم ثلاثا : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم } . رواه مسلم . وقال : { ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمور ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم } . رواه أهل السنن . وفي الصحيح عنه أنه قال : { الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم } .
فالواجب اتخاذ الأمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله ; فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات . وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها . وقد روى كعب بن مالك { عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } . قال الترمذي حديث حسن صحيح . فأخبر أن حرص المرء على المال والرياسة [ ص: 392 ] يفسد دينه مثل أو أكثر من فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم .
وقد أخبر الله تعالى عن الذي يؤتى كتابه بشماله أنه يقول : { ما أغنى عني ماليه } { هلك عني سلطانيه } .
وغاية مريد الرياسة أن يكون كفرعون وجامع المال أن يكون كقارون وقد بين الله تعالى في كتابه حال فرعون وقارون فقال تعالى : { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق } وقال تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } .
الكتب » مجموع فتاوى ابن تيمية » الفقه » الجهاد »
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية »
كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه