اقتباس :
|
كلام ابن عباس رضي الله عنهما من انه ما بغت إمرأة نبي قط و إنما كانت الخيانة في الدين .
|
يا حلاوة السند الذي تعتمد عليه!!
هذا الرجل الذي يروي الحديث الذي صدرت به عنوان الموضوع هو مذموم في الروايات ومنعوت بالخائن والخاسر والحائر والمدّعي والمنتحل وغير ذلك.
ومن تلكم الروايات ما عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر الباقر (صلوات الله عليه) أنه قال:
"أتى رجل أبي (عليه السلام) فقال: إن فلانا - يعني عبد الله بن العباس - يزعم أنه يعلم كل آية نزلت في القرآن في أي يوم نزلت وفيم نزلت!
قال: فسله في من نزلت: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا)؟ وفيم نزلت: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم)؟ وفيم نزلت: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)؟ فأتاه الرجل، وقال: وددت الذي أمرك بهذا واجهني به فاسائله! ولكن سله ما العرش ومتى خلق وكيف هو؟
فانصرف الرجل إلى أبي فقال له ما قال، فقال: وهل أجابك في الآيات؟
قال: لا!
قال: ولكني أجيبك فيها بنور وعلم غير المدعى والمنتحل، أما الأوليان فنزلتا في أبيه، وأما الأخيرة فنزلت في أبي وفينا، وذكر الرباط الذي أمرنا به بعد وسيكون ذلك من نسلنا المرابط ومن نسله المرابط.
فأما ما سألك عنه فما العرش؟
فإن الله عز وجل جعله أرباعا لم يخلق قبله شيئا إلا ثلاثة أشياء؛ الهواء والقلم والنور، ثم خلقه من ألوان مختلفة من ذلك النور الأخضر الذي منه اخضرت الخضرة، ومن نور أصفر اصفرت منه الصفرة، ونور أحمر احمرت منه الحمرة، ونور أبيض وهو نور الأنوار، ومنه ضوء النهار، ثم جعله سبعين ألف طبق غلظ كل طبق كأول العرش إلى أسفل السافلين، وليس من ذلك طبق إلا يسبح بحمده ويقدسه بأصوات مختلفة والسنة غير مشتبهة، ولو سمع واحدا منها شئ مما تحته لا نهدم الجبال والمدائن والحصون ولخسف البحار ولهلك ما دونه. له ثمانية أركان ويحمل كل ركن منها من الملائكة ما لا يحصى عددهم إلا الله يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولو أحس شئ مما فوقه ما قام لذلك طرفة عين، بينه وبين الاحساس الجبروت والكبرياء والعظمة والقدس والرحمة ثم (القلم) العلم، وليس وراء هذا مقال. لقد طمع الخائن في غير مطمع! أما إن في صلبه وديعة قد ذرئت لنار جهنم سيخرجون أقواما من دين الله أفواجا كما دخلوا فيه، وستصبغ الارض بدماء الفراخ من فراخ آل محمد، تنهض تلك الفراخ في غير وقت وتطلب غير ما تدرك، ويرابط الذين آمنوا ويصبرون لما يرون حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين".
(انظر تفسير القمي ج2 ص23
والاختصاص ص71
والتوحيد للصدوق ص238
وكذا راجع كل تراجم الرجال ومنها رجال الكشي ج1 ص273
وتفسير العياشي ج2 ص305
وعنهم نقل العلامة المجلسي في البحار ج58 ص24،
واختلاف النعوت من اختلاف ألفاظ الرواية).
والمعنى المستفاد من هذه الرواية، أن ابن عباس ادّعى منزلة فوق منزلته وطمع أن يكون إماما يستغني الناس بعلمه دون الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم)، وهو ليس سوى مدّعٍ زاعم، ومنتحل لولاية أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، وخائن خاسر أو حائر.
وقد ناقش بعض الرجاليين في سند هذه الرواية، وضعّفوها من جهة بعض الرواة أملا في إسقاطها، والحال أن بعض من ضعّفوه – كإبراهيم بن عمر اليماني – موثق عند آخرين كالنجاشي وغيره.
كما أن الرواية مروية بطرق مختلفة تنتهي إلى الباقر (صلوات الله عليه)، وليس في رواتها مذموم، بل مجهول أو مسكوت عنه أو ضعيف، وتعدد الأسناد يجبرها مع وجود النظائر، ويُطمأن إلى صدورها عن المعصوم (عليه السلام)، ولذا تجد المحقق الداماد يقول عنها:
"وبالجملة هذا الحديث الشريف طريقه صحيح على الأصح، ومسائله الغامضة من الحكمة منطوية في متنه".
(اختيار معرفة الرجال – أو رجال الكشي - ج1 ص274).
لذا يا أخي النجف الأكبر العزيز فإن إسقاط روايات المعصومين في زنا عائشة بسبب ضعف السند هو عمل مردود ويعود إلى غايات خاصة لأجل أرضاء المخالفين ، فالروايات لا يترتّب عليها حكم تكليفي خاص أو عام،وهي غير ملزَمة وإسقاطها بعيد عما انتهى إليه الرأي العلمي في الاستنتاج التاريخي الذي ينبني على حصول الاطمئنان بالقرائن والشواهد التاريخية أكثر، إلا من باب الترجيح حال التعارض بلا مرجّح أوّلي كقول معصوم، ولذا نناقش ههنا السند لحصول هذا التعارض.
ومن روايات ذمّ (ابن العباس) راوي رواية عنوان هذا الموضوع
فأيضا ما رواه الشيخ الكليني (رحمه الله) عن الحسن بن عباس بن حريش، عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، قال:
"بينا أبي – الباقر عليه السلام - جالس وعنده نفر إذ استضحك حتى اغرورقت عيناه دموعا، ثم قال: هل تدرون ما أضحكني؟
فقالوا: لا، قال: زعم ابن عباس أنه من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا!
فقلت له: هل رأيت الملائكة يابن عباس تخبرك بولائها لك في الدنيا والآخرة مع الأمن من الخوف والحزن؟
فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول: (إنما المؤمنون إخوة) وقد دخل في هذا جميع الأمة!
فاستضحكت! ثم قلت: صدقت يا ابن عباس أنشدك الله هل في حكم الله جل ذكره اختلاف؟
فقال: لا،
فقلت: ما ترى في رجل ضرب رجلا أصابعه بالسيف حتى سقطت ثم ذهب وأتى رجل آخر فأطار كفه فأتى به إليك وأنت قاض؛ كيف أنت صانع؟
قال: أقول لهذا القاطع: أعطه دية كفه وأقول لهذا المقطوع: صالحه على ما شئت وابعث به إلى ذوي عدل!
قلت: جاء الاختلاف في حكم الله عز ذكره ونقضت القول الأول! أبى الله عز ذكره أن يحدث في خلقة شيئا من الحدود وليس تفسيره في الأرض، اقطع قاطع الكف أصلا ثم أعطه دية الأصابع، هكذا حكم الله ليلة تنزل فيها أمره، إن جحدتها بعدما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأدخلك الله النار كما أعمى بصرك يوم جحدتها علي بن ابي طالب!
قال: فلذلك عَمِيَ بصري! وما علمك بذلك فوالله إن عمي بصري إلا من صفقة جناح الملك!
ثم تركته يومه ذلك لسخافة عقله، ثم لقيته فقلت: يا بن عباس ما تكلمت بصدق بمثل أمس، قال لك علي بن أبي طالب: إن ليلة القدر في كل سنة وأنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة وأن لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت: من هم؟
فقال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدَّثون،
فقلت: لا أراها كانت إلا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)! فتبدّى لك الملك الذي يحدثه،
فقال: كذبت يا عبد الله رأت عيناي الذي حدثك به علي (عليه السلام) ولم تره عيناه ولكن وعي قلبه ووقر في سمعه، ثم صفقك بجناحه فعميت!
فقال ابن عباس: ما اختلفنا في شيء فحكمه إلى الله تعالى!
فقلت له: فهل حكم الله في حكم من حكمه بأمرين؟
قال: لا، قلت: ههنا هلكت وأهلكت"!
(الكافي ج1 ص247).
فهنا ترى كيف أن ابن عباس زعم أنه من المستقيمين والإمام الباقر (صلوات الله عليه) يثبت العكس، فيبيّن جهله ويصفه بسخافة العقل ويكشف أن ملكا من الملائكة أعماه يوم ردّ على المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وأنكر نزول الأوامر الإلهية على أهل البيت في ليلة القدر بعد مضي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم ينبئه الإمام بأنه هالك في النار، وسيهلك معه خلقا أيضا، ولهذا تجد العامة قد أخذوا منه كثيرا حتى أسموه (حبر الأمة) وتركوا أهل البيت صلوات الله عليهم، وكل من أخذ العلم من غير أهل البيت هلك.
وههنا تمايز ينبغي أن تكون ملتفتا له، بين خط أهل البيت (عليهم السلام) وخط ابن عباس وأشباهه – كالحسن البصري – الذين طالما ادّعوا موالاة أهل البيت ليصعدوا في الأمة.
وقد ناقش بعض الرجاليين في سند هذه الرواية أيضا من جهة تضعيف الحسن بن العباس بن حريش مع أن الراوي ليس بمتّهم في شيء، ومع ذا نقول أنها مشمولة بالاعتبار لورودها في الكافي الشريف الذي هو عندنا الأصل في رواياته الصحة لمدحه وتوثيقه الإجمالي من إمام العصر (صلوات الله عليه) إلا أن يقوم الدليل القطعي القوي على طرح بعضها، ويبقى المطروح أيضا تحت إمكان التوجيه والحمل لردّ الاعتبار.
وأما محاولة بعضهم إسقاط هذه الرواية من باب أن الباقر (صلوات الله عليه) لم يكن عمره آنذاك يتجاوز الحادية عشرة فكيف يتخاطب وابن عباس المسن ويجتمع إليه الناس والحال أنه لم يكن إلا صغير السن حينها وقبل إمامته؟
وهذه المحاولة واهية إذ كيف خفي على المحاول أن الأئمة المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) كان الناس يجتمعون إليهم والمسنّون يختلفون عليهم وهم في أقل من هذا السن كالجواد (صلوات الله عليه) في الثامنة؟! فالعمر بالنسبة إلى المعصومين لم يكن يوما من الأيام بحاجب الناس عنهم، بل الجميع كان يتعامل معهم على أنهم كبار بل عمالقة لا أطفال أو صبيان – معاذ الله – كما أن التاريخ حدّثنا عن اختلاف بعض الناس ومحاورات بعض الأئمة مع رموز المخالفين قبل امتلاكهم زمام الإمامة – كما وقع بين الكاظم (عليه السلام) وأبي حنيفة (لعنه الله) والكاظم كان حينها صغيرا أيضا وقد أبهره بعلمه - وعليه فلا يستبعد صدور هذا الحديث سيما وأنه من جنس ذلك الحديث إذ الغرض فيه تبيان علم الإمام – ولو كان صغيرا وقبل إمامته – في مقابل علم غير الإمام ولو كان كهلا أو شيخا مسنّا. كما أنه لا مانع من التحقيق في أشباه هذا الحديث فلعلّ الغلط وقع من النسّاخ وكان المقصود بلفظة (أبي) السجّاد لا الباقر صلوات الله عليهما.
وردت روايات أخرى في ذمّه منها رواية (الجراد) التي يقول فيها الحسن (صلوات الله عليه) لابن عباس:
"أما والله لولا ما نعلم لأعلمتك عاقبة أمرك ما هو، وستعلمه، ثم إنك بقولك هذا مستنقص في بدنك، ويكون الجرموز من ولدك، ولو أذن لي في القول لقلت ما لو سمع عامة هذا الخلق لجحدوه وأنكروه".
(اختيار معرفة الرجال – أو رجال الكشي – ج1 ص276).
والجرموز على الظاهر هو أحد طغاة بني العباس، وفي الجزء الأخير من الرواية ما يدلّ على تعاظم شعبيته في أوساط المخالفين حتى أنه لو قال الإمام الحسن (صلوات الله عليه) فيه القول الحق وعرّفهم حقيقته لجحدوا قوله وأنكروه.
وفي هذا مزيد دلالة على أن الرجل إنما هو صاحبهم لا صاحبنا، وعلى هذا تدل السيرة ومجريات التاريخ.
أما سرقته لبيت مال البصرة عندما كان واليا عليها بأمر أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وهروبه بالمال إلى الحجاز فشهير ومعروف، فقد نقل التاريخ لنا كتاب أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) الذي عنّفه وتوعّده فيه بالعذاب العظيم من الله تعالى.
وفيه: "من عبد الله علي بن أبي طالب إلى عبد الله بن عباس أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي، ولم يكن أحد من أهل بيتي في نفسي أوثق منك لمواساتي ومؤازرتي وأداء الامانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو عليه قد حرب، وأمانة الناس قد عزت، وهذه الأمور قد فشت، قلّبت لابن عمك ظهر المجن، وفارقته مع المفارقين، وخذلته أسوأ خذلان الخاذلين، فكأنك لم تكن تريد الله بجهادك، وكأنك لم تكن على بينة من ربك، وكأنك إنما كنت تكيد أمة محمد (صلى الله عليه وآله) على دنياهم، وتنوي غرّتهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة أمة محمد أسرعت الوثبة وعجّلت العدوة، فاختطفت ما قدرت عليه اختطاف الذئب الازل دامية المعزى الكسيرة.
كأنك - لا أبا لك - إنما جررت إلى أهلك تراثك من أبيك وأمك!
سبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟! أو ما تخاف من سوء الحساب؟!
أو ما يكبر عليك أن تشتري الإماء وتنكح النساء بأموال الأرامل والمهاجرين الذين أفاء الله عليهم هذه البلاد؟!
فاتّقِ الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فإن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرنَّ الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار!
ووالله لو أن حسنا وحسينا فعلا مثل الذي فعلت لما كانت لهما عندي في ذلك هوادة، ولا لواحد منهما عندي فيه رخصة، حتى آخذ الحق وأزيح الجور عن مظلومها، والسلام".
فكتب إليه عبد الله بن عباس: "أما بعد، فقد أتاني كتابك تعظم علي إصابة المال الذي أخذته من بيت مال البصرة ولعمري إن لي في بيت مال الله أكثر مما أخذت! والسلام"!
فكتب إليه أمير المؤمنين صلوات الله عليه: "أما بعد، فالعجب كل العجب من تزيين نفسك أن لك في بيت مال الله أكثر مما أخذت وأكثر مما لرجل من المسلمين!
فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل، وادعاؤك مالا يكون ينجيك من الإثم، ويحل لك ما حرم الله عليك.
عمرك الله إنك لأنت العبد المهتدي إذن!
فقد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا وضربت بها عطنا تشتري مولدات مكة والطائف، تختارهن على عينك، وتعطي فيهن مال غيرك!
واني لأقسم بالله ربي وربك، رب العزة، ما يسرّني أن ما أخذت من أموالهم لي حلال أدعه لعقبي ميراثا، فلا غرو أشد باغتباطك تأكله رويدا رويدا، فكأن قد بلغت المدى وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة، ويتمنى المضيّع الرجعة، ولات حين مناص، والسلام".
فكتب إليه عبد الله بن عباس: "أما بعد فقد أكثرت عليّ، فوالله لئن ألقى الله بجميع ما في الأرض من ذهبها وعقيانها أحبّ إلي من أن ألقى الله بدم رجل مسلم"!
(راجع نهج البلاغة ج3 ص65
واختيار معرفة الرجال – أو رجال الكشي – ج1 ص280
وشرح النهج لابن أبي الحديد ج16 ص168 وغيرهما).
وقد رُوي أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) عندما بلغته سرقته صعد المنبر وبكى وقال:
"هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله في علمه وقدره يفعل مثل هذا!
فكيف يؤمن من كان دونه؟!
اللهم إني قد مللتهم فأرحني منهم، واقبضني إليك غير عاجز ولا ملول".
(المصدر السابق).
وقد حاول بعضهم التشكيك في هذا الخبر من جهة أنه مروي عن طريق الشعبي المنحرف، غير أن الخبر يُطمأن لصدوره لاشتهاره حتى أدرجه الشريف الرضي في النهج، وكونه وارداً من طرق أهل الخلاف مع جلالة قدر ابن عباس عندهم يساعد على هذا الاطمئنان، والمحدّثون من أصحابنا لم يشككوا فيه لاشتهاره، ولذا تراهم عبّروا عن التوقّف فيه والحيرة ولم يقدروا على دفعه لأن من أوضح الواضحات أن الكتاب يفصح عن لسان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لا لسان غيره.
وحتى المحدّث الخبير الشيخ عباس القمي (رحمه الله) رغم أنه اعتبر ابن عبّاس من جملة أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا أنه عبّر عن حيرته وتوقّفه في شأن سرقته لبيت مال البصرة، إذ قال: "أما قصة حمله المال من بيت مال البصرة وذهابه إلى مكة، وكتابة أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه بهذا الخصوص، وجوابه له، وبهذه العبارات الجسورة، فأمر حيّر المحقّقين".
(منتهى الآمال ج1 ص288).
وقد حاول بعضهم أيضا ادعاء أن هذا الكتاب من الأمير (عليه السلام) إنما وجهه إلى عبيد الله بن عباس، لا عبد الله، وهو قول غير دقيق لأن عبيد الله إنما كان على اليمن واليا لا البصرة.
فهذه جملة من روايات ذمّه وإظهار فساده وانحرافه بل وارتداده وهلاكه.
ونحن إنما نتمسّك بالطائفة الأولى من الروايات حتى وإن لم تعدّ عندهم صحيحة سندا، ونغض النظر في أسنادها اعتمادا على ما قرّروه من الاطمئنان بصدورها إجمالا عن المعصومين بعد الاستفاضة، وهذا متحقق فيها.
وأما ترجيحنا لها على الطائفة الثانية فمن واقع ملاحظة السيرة ومجريات التاريخ حيث لا نجد لابن عباس موقعا حقيقيا في التشيع بل نرى موقعه عند أهل الخلاف أعظم، وخدمته لابن الخطّاب (لعنة الله عليه) حتى كان مستشاره الأوّل تثير الريب أكثر، ولا يُقال أن ذلك كان كأمر سلمان (عليه السلام) في قبوله الاستعمال فإن الفرْق بيّنٌ بين المثاليْن، فسلمان كان مجازا من الأمير (عليه السلام) على الأظهر وقد خدم الإسلام لا ابن الخطاب، في حين أن ابن عباس لم يُجَز ونراه قد أضحى له خير ظهير ومعاون يخدمه ويمتدحه ويترحّم عليه. هذا ولا نجد له ذكرا في الدفاع عن الزهراء البتول (صلوات الله عليها) يوم أن تعرّضت للهجوم، وحتى إن قيل أنه كان يومذاك في مقتبل الفتوّة فكيف يُرجى منه مثل ذلك؟
فنقول: وما كان يمنعه أن يصنع كما صنع أسامة بن زيد وهو يقاربه في العمر؟
ولو أدرنا الوجه عن ذلك سألنا عن سبب كثرة رواياته عن طرق أهل الخلاف ومحدوديتها عن طرقنا، وهذا وحده كافٍ لتبيان موقعه وعلى أي الطرفين هو محسوب، إذ لو كان من رجال التشيّع حقا لطغت رواياته من طرقنا على التي من طرقهم، إلا أن الواقع يكشف عن أنه من رجالهم وأصحابهم، ويزيدك يقينا في هذا أن الروايات المادحة له عندنا والتي عرفت أنها ضعيفة، إنما هي واردة من طرقهم وفي مصادرهم، كزعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا له بالعلم ومعرفة التأويل وما أشبه ذلك، فكون هذه الروايات واردة من طرقهم وفي مصادرهم يكفي في طرحها مقابل روايات الذم الواردة من طرقنا وفي مصادرنا بملاك جلالة قدره عندهم، وذلك لما قُرر في محلّه في علم الرواية والدراية أن من مسوّغات الطرح وجود النظير في كتب أهل الخلاف فيكون الأمر مشمولا بقاعدة "دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم" كما ورد عن المعصوم عليه السلام.
ويزيدك أنه لم يطلق عليه أحد من الأئمة (صلوات الله عليه) ألقابه المشتهرة عند أهل الخلاف كحبر الأمة أو ترجمان الوحي وما أشبه، بل ليس له أدنى مقام عندهم ولاحظ في هذا الشأن روايات الأئمة اللاحقين (صلوات الله عليهم) وقارنها مثلا بما تحدّثوا به عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضوان الله عليه) لتقف على الفرق.
وبالمثال نفسه لاحظ أنه لم يرد إلينا خبر تردّده على الأئمة المعصومين كالحسن والحسين والسجّاد والباقر (صلوات الله عليهم) بالمستوى الذي نرى فيه جابرا يتردّد عليهم، وكلاهما كانا مكفوفيْن، فما بال جابر يصل في خدمة السجّاد والباقر (صلوات الله عليهما) ويتمسح بأعتابهما طلبا للنجاة ورغبة في العلم مع قدمه وصحبته، ثم هو يتحمّل المشقة لزيارة قبر أبي عبد الله (صلوات الله عليه) في كربلاء، ويحدّث عن الأئمة بما لا يسع المرء إلا اعتباره من أعلام التشيّع، فيما ابن عباس غائب عن ذلك كلّه وكأنه يرى نفسه أعظم شأنا من الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) فيفسّر القرآن برأيه ويفتي بهواه ويدخل الأمة في مهالك الظنون؟!
أما عن القول بأنه قد لازم أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وكان يختلف عليه طلبا للعلم، فلا شأن له بما نحن بصدده إذ إن جمعا عظيما كان يأخذ من الأمير ومن الأئمة (صلوات الله عليهم) ما ينفعهم وحتى الحسن البصري كان يأخذ ما يساعده على ترويج نفسه واكتساب الشهرة حتى وُصف على لسان الإمام (عليه السلام) بأنه سامريّ هذه الأمة، وحتى أبو حنيفة كان يصنع ذلك، فمن هم من هذا الصنف تراهم يخالطون أهل بيت الوحي (عليهم السلام) للاستفادة والتأكّل ليس إلا، وليكتسبوا شيئا من العلم يكون لهم زادا في باطلهم عندما يضيفون إليه آراءهم وظنونهم ويكيّفونه بأهوائهم.
فمن هذه القرائن وغيرها مما يثبت أن الرجل إنما كان أقرب إليهم ولم نرَ في تاريخه انسجاما مع رجال التشيّع وأعلامه في التواصي والتواصل والمخالطة كما لمسناه في ما بينهم، وحيث قد بان لنا أنه في طريق يغاير الطريق العام لأهل البيت (صلوات الله عليهم) فإننا نرجّح روايات الذم ونجدها أقرب إلى العقل وتصديق الواقع.
وعلى فرض التنزّل فإن التعارض وحده كاف لإعمال التساقط، فلا تكون له جلالة ويُتوقّف على الأقل في أمره.
وعلينا أن نكون نبهاء في أن اشتباه بعض الأعلام في مدحه وتوثيقه وتجليله إنما جاء مما ورد من بعض مواقفه التي يُستشف منها نصرة أهل البيت (عليهم السلام) كموقفه مع عائشة بعد حرب الجمل، وموقفه معها يوم جنازة الحسن (عليه صلوات الله) وبعض مواقفه مع معاوية وما أشبه، لكننا إذ عرفنا أنه من المتأكّلين فليس بالوسع استبعاد أنه إنما صنعها تزلّفا لأهل البيت (عليهم السلام) حتى ينال منهم ما ينفعه في الدنيا وما يتزيّن به في أعين الناس.
وحتى لو سلّمنا أن مواقفه تلك كانت صادقة فلا يبعد أن يكون حاله حال الزبير (لعنه الله) الذي ساءت عاقبته بعد الاستقامة وبعد أن كان "سيفا طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله" كما ورد. فإن قيل أن الأمير (عليه السلام) اختاره بدوا لمناظرة عمرو بن العاص (عليهما اللعنة) في التحكيم بعد صفّين وهو ما يشهد على جلالته ووثاقته؛
قلنا: إن ترتيب هذا على ذاك غير صحيح وإلا لكان اختيار الحسن (صلوات الله عليه) لعبيد الله بن عباس وتأميره إياه على الجيش شاهدا على جلالته ووثقاته، ولا يقول بهذا قائل.
وإنما كان اختيار الأمير (عليه السلام) لابن عباس للمناظرة لما رآه فيه من فطنة وكياسة في كسر الخصم، والاستعانة بذوي الفطنة حتى وإن لم يكونوا من أهل الإيمان الخالص جائز من أجل تحقيق المصلحة الإسلامية العليا، ولذا استعان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعضهم مع الإجماع على كونهم منافقين أو منحرفين.
وابن عباس مشمول بحديث الارتداد الشهير الذي فيه أن الناس بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ارتدّوا وكفروا إلا ثلاثة ليس ابن عباس من بينهم.
فعن أبي جعفر الباقر (صلوات الله عليه) أنه قال: "ارتدّ الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا ثلاثة نفر؛ المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي. ثم إن الناس عرفوا ولحقوا بعدُ".
(الاختصاص للمفيد ص6).
وملاحظة تاريخ الرجل في ما بعد توجب استبعاده عن المعرفة واللحوق، فإنما كان يلتصق بالسلطان لينال منه نصيبا من الدنيا، ولمّا أن عادت الخلافة إلى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) التصق به أيضا، حال حال الخوارج الذين عظّموا أبا بكر وعمر ولما أصبحت السلطنة بيد علي (صلوات الله عليه) والوه ثم لما وجدوه يناقض تطلعاتهم عادوه.
فهم ليسوا إلا متأكّلين.
فإن قيل أن له مواقف وملاسنات مع عمر مما ينبئ عن اعتقاده بالولاية وإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) وأحقيّته بالخلافة؛ قلنا: إن عمر نفسه وفي نفس تلك المحاورات أو الملاسنات كان يعترف بحقّ الأمير ولا ينكره، بل وحتى أبو سفيان وأمثاله فكيف يدفع الحق ابن عبّاس مع أنه ابن عمّه ومن أوائل المستفيدين من إثباته؟!
وهذا الإقرار منه بمجرّده ليس كافيا لتعديله أو توثيقه أو مدح شأنه، فلطالما أقرّ أعداء أهل البيت بحقّهم حتى كأمثال معاوية.
أضف إلى هذا أن العصبية الجاهلية كانت آنذاك سائدة لا تزال في المجتمع الإسلامي، فعندما يحين موعد الانتصار للقوم والعشيرة كان عرق التعصب ينبض، وإنما كان أمثال ابن عباس من بني هاشم يجرّونها إلى أنفسهم كما رفع بنو العباس أنفسهم في ما بعد شعار الولاية لآل محمد وآل علي (صلوات الله عليهم) وإنما كانوا يجرّونها إلى أنفسهم.
والحصيلة أنه بملاحظة هذه السيرة وهذا التاريخ، وبالتمعّن في القرائن والشواهد، نستبعد تماما كونه من الأجلاء اعتمادا على روايات غير صحيحة ومنحولة وأصلها من طريق أهل الخلاف، ونأخذ بما صحّ معنى واستفاض رواية في ذمّه على لسان أهل بيت الوحي (صلوات الله عليهم) فيكون ابن عباس منحرفا وخائنا.
لقد قمت بإسقاط روايات زنا عائشة عن طريق الطعن في السند وها نحن نرد عليك فيما استدللت به بإسقاط روايتك