1 ـ أنا لا نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يلطم صدره على ابنه إبراهيم لما توفي ، وكذلك لا نعلم بأن أمير المؤمنين لم يلطم صدره على سيدة نساء العالمين عليها السلام ، وعدم رواية شيء من ذلك لا يعني عدم وقوعه ، فعلى الخصم أن يثبت بدليل صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين لم يفعلا ذلك .
2 ـ أنا لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وآله لم يلطم عند المصائب ، فإن عدم صدور هذا الفعل منه لا يدل على حرمته؛ لأن الترك لا يدل على الحرمة بأي نحو من أنحاء الدلالة ، وإنما أقصى ما يدل عليه هو أن الفعل المتروك ليس بواجب .
وكم من أمر لا يشك هذا المخالف في رجحانه ، بل ربما حرص على فعله ، وشدد في النكير على من يخالفه ، مع أن النبي صلى الله عليه وآله لم يفعله ، ولم يفعله أحد من صحابته ، مثل : إلزام الناس بإقفال دكاكينهم في أوقات الصلوات ، وتوظيف رجال يقفون أمام شباك قبر النبي صلى الله عليه وآله ، لمنع الناس من لمسه أو التبرك به . فكيف صار هذا العمل راجحاً مع أن النبي صلى الله عليه وآله لم يفعله ؟!
مع أن الشيعة لم يذهبوا إلى وجوب اللطم ليرد إشكال الخصم ، وإنما ذهبوا إلى جوازه في مصائب أهل البيت عليهم السلام ، والنبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين ، وغيرهما من أئمة أهل البيت عليهم السلام قد يتركون الجائز ، ولا سيما إذا اقتضت المصلحة ذلك .
3 ـ أن الشيعة لا يقولون بجواز اللطم على كل ميت مؤمن صالح ، وإنما يقولون بجوازه في مصائب أهل البيت عليهم السلام بالخصوص ، ولو سلمنا بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يلطم على ابنه إبراهيم فهذا لا يدل على عدم جواز اللطم على غيره من أئمة العترة النبوية الطاهرة .
4 ـ أن اللطم بالنحو الذي يفعله الشيعة في هذا العصر لا يدل على الجزع عند المصائب ، أو على الاعتراض على ما قضاه الله سبحانه وتعالى وحتمه ، وإنما صار هذا اللطم شكلاً من أشكال التعبير عن محبة أهل البيت عليهم السلام ، وموالاتهم ، والحزن على مصابهم ، شجب ما وقع عليهم من الظلم من قبل أعدائهم ، كما صار الإضراب عن الطعام ، والاعتصام في الجامعات وغيرهما طريقة للتعبير عن قضية من قضايا الساعة ، ومن الواضح أن التعبير بهذا النحو لم يكن متعارفاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله ولا في زمان الأئمة الأطهار عليهم السلام ليرد إشكال المخالف بأن الأئمة عليهم السلام لم يلطموا على أحد من موتاهم .
5 ـ أن عائشة وبعض الصحابيات لطمن على رسول الله صلى الله عليه وآله بعد وفاته كما روي ذلك عن عائشة في مسند الإمام أحمد ، فإنها قالت : مات رسول الله بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله قُبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة ، وقمت ألتدم مع النساء ، وأضرب وجهي .
قال الألباني : وإسناده حسن [إرواء الغليل 7 / 86 ] .
ومعنى : «قمت ألتدم مع النساء» قمت ألطم وجهي .
قال الجوهري في الصحاح : ولَدَمَتِ المرأةُ وجهها : ضربته . . . والْتِدامُ النساء : ضربهُنَّ صدورهن في النِياحة .
وقال ابن منظور في لسان العرب : والتَدَمَ النساءُ : إِذا ضربْنَ وُجوهَهنّ في المآتم ، واللَّدْمُ : الضرْبُ ، والتِدامُ النساء من هذا ، واللَّدْمُ واللّطْمُ واحدٌ ، والالْتِدامُ الاضْطراب ، والْتِدامُ النساء : ضَرْبهُنّ صُدورَهنّ ووجوهَهن في النِّياحة [لسان العرب] .
وقول عائشة : «ألتدم مع النساء» ظاهر في أن بعض النساء الصحابيات كن يلطمن على رسول الله صلى الله عليه وآله؛ لأنه لا يمكن أن يقال : إن نساء الكفار كن يلطمن وجوههن أو صدورهن على رسول الله صلى الله عليه وآله .
وفي حديث آخر أن عمر بن الخطاب قال : أتاني عبد الله بن عمر وأنا في بعض حشوش المدينة ، فقال : إن النبي طلق نساءه ، قال عمر : فدخلت على حفصة وهي قائمة تلتدم ، ونساء النبي قائمات يلتدمن ، فقلت لها : أطلقك النبي ؟ لئن كان طلقك لا أكلمك أبداً ، فانه قد كان طلقك فلم يراجعك إلا من أجلي . . . [كنز العمال] .
وهناك تعليق بسيط على السبب في إحياء الشيعة لذكرى إستشهاد الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) يعود لأمور كثيرة نُشير إلى أهمها بإختصار كالتالي :
· إن الحسين ( عليه السَّلام ) ليس كغيره من الشهداء ، حيث أن منزلته أرفع بكثير عن منزلة سائر الشهداء ، فهو خامس أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً .
· إن الهدف الذي استشهد الحسين ( عليه السَّلام ) من أجله هو نفس الهدف الذي سعى لتحقيقه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) و ضحَّى في سبيله ، فالنبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي غرس شجرة الإسلام و الحسين هو الذي سقى هذه الشجرة بدمه و دماء أنصاره ، فالإسلام محمدي الوجود و حسيني البقاء ـ كما قيل ـ و لولا تضحية الحسين ( عليه السَّلام ) لما بقي من الإسلام شيء ، و لعل قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : حسين مني و أنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ، إشارة إلى ما ذكرنا .
· إن إحياء ذكرى الحسين ( عليه السَّلام ) إنما هو إحياء لقضية الإسلام و الاُمة ، و إحياء لذكرى كل شهيد ، و إنتصار لقضية كل مظلوم .
ثم إن الأهم في هذا المجال هو أن قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) و فعله حجة علينا ، و الرسول ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي علَّمنا إحياء هذه الذكرى الأليمة ، بل تولَّى إحياءها و حَثَّ عليها حتى قبل حدوثها نظراً لأهميتها .
فقد اتفقت كتب الحديث و الرواية سواء كانت من مؤلفات الشيعة أو من مصنفات إخواننا السنة على أن جبرئيل قد أوحى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بنبأ مقتل الامام الشهيد الحسين ( عليه السَّلام ) و مكان استشهاده .
قال العلامة السيد محسن الأمين العاملي
[ إقناع اللائم على إقامة المآتم : 30 ، للعلامة السيد محسن الأمين العاملي ( قدَّس الله نفسه الزَّكية ) ] :
ذكر الشيخ أبو الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي في كتابه " اعلام النبوة " صفحة : 83 طبع مصر فقال :
و من إنذاره ( صلى الله عليه وآله ) ما رواه عروة عن عائشة قالت : " دخل الحسين بن علي ( عليه السَّلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) و هو يوحى اليه ، فبرك عل ظهره و هو منكب و لعب على ظهره .
فقال جبرئيل : يا محمد ، إن أمتك ستفتن بعدك و تقتل ابنك هذا من بعدك ، و مدَّ يده فأتاه بتربة بيضاء ، و قال : في هذه الأرض يقتل ابنك ـ اسمها الطف ـ .
فلما ذهب جبرئيل خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الى أصحابه و التربة في يده ، و فيهم أبو بكر و عمر و علي و حذيفة و عمار و أبو ذر و هو يبكي .
فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله ؟
فقال : أخبرني جبرئيل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، و جاءني بهذه التربة ، فأخبرني أن فيها مضجعه
[ ذُكر هذا الخبر ايضاً بالفاظ مختلفة و بطرق متعددة في المصار التالية : مستدرك الصحيحين 3 : 176 ، 4 : 398 ، مسند أحمد بن حنبل 3 : 242 ، 265 ، و المحب الطبري في ذخائر العقبى 147 ، 148 ، و المتقي الهندي في كنز العمال 6 : 222 ، 223 ، 7 : 106 ، و الصواعق المحرقة : 115 ، و الهيثمي في معجمه 9 : 187 ، 188 ، 189 ، 191 ] .
ثم يضيف السيد محسن العاملي على ذلك بقوله :
أقول : و لا بُدَّ أن يكون الصحابة لما رأوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يبكي لقتل ولده و تربته بيده ، و أخبرهم بما أخبره جبرئيل من قتله ، و أراهم تربته التي جاء بها جبرئيل ، أخذتهم الرقة الشديدة فبكوا لبكائه و واسوه في الحزن على ولده ، فان ذلك مما يبعث على أشد الحزن و البكاء لو كانت هذه الواقعة مع غير النبي ( صلى الله عليه وآله ) و الصحابة ، فكيف بهم معه ؟! فهذا أول مأتم أقيم على الحسين ( عليه السَّلام ) يشبه مآتمنا التي تقام عليه ، و كان الذاكر فيه للمصيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) و المستمعون أصحابه .
و أما بالنسبة إلى اللطم و ضرب الصدور فهي ممارسة تعبِّر عن شدة تأثر الموالين لأهل البيت ( عليهم السلام ) بحادثة الطف الأليمة و نوع من أساليب الإستنكار المستمر للظلم الذي لحق بهذه الصفوة الطيبة من آل الرسول المصطفى ( صلى الله عليه و آله ) .