«ما أنعم الله على عبد بنعمة أفضل بعد الإيمان بالله من العلم بالكتاب ومعرفة تأويله» الرسول الأعظم(ص).
الحضور القرآني
ان الجهد الذي بذله البشري محمد بن عبدالله ابان عزلته المتجددة في جبال مكة هو الذي حقق له نقاء السريرة وصفاء الفكر الذي استنزل الوحي، وحقق قانون الاجتباء والاصطفاء. ان النبوة تعبير عن استنارة الفكر ببروق الوحي، فالقرآن النازل كان في تحققه الأول يتجلى في تلك البروق التي تخطر في قلب محمد بين الفينة والأخرى، ولما بدأ المسلمون يدونونها مستعينين بالدواة والقلم والقرطاس، تحرر القرآن من الصيغة القلبية وحضوره البرقي والشخصي الى الصيغة الخطية على صفحات القراطيس والرقاع والجلود ليكون ملك البشرية كافة. فكانت أبرز سمات ومعالم الحضور القرآني الذي تحقق بالتدوين هي: ...
· كان الحضور متجاوبا مع ما تفوق به الوسط العربي الأول ليصبح ميدان معجزته هو اللغة، التي اظهر فيها الواقع الجاهلي تفوقا، وقد وصف لذلك (ان هذا لا سحر يؤقر))، تعبير عن عجز اولئك المناهضين للرسالة عن مجاراة القرآن في تفوقه المبهر، اذ السحر شيء خارج اطار المعرفة العامة والقدرة المألوفة ...
· اعتمد القرآن من اجل ان يبني وجوده على فن الشعر والنثر التي عرفها العرب فأنتج صيغة لا يمكن ان تعرف بالشعر ولا يمكن ان تسمى نثرا، وكان يكفي ان تسمى قرآنا ليعبر القرآن بذلك عن استحداث توظيف للغة جديد وغير معهود..
· ومن معالم الخطاب ضرب الأمثال: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل)54/18، وهو ما عهده العرب حيث عبرت الأمثال عندهم عن آثار الحكمة آنذاك، فكان ينتجها حكماء العرب، فالقص وضرب الأمثال كانتا من جملة التوظيفات اللغوية، التي شغف العرب وتميزوا بها. وكذلك اعتمد في توظيفاته على أسلوب الملاحن والألغاز كنوع من الشفرة، التي كانت من جملة الممارسات آنذاك، فمن جملة ما يشبه الملاحن والألغاز في القرآن قوله: (والشجرة الملعونة في القرآن)60/17، والتي فسرها الرسول بالأسرة الأموية.
· اعتمد القرآن التأويل، الذي هو منهج تفسير الأحلام الذي اشتغل به الوسط الجاهلي- اعتمده منهجا للاستنباط من خطابه، وصرح خطابه باشتراك المنهج، كما تدل على ذلك المقارنة بين خطاب الآيتين التاليتين: (ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين)44/12، وقوله: (ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)7/3، يضاف إلى ذلك قول الرسول (ص): ((لا يحزن أحدكم أن ترفع عنه الرؤيا، فانه إذا رسخ في العلم رفعت عنه الرؤيا))[1] ، فالراسخ في العلم هي التسمية التي أطلقها القرآن على المؤهل لتأويل الكتاب.
· صمم القرآن خطابه ليكون تحديا قارع العرافين والكهان من يتنبئون بوقائع المستقبل وبما يقع في ظهر الغيب، بتضمنه لعلم ما سيكون**، والذين مثلوا وجه من وجوه القدرة التي ميزت الواقع العربي الأول، فتنبا القرآن في هذا الصدد بحوادث المستقبل ولذلك سمي الرسول بالكاهن، وقال الرسول عن هذه القدرة القرآنية: ((فيه نبأ من بعدكم)). ولذلك نسب الرسول - لاشتغال جانب من خطابه بالمغيبات- إلى الكهانة، كما يشير إلى ذلك القرآن في صيغة نافية: (فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون)29/52.
· وتحدى القصاص الذين يروون التأريخ الاسطوري فروى تاريخ الرسالات فجاء قصه احسن القصص، فعرض القرآن قصص الأنبياء وتاريخ الأمم السالفة بالحق، لتكون أحسن القصص، فقال: (نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)2/12، ومن هذا المنطلق قال الرسول: ((فيه خبر من قبلكم)).
· تحدى الحكماء الذين وجدوا آنذاك، فطرح القرآن نصه باعتباره فصل الخطاب والحكم في المنازعات: (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه)213/2. وقال الرسول في هذا السياق: ((فيه (..) حكم ما بينكم)).
· اعتمد الخط العربي الذي اهمل النقاط في الصيغة المعبرة عن الاعجام والأخرى المعبرة عن الشكل، رغم معرفة الرعب بالتنقيط بصيغتيه المشار لهما، دل على ذلك نص الكتاب، وأحاديث السنة والكشوف الأثرية، (للمزيد راجع كتاب التأويل) ...
· امتازت معجزة الرسول الخاتم عن بقية معجزات الرسل بديمومتها، كتجل أبدي لقدرة الله، تشهده جميع الأجيال اللاحقة لعصر الرسالة الأول. يصفها الإمام علي(ع) الرجل الثاني في الدولة الإسلامية، بالقول: ((تجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا قد رأوه بما أراهم من قدرته))[2] ، بينما بقيت معجزات الأنبياء السابقين، والتي هي أيضا تجليات لقدرة الله، محدودةً في الإطارين الزمني والمكاني. فهي ومضات تاريخية عابرة، اقتصرت معاينتها على المعاصرين لأولئك الأنبياء، وبقيت لمن خلفهم ذكرى فحسب.
وهكذا نلاحظ التحدي الشامل، الذي أوجزه الرسول بعبارته الدالة على اجتماع هذه القدرات الأساسية الثلاث في القرآن، فقال (ص): ((فيه خبر من قبلكم، وحكم ما بينكم، ونبأ من بعدكم))[3] ، فكان في التوظيف القرآني للغة استثمارا غير معهود. يفجر طاقات الخطاب الكامنة ليكشف عن إمكانات مذهلة، استغرقت التاريخ بأحداثه، واستوعبت الحاضر وأدلت بكلمة الفصل في مختلفاته، واستشرفت المستقبل وتنبأت بالمغيبات. في الوقت الذي حسب العرب وتصوروا أنهم قد بلغوا الذروة في استثمارهم للإمكانيات الكامنة في اللغة. فكان تحدي القرآن صادما لأهل القدرة، فأدت الصدمة إلى وضع قدرات الواقع الجاهلي على المحك، وسيطرت حالة من الذهول والانبهار، أصبح العرب منها في هرج ومرج.
كان عجز العرب عن مجاراة القرآن في تحديه، قد أحدث لهم أزمة شاملة على الصعيد السياسي والاجتماعي والفكري. فحاولوا ابتداء تعجيز الرسول بتساؤلاتهم ومطالباتهم له بتحقيق المحال في تصورهم. ولما حقق لهم الكثير مما طلبوا فأفحمهم، وجعل مواقفهم أكثر حراجة، تداركوا الموقف المأزوم بحملة دعائية تتوسل بالتهم الرخيصة والشائعات. فوُصِف الرسول بالساحر، والقرآن بالسحر، وبالشاعر، والقرآن بالشعر، وبالكاهن، والقرآن بسجع الكهان، وبالجنون لمس الجان، والقرآن بأشعار الجان أو الهذيان، وبالمفتري والكاذب، والقرآن بإملاءات أهل الكتاب. في هجوم مضاد يهدف إلى الدفاع عن كيانهم العقائدي، والحفاظ على نظامهم الاجتماعي، وصيانة مكتسبات الملأ السياسية من الانهيار الكارثي. إلا ان مواجهة القرآن في تفوقه المعجز، لم تفسح للمناوئين تسجيل أي انتصار على الرسالة، مهما تعاظمت حملة الشائعات، وكثرت الاتهامات.
وعدم جدوائية هذه المواجهة الدعائية في مردودها، أدت إلى التصعيد في المواجهة، بالاحتكام إلى العنف، وممارسة التعذيب بحق الخارجين عن دين الآباء الوثني؛ وسرعان ما تطورت الأحداث بالهجرة الأولى، ثم الهجرة الثانية، حيث وطدت الرسالة نفسها بتثبيت موطئ قدم لها في يثرب. أعقبتها حرب سجال بين الفريقين، أوقعت ضحايا، وتجللت فيها السيوف والرماح بالدماء المراقة.