عند مدخل مدينة حلب إلى اليمين، وعلى السفح الشرقي المُطلّ على المدينة من الغرب يطالعك جبلُ الجَوشَن، وهو يحتضن مشهد سيّد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليه السّلام، وهو يُشرف على المدينة.
وقد شُيِّد هذا البناء في المكان الذي وُضِع عليه رأسه الشريف في إحدى مراحل نقله إلى يزيد بن معاوية بدمشق.
ولقد تعرَّض كثير من المؤرخين في حديثهم إلى بناء مشهد الإمام الحسين عليه السّلام في أثناء حديثهم عن شيعة حلب أو عن الأمير سيف الدولة فأطنب بعضهم واختصر آخرون في وصف المكان وأهميته الدينية والاجتماعية، وفي الاحتفالات التي كانت تقام فيه. ولعل الشيخ كامل الغِزّي صاحب كتاب « نهر الذهب في تاريخ حلب » هو أكثر المؤرخين دقة وتفصيلاً في تاريخ البناء ووصفه، وفي كل ما له علاقة به، وهو يروي ذلك عن يحيى بن أبي طَي في تاريخه وعن بنائه، يقول:
« وتولّى عمارتَهُ الحاج أبو النصر بن الطبّاخ، وكان ذلك في أيّام الملك الصالح بن الملك العادل نور الدين. وكان الأمير محمود بن الختلو شحنة حلب فساعدهم في بنائه. ولما شرعوا في البناء جاء الحائط قصيراً فلم يَرضَ بذلك الشيخ إبراهيم بن شداد، وعلاّه من ماله الخاص. وتعاضَدَ الناس في البناء، فكان أهلُ كل حرفة يَفرِض على نفسه عملَ يوم. وفَرَضَ أهلُ الأسواق عليهم دراهمَ تُصرَفُ في المؤونة والكُلَف.
وبنى الإيوانَ الذي في صدره الحاج أبو غانم بن سويق من ماله، فجاء قصيراً فهدمه الرئيس صفي الدين طارو ابن علي النابلسي ورفع بناءه، وانتهت عمارته سنة 585 هـ ».
ويستطرد الغزي في عرضه لتاريخ البناء فيقول: « أنفق عليه صلاح الدين الأيّوبيّ عشرة آلاف درهم، وأوقف له الملك الظاهر غازي عقارات بلغت واردتُها ستةَ آلاف درهم. وفوَّض تصريف أموره وإدارة أوقافه إلى نقيب الأشراف الإمام شمس الدين بن أبي عليّ الحسين والقاضي بهاء الدين بن أبي محمد الحسن بن إبراهيم بن الخشّاب.
وفي عهد الملك العزيز محمد ( 613 ـ 634 هـ ) استأذن القاضي بهاء الدين ابن الخشّاب في بناء حرم إلى جانبه، وبيوت يأوي إليها طلبة العلم والمنقطعون للعبادة. وقبل إتمام هذا المشروع دخلت جيوش التتار مدينة حلب سنة 658 هـ، ونهبوا جميع محتويات المشهد من سجّاد وتحف وقناديل من الذهب والفضة، وحطَّموا كذلك أبوابه ونوافذه. وتوقف المشروع بعد ذلك إلى حين.
ولمّا ملك الظاهر بيبرس سنة 660 هـ ـ وكان يُحبّ حلب ـ جدّده ورمَّمه، وأعاد إليه نشاطه الديني والثقافي والاجتماعي. واستمر في أداء رسالته حتّى سنة ( 1302 هـ / 1885 م )، حيث أبدى السلطان عبدالحميد العثماني اهتماماً خاصاً به فجدَّد الجهة الشمالية من القِبلية، وأهدى محرابَه ستاراً حريرياً مزركشاً بآيات قرآنية. وجدَّد ترخيم أرض صحن المشهد، وفرش القبلية بالطنافس، ورتّب له إماماً ومؤذِّناً وخادماً وموظّفِين يقرأون كل يوم أجزاءً شريفةً من القرآن، والنفقة على ذلك كله من حساب أملاك السلطان بحلب. ولكن الإهمال اعترى المكان إثر الانقلاب الدستوري العثماني.
وفي ( 1312 هـ / 1894 م ) عاد الاهتمام به ثانية، فوُضع فيه منبر خشبي جميل، وجرت فيه خطبة الجمعة والعيدين. واستمرّت الشعائر فيه حتّى الحرب العالمية الأولى ( 1914 ـ 1918م )، حيث أُبطلت فيه جميع الشعائر الدينية والاحتفالات بسبب تحويله إلى مستودع للذخيرة من قبل الأتراك الاتحاديين، مما سبَّب له الدمار الشامل عند انسحابهم من حلب يوم الجمعة 20 محرم 1337 هـ / 12 تشرين الأول 1918. ويحدثنا الغزي كذلك عن هذا اليوم فيقول:
« هجم عليه جماعة من رعاع الناس وغوغائهم ونهبوا ما فيه من الذخائر والسلاح. وبينما كان بعض أولئك الغوغاء يعالج قنبلة لاستخراج ما فيها من البارود انفجرت وأتت على البارود المتجمع أمامه، وسَرَت فيه النار بأسرع من لمح البصر إلى غيرها من الأعتدة النارية، فانفجرت جميعها انفجارَ بركانٍ عظيم، أحدَثَ دويّاً هائلاً كهزيم الرعد القاصف اهتزت له المدينة، وتحطم زجاج النوافذ فيها، وتطايرت أحجار البناء الضخمة في الهواء إلى مسافات بعيدة، وسقط بعضها على من فيه من الذعَّار والشطّار فهلكوا عددهم عن آخرهم، ويُقدَّر عددهم بثلاثين إنساناً تقريباً. وبات المكان بعدها مِزقاً محطمة وأطلالاً خاوية ».
لم يكن وجود مشهد الإمام الحسين عليه السّلام بحلب مقتصراً على الاحتفالات الدينية والمناسبات التاريخية، بل كان إلى جانب ذلك مركزَ إشعاع للعلم والمعرفة يقصده الناس لينهلوا من موارد العلم الصافية ما يطفئ تعطشهم إلى العلم والمعرفة، وكان يتردد عليه ويلتقي فيه أكثر من عالم لكلٍّ مقرّه ومحرابه، يتعبد فيه ويلقي دروسه على رواد العلم.