بسم الله الرحمن الرحيم
فعندما كانت مكة في قحط من احتباس المطر، لجأوا إلى أبا طالب، فخرج لهم ومعه غلام صغير وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فألصق أبو طالب ظهر الغلام بالكعبة، ولاذ الغلام بإصبعه إلى السماء.. فأقبل السحاب، وكثر قطره، فأخصب النادي والبادي.
ولما بلغ النبي اثنتي عشرة سنة أخذه أبو طالب معه إلى الشام ليعرفه على عالم وأمم لم يعرف عنها شيئا، وفي هذه السفرة اجتمعا مع الرهبان ومن جملتهم الراهب بحيرا الذي أخبر أبا طالب أن كتبهم أخبرتهم عن نبي عظيم الشأن ودلت على علاماته… وكانت تلك العلامات موجودة بابن أخيه.
ولما بلغ النبي أربع عشرة سنة أحضره عمّه معه في حرب الفجار والتي كانت بين كنانة وقيس وكانت قريش تساعد كنانة.
ولما بلغ النبي الخامسة والعشرين فكّر أبو طالب أن يجعله مستقلاً في الشؤون التي تؤمن مستقبله وكانت في ذلك الوقت خديجة بنت خويلد تاجرة معروفة بصدقها وأمانتها ووجها من وجوه مكة المحبوبة الموثوقة، فجعل أبو طالب علاقة تجارية بينها وبين ابن أخيه ومكنها بينهما.
وظل أبو طالب مع ابن أخيه على تلك التربية لا يترك فرصة من الفرص التي يستفيد منها النبي إلا اغتنمها وبصّره بأحوالها..
خطبة أبو طالب في زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لخطبة خديجة بنت خويلد، حضر معه أعمامه وعلى رأسهم سيدهم أبو طالب فيقول:
"الحمدلله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضِئضئِ معدَّ(الضُّؤضؤ والضِّضئ:الأصل والمعدن)، وعنصر مضر، وجعلنا حضَنةَ بيته، وسُوّاس حرمهِ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً، وحرماً آمناً، وجعلنا حكّام الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يوازن به رجل إلاّ رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً..وإن كان في المال قلّ، فإن المال ظلٌّ زائلٌ، وأمرٌ حائلٌ، وعارية مسترجعة، ومحمدٌ من قد عرفتم قرابته.. وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها ما عاجله وآجله "كذا"…… وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليلٌ جسيم."
والخطبة نلتمس منها ما يُقرّه أبو طالب:
افتتح مقاله بحمد الله الذي جعلهم من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل..فكانوا عنصراً ممتدا للحنيفية البيضاء ولم تدنسهم منهم الوثنية المنحطة.
إشادته بقيمة ابن أخيه المعنويه… فهو الراجح الكفة في ميزان القيم والمعنويات وليس من يدانيه في صفاته ومزاياه.
تأكيد أبو طالب على انتساب النبي إليه "ومحمد من قد عرفتم قرابته".
الإقرار والإيمان بالنبوة والقسم بشأن النبي العظيم "وهو والله … له نبا عظيم".
الارتقاب والإعلان بالخطر الجليل الجسيم وهو الرسالة وهداية محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبشر وختم صفحة النبوة.
يعلن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته بني عبد المطلب دعوته للإسلام.. ويتجه لعمه أبو طالب الذي يعده بنصرة رسالته، ويشجعه ليمضي قُدما:
"أخرج ابن أبي فإنك الرفيع كعباً والمنيع حزباً والأعلى أباً.. والله لا يسلقك لسان إلاّ سلقته ألسن حداد واجتذبته سيوف حداد.. والله لتذلنّ لك العرب ذل البهم لحاضنها".
ولو لم يكن أبو طالب ذلك المؤمن بالدعوة لرأيناه ينهى ابنه عليّاً عن الانصياع لها، إلاّ أنه قال لابنه:
"أما إنه لا يدعوك إلاّ إلى خير، فالزمه".
وذلك حين رآه يصلي خلف الرسول وقد اختفيا حذرا من المشركين.
وإنه ليرى الرسول يصلي مرة أخرى وعليٌّ عليه السلام عن يمينه، فيقع منه النظر على ابنه جعفر ويهتف به:
"صِلْ جناح ابن عمك. فصلِّ عن يساره"
وينطلق بهذه الأبيات:
إن عـليّـاً وجعفـراً ثقـتي
عنـد ملمّ الزمـان والنّـُوب
لا تخـذلا، وانصرا ابن عمكما
أخـي لأمـي من بينهم وأبـي
والله لا أخــذل النـبـي ولا
يخـذله من بـنيَّ ذو حسـب
فهو قسمُ عظيم وفّاه أبو طالب ولم يخذل النبي طوال حياته.
كما يدعو أخيه الحمزة لإظهار دين الله وأن يصبر على المكروه الذي سيلقاه نتيجة هذا الإظهار، ثم يسرّه حمزة بقوله: "إني مؤمن..".
عرفت قريش موقف أبي طالب من الرسالة الجديدة وساءها أن يقف هذا الموقف الجريء الصلب ويشجع الرسول العظيم في بث رسالته والدعوة إليها ويعده بالنصرة والجهاد، ولم تكن نصرته في نطاق ضيق فحسب بل هو نصير الرسالة ذاتها ونصير كل من يعتنقها، فكان يجير المعذبين من المسلمين، ويغضب لذلك غضبة الليث المرعب، فأبو طالب داعية إسلامية يشيد بكل مأثرة يراها لصاحب الرسالة ويدعو الناس لتصديق الرسول تارة، ويشيد بمنزلة الدين واعتناق الدين تارة أخرى.
شـعب أبـو طـالب
لمّا فشلت قريش في محاولاتها مع أبو طالب، أخذوا يؤذونه بإيذاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حينئذ أمر أبو طالب بني هاشم وبني عبد المطلب بأن يدخلوا مع النبي إلى الشعب ليكونوا بعيدين عن تهجمات قريش.
فقررت قرش ضرب نطاقا من الحصار السلمي الاقتصادي على شعب أبي طالب وعلقوا صحيفة على الكعبة بأن يكونوا يداً واحدة على بني هاشم والمطلب لا يهادنونهم ولا يقبلون منهم صلحا ولا يتناكحون وإياهم ولا يبيعون إليهم ولا يبتاعون منهم.
وهنا يتجلّى إيمان أبي طالب فقد أبلى وخديجة البلاء الحسن في تدبير الغذاء والقوت الضروري لمدة ثلاث سنوات إلى أن أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله قد سلط الأرضة على الصحيفة فأكلتها وأرغمت قريش عندها على رفع الحصار وعادت لهم الحياة في مجراها الطبيعي.
فهذه الحادثة أبرز برهان على إيمان أبو طالب وتصديقه برسالة رسول الله بدرجة لا يشوبها شك ولا خوف.
وفـاة أبـو طـالـب
عند احتضار أبو طالب في السنة العاشرة من البعثة النبوية أوصى بوصايا أشرك فيها وجهاء قريش، وهي وصايا لا تصدر إلا عن مؤمن عميق له إحاطة بباطن التشريع وأسراره.
أمرهم بصدق الحديث وأداء الأمانة فهما دليلان على رفعة النفس وطهارة الضمير..
وكل هذه فروض إسلامية جاء بها دين الله الذي اختار لأدائه ابن أخيه وربيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الجامع لكل الخصال التي أوصى بها. فإنهم إن سلكوا مسلكه وأخذوا بهديه كان الرشد إلى جانبهم وكانوا من السعداء:
"لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمدٍ وما اتبعتم أمره، فاتبعوه وأعينوه ترشدوا"
.. ضاقت الدنيا بوجه النبي واعترض نعش عمه حزيناً كئيباً وقال:
"وصلت رحماً وجزيت خيراً يا عم، فلقد ربيت وكفلت صغيراً ونصرت وآزرت كبيراً.. وا أبتاه.. وا طالباه.. وا حزناه عليك يا عمّاه.. كيف أسلو عنك يا من ربيتني صغيراً وحميتني كبيراً وكنت عندك بمنزلة العين من الحدقة والروح من الجسد.."
إنّ من العار على الإسلام والمسلمين أن يكون إسلام أبي طالب موضع جدال أو شك بين المسلمين أنفسهم.. فولا العقيدة والإيمان المتمكنان في قلب أبي طالب لما كفل وحفظ وحمى وضحّى وجاهد في سبيل رفعة دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربعين سنة أو تزيد.